عرض مشاركة واحدة
  #57  
قديم يوم أمس, 03:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,916
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثالث
صـــ 110 الى صـــ 119
(57)






(قال): فإن لم يكن في البيع خيار إلا أن المشتري لم يقبضه حتى مر يوم الفطر فإن قبضه بعد ذلك فصدقته عليه؛ لأنه كان مالكا له وقت الوجوب وقد تقرر ملكه بقبضه وإن أتلف قبل أن يقبضه فلا صدقة على واحد منهما أما البائع فلأنه لم يكن مالكا وقت الوجوب؛ لأن البيع البات يزيل ملكه وأما المشتري فلأن البيع انفسخ من الأصل بهلاك المعقود عليه قبل القبض فينعدم به ملكه من الأصل ووجوب الصدقة بحكم الملك ولم يبقى لملكه حكم حين انفسخ البيع من الأصل وإن لم يمت ورده قبل القبض بعيب أو خيار رؤية فصدقته على البائع ولا شيء على المشتري؛ لأن البيع انفسخ من الأصل بالرد قبل القبض بهذه الأسباب وعاد إلى قديم ملك البائع فكأنه لم يخرج عن ملكه بخلاف الأول فإن انفساخ البيع هناك بعد الهلاك كفوات القبض المستحق بالعقد فلا يظهر حكم ملك البائع في حال قيامه فإن رده بعد القبض بعيب أو خيار رؤية فصدقته على المشتري؛ لأن ملكه وولايته كانت تامة وقت الوجوب لكونه قابضا فوجبت الصدقة عليه ثم لا تسقط عنه بزوال ملكه عن العين كما لا يسقط بهلاكه في يده.
(قال) فإن كان اشتراه شراء فاسدا فمر يوم الفطر قبل أن يقبضه فصدقته على البائع سواء قبضه المشتري بعد ذلك أو لم يقبضه وفسخ البيع؛ لأن البيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه فبقي ملك البائع بعده كما كان قبله واذا قبضه المشتري بعد ذلك فزوال ملك البائع كان مقصورا على الحال؛ لأن السبب إنما تم الآن، والموهوب في هذا نظير المشترى
شراء فاسدا
(قال): فإن مر يوم الفطر، وهو مقبوض فإن أعتقه المشتري فصدقته عليه؛ لأنه كان مالكا وقت الوجوب، وتقرر ملكه بتعذر فسخ البيع، وإن رده فصدقته على البائع؛ لأنه عاد إلى قديم ملكه فإن المشتري، وإن كان قابضا مالكا وقت الوجوب ولكن يده وملكه مستحق الرفع عنها شرعا فإذا رفع صار كأن لم يكن بخلاف الرد بالعيب وخيار الرؤية فإنه غير مستحق الرفع عليه ولكنه يرفعه باختياره.
(قال): واذا عجز المكاتب فليس على المولى فيه زكاة السنين الماضية لفطر ولا تجارة أما زكاة الفطر؛ فلأن السبب رأس يمونه بولايته عليه، وذلك لم يكن موجودا فيما مضى، وأما زكاة التجارة؛ فلأنه ما كان متمكنا من التصرف فيه بل كان كالخارج من ملكه وكذلك إذا كان العبد آبقا فوجده؛ لأنه كان تاويا في السنين الماضية فليس عليه عنه زكاة فطر ولا التجارة، وكذلك إن كان مغصوبا مجحودا أو مأسورا؛ لأن ملكه في حكم التاوي ويده مقصورة عنه.
(قال): وإذا عجز المكاتب وقد كان قبل الكتابة للتجارة لم يعد إلى مال التجارة؛ لأن بعقد الكتابة صار فاسخا لنية التجارة فيه فإنه أخرجه من أن يكون محلا لتصرفاته فلا يصير للتجارة بعد ذلك إلا بفعل هو تجارة، وعليه زكاة الفطر عنه إذا مر يوم الفطر؛ لأن المملوك في الأصل للخدمة حتى يجعله للتجارة بخلاف ما إذا أذن لعبده في التجارة ثم حجر عليه، وقد كان اشتراه للتجارة؛ لأنه ما صار فاسخا لنية التجارة فيه فإنه بالإذن لم يخرجه من أن يكون محلا لتصرفاته.
(قال): واذا لم يخرج الرجل صدقة الفطر فعليه إخراجها، وإن طالت المدة إلا على قول الحسن بن زياد فإنه يقول: تسقط بمضي يوم الفطر؛ لأنها قربة اختصت بأحد يومي العيد فكانت قياس الأضحية تسقط بمضي أيام النحر.
(ولنا) أن هذه صدقة مالية فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كزكاة المال، ولا نقول: الأضحية تسقط بل ينتقل الواجب إلى التصدق بالقيمة؛ لأن إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص فأما التصدق بالمال قربة في كل وقت.
ولم يذكر في الكتاب جواز التعجيل في صدقة الفطر إلا في بعض النسخ فإنه قال: لو أدى قبل يوم الفطر بيوم أو بيومين جاز والصحيح من المذهب عندنا أن تعجيله جائز لسنة ولسنتين؛ لأن السبب متقرر، وهو الرأس فهو نظير تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب وعلى قول الحسن بن زياد لا يجوز تعجيله أصلا كالأضحية، وكان خلف بن أيوب يقول: يجوز تعجيله بعد دخول شهر رمضان لا قبله؛ لأنه صدقة الفطر ولا فطر قبل الشروع في الصوم، وكان نوح بن أبي مريم يقول: يجوز
تعجيله في النصف الأخير من رمضان، ومنهم من قال: في العشر الأواخر منه.
(قال): ويجوز أن يدفع صدقة الفطر إلى أهل الذمة وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجوز وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ثلاث روايات في رواية قال: كل صدقة مذكورة في القرآن لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذه الرواية يجوز دفع صدقة الفطر إليهم، وفي رواية قال: كل صدقة واجبة بإيجاب الشرع ابتداء من غير سبب من العبد لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذا لا يجوز دفع صدقة الفطر إليهم، ويجوز دفع الكفارات والنذور إليهم وفي رواية قال: كل صدقة هي واجبة لا يجوز دفعها إليهم فعلى هذا لا يجوز دفع الكفارات وإنما يجوز دفع التطوعات والشافعي - رحمه الله تعالى - يقيس هذا بزكاة المال بعلة أنها صدقة واجبة فإن الصدقة المالية صلة واجبة للمحاويج المناسبين له في الملة فلا يملك صرفها إلى غيرهم والمقصود منه أن يتقوى به على الطاعة، ويتفرغ عن السؤال لإقامة صلاة العيد، ولا يحصل هذا المقصود بالصرف إلى أهل الذمة كما لا يحصل بالصرف إلي المستأمنين فكما لا يجوز صرفها إليهم فكذلك إلى أهل الذمة.
(ولنا) أن المقصود سد خلة المحتاج، ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة فإن التصدق عليهم قربة بدليل التطوعات؛ لأنا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} [الممتحنة: 8] الآية بخلاف المستأمن فإنه مقاتل وقد نهينا عن المبرة مع من يقاتلنا قال الله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين} [الممتحنة: 9] الآية، والقياس أن يجوز صرف الزكاة إليهم إنما تركنا القياس فيه بالنص، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» والمراد به الزكاة لا صدقة الفطر والكفارات إذ ليس للساعي فيها ولاية الأخذ فبقي على أصل القياس.
(قال): وفقراء المسلمين أحب إلي؛ لأنه أبعد عن الخلاف؛ ولأنهم يتقوون بها على الطاعة وعبادة الرحمن، والذمي يتقوى بها على عبادة الشيطان.
(قال): واذا كان للرجل دار وخادم ولا مال له غير ذلك فليس عليه صدقة الفطر؛ لأنه يحل له أخذ الصدقة؛ ولأنه محتاج فإن الدار تسترم والخادم يستنفق ولا بد له منهما فهما يزيدان في حاجته ولا يغنيانه وقد بينا أن الصدقة لا تجب إلا على الغني؛ لأن وجوبها للإغناء كما قال: أغنوهم ولا يخاطب بالإغناء من ليس يغني في نفسه.
(قال): وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة فتعلقت رقبته بالدين ومولاه موسر فعليه صدقة الفطر؛ لأنه يمونه بولايته عليه وبسبب الدين تستحق ماليته ومالية من يؤدي عنه
صدقة الفطر غير معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة؛ لأن شغله بنوع من خدمته وهذا بخلاف ما إذا كان الدين المستغرق على المولى فإنه لا يلزمه صدقة الفطر؛ لأن الدين عليه ينفي غناه ولا صدقة إلا على الغني.
(قال): فإن اشترى العبد المأذون له عبيدا فليس على المولى عنهم صدقة الفطر؛ لأنه إنما اشتراهم للتجارة، وفي الأمالي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - إن كان اشتراهم للخدمة فإن أذن له المولى في ذلك فإن لم يكن على المأذون دين فعلى المولى صدقة الفطر عنهم؛ لأنه مالك لرقابهم وإن كان على العبد دين مستغرق لكسبه ورقبته فعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - لا تجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء على أصله أنه لا يملك رقابهم وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء على أصلهما أن دين العبد لا يمنع ملك المولى في كسبه كما لا يمنع ملكه في رقبته.
(قال): وزكاة الفطر في العبد الموصى بخدمته على مالك الرقبة وارثا كان أو موصى له؛ لأنه تقرر السبب في حقه فأما الموصى له بالخدمة فحقه في المنفعة لا في الرقبة وكذلك العبد المستعار والمؤاجر تجب الصدقة على المالك دون المستعير والمستأجر، وكذلك عبد الوديعة تجب الصدقة عنه على المودع فإن يد المودع كيده وكذلك إن كان في عنقه جناية عمدا أو خطأ؛ لأن ملكه وولايته لا يزول بهذا السبب وكذلك العبد المرهون تجب الصدقة عنه على الراهن إذا كان عنده وفاء بالدين وفضل مائتي درهم؛ لأن الرهن لا يزيل ملك الرقبة ولا يوجب فيها حقا للمرتهن إنما حق المرتهن في المالية، وذلك غير معتبر لإيجاب الصدقة وفي الإملاء عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ليس على الراهن أن يؤدي الصدقة عنه حتى يفكه فإذا فكه أعطاها لما مضى، وإن هلك قبل أن يفكه فلا صدقة عنه على الراهن وجعله كالبيع بشرط الخيار.
بقي الكلام في بيان القدر الواجب من الصدقة وذلك من البر نصف صاع في قول علمائنا وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - صاع واستدل بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - فإنه ذكر فيه صاعا من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير والتقدير بنصف صاع شيء أحدثه معاوية برأيه على ما قاله أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام حتى قدم معاوية من الشام فقال: لا أرى إلا مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من طعامكم هذا وأكثر ما في الباب أن الآثار فيه قد اختلفت والأخذ بالاحتياط في باب العبادات واجب والاحتياط في إتمام الصاع وقاسه بالشعير والتمر لعلة
أنه أحد الأنواع التي تتأدى بها صدقة الفطر.
(ولنا) حديث عبد الله بن ثعلبة بن صغير كما روينا في أول الباب وفي حديث آخر قال: - صلى الله عليه وسلم - «وعن كل اثنين صاعا من بر» فالذي روى الصاع كأنه سمع آخر الحديث لا أوله وهو قوله «وعن كل اثنين» والتقدير من البر بنصف صاع مذهب أبي بكر وعمر وعلي وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - حتى قال أبو الحسن الكرخي: إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه لا يجوز أداء نصف صاع من بر وبهذا يندفع دعواه أنه رأي معاوية ونقيسه على كفارة الأذى لعلة أنها وظيفة المسكين ليوم وفي كفارة الأذى نص فإن «كعب بن عجرة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما الصدقة فقال: ثلاثة آصع على ستة مساكين».
وليس البر نظير التمر والشعير فإن التمر والشعير يشتمل على ما ليس بمأكول، وهو النوى والنخالة وعلى ما هو مأكول فأما البر مأكول كله فإن الفقير يمكنه أكل دقيق الحنطة بنخالته بخلاف الشعير، وقد بينا تفسير الصاع فيما تقدم وإنما يعتبر نصف صاع من بر وزنا هكذا رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - وقال ابن رستم: عن محمد رحمهما الله تعالى كيلا حتى قال: قلت: له لو وزن الرجل منوين من الحنطة وأعطاهما الفقير هل تجوز من صدقته؟ فقال: لا فقد تكون الحنطة ثقيلة الوزن، وقد تكون خفيفة فإنما يعتبر نصف الصاع كيلا وجه قوله أن الآثار جاءت بالتقدير بالصاع، وهو اسم للمكيال، ووجه الرواية الأخرى أن العلماء حين اختلفوا في مقدار الصاع أنه ثمانية أرطال أو خمسة أرطال وثلث فقد اتفقوا على التقدير بما يعدل بالوزن فإنما يقع عليه كيل الرطل فهو وزنه.
(قال): ودقيق الحنطة كالحنطة ودقيق الشعير كعينه عندنا وعند الشافعي لا يجوز الأداء من الدقيق بناء على أصله أن في الصدقات يعتبر عين المنصوص عليه.
(ولنا) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أدوا قبل خروجكم زكاة فطركم فإن على كل مسلم مدين من قمح أو دقيقه»؛ ولأن المقصود سد خلة المحتاج وإغناؤه عن السؤال كما قال صاحب الشرع وحصول هذا بأداء الدقيق أظهر؛ لأنه أعجل لوصول منفعته إليه، وعلى هذا روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - قال: أداء الدقيق من أداء الحنطة وأداء الدرهم أفضل من أداء الدقيق؛ لأنه أعجل لمنفعته.
وأما من الزبيب يتقدر الواجب بنصف صاع عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ذكره في الجامع الصغير وعلى قول أبي يوسف ومحمد يتقدر بصاع، وهو
رواية أسد بن عمرو والحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى ووجهه أن الزبيب نظير التمر فإنهما يتقاربان في المقصود والقيمة فكما يتقدر من التمر بصاع فكذلك من الزبيب وقد روي في بعض الآثار «أو صاعا من زبيب» وجه قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن الزبيب نظير البر فإنه مأكول فكما يتقدر من البر بنصف صاع لهذا المعنى فكذلك من الزبيب والأثر فيه شاذ وبمثله لا يثبت التقدير فيما تعم به البلوى، ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته؛ لأنه لو كان صحيحا لاشتهر لعلمهم به.
وإن أراد الأداء من سائر الحبوب أعطى باعتبار القيمة وقد بينا جواز أداء القيمة عندنا، وهذا؛ لأنه ليس في سائر الحبوب نص على التقدير فالتقدير بالرأي لا يكون وكذا من الأقط يؤدي باعتبار القيمة عندنا، وقال مالك - رضي الله عنه: يتقدر من الأقط بصاع وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - في كتابه لا أحب له الأداء من الأقط وإن أدى فلم يتبين لي وجوب الإعادة عليه وهذا الحديث روي «أو صاعا من أقط» وبه أخذ مالك - رحمه الله تعالى - وقال الأقط: كان قوتا لأهل البادية في ذلك الوقت كما أن الشعير والتمر كانا قوتا في أهل البلاد وأصحابنا قالوا: الحديث شاذ لم ينقل في الآثار المشهورة وبمثله لا يجوز إثبات التقدير فيما تعم به البلوى فيبقى الاعتبار بالقيمة فإن كانت قيمته قيمة نصف صاع من بر أو صاع من شعير جاز وإلا فلا والحاصل أن فيما هو منصوص لا تعتبر القيمة حتى لو أدى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من بر لا يجوز؛ لأن في اعتبار القيمة هنا إبطال التقدير المنصوص في المؤدى، وذلك لا يجوز فأما ما ليس بمنصوص عليه فإنه ملحق بالمنصوص باعتبار القيمة إذ ليس فيه إبطال التقدير المنصوص وسويق الحنطة كدقيقها؛ لأن التقدير منه نصف صاع لما بينا في الدقيق، والله تعالى أعلم بالصواب.
[باب الاعتكاف]
الاعتكاف قربة مشروعة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] فالإضافة إلى المساجد المختصة بالقرب وترك الوطء المباح لأجله دليل على أنه قربة والسنة حديث أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى» وقال الزهري: عجبا من الناس كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
يفعل الشيء ويتركه وما ترك الاعتكاف حتى قبض وفي الاعتكاف تفريغ القلب عن أمور الدنيا وتسليم النفس إلى بارئها والتحصن بحصن حصين وملازمة بيت الله تعالى (قال) عطاء مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه، ويقول: لا أبرح حتى تقضي حاجتي والمعتكف يجلس في بيت الله تعالى، ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي فهو أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص ثم جوازه يختص بمساجد الجماعات وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال: كل مسجد له إمام ومؤذن معلوم وتصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة فإنه يعتكف فيه وكان سعيد بن المسيب يقول: لا اعتكاف إلا في مسجدين مسجد المدينة والمسجد الحرام ومن العلماء من قال: لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد، وضموا إلى هذين المسجدين المسجد الأقصى لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد إيلياء» يعني مسجد بيت المقدس والدليل على الجواز في سائر المساجد قوله تعالى {وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] فعم المساجد في الذكر واختلفت الروايات عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - فروى أن حذيفة قال لابن مسعود عجبا من قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى وأنت لا تمنعهم فقال ابن مسعود ربما حفظوا ونسيت وأصابوا وأخطأت كل مسجد جماعة يعتكف فيه، وروي أن ابن مسعود مر بقوم معتكفين فقال: لحذيفة وهل يكون الاعتكاف إلا في المسجد الحرام؟ فقال حذيفة: - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه» وفي الكتاب ذكر عن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة هذا بيان حكم الجواز فأما الأفضل فالاعتكاف في المسجد الحرام أفضل منه في سائر المساجد وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه كان يكره الجوار بمكة ويقول: إنها ليست بدار هجرة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر منها إلى المدينة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا بأس بذلك، وهو أفضل وعليه عمل الناس اليوم.
ثم الاعتكاف غير واجب بإيجاب الشرع ابتداء إلا أن يوجبه العبد بنذره فيلزمه لحديث «عمر - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أعتكف يوما في الجاهلية أو قال: ليلة أو قال: يومين فقال: أوف بنذرك».
ومن شرط الاعتكاف الواجب الصوم عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - ليس بشرط ومذهبنا مروي عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما
قالا: لا اعتكاف إلا بصوم ومذهبه مروي عن ابن مسعود وعن علي فيه روايتان إحدى الروايتين مثل قولنا والثاني ما روي عنه قال: ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجب ذلك على نفسه فالشافعي - رحمه الله تعالى - استدل بهذا وبحديث «عمر - رضي الله عنه - في سؤاله إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء بالنذر» والليل لا يصام فيه؛ ولأن ابتداء الاعتكاف من وقت غروب الشمس في حق من نذر أن يعتكف شهرا وما يكون شرط العبادة شرط اقترانه بأوله كالطهارة للصلاة، وكذلك الاعتكاف بدوام الليل والنهار ولا صوم بالليل فتبين بهذا أنه ليس شرط الاعتكاف ولا هو ركنه؛ لأن الصوم أحد أركان الدين والاعتكاف نفل زائد فلا يكون الأقوى ركنا للأضعف بل هو زائد في معنى القربة على ما يتم به الاعتكاف فيلزمه التنصيص عليه كالتتابع في الصوم والقران في الحج.
(ولنا) «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اعتكف إلا صائما» والأفعال المتفقة في الأوقات المختلفة لا تجري على نمط واحد إلا لداع يدعو إليه وليس ذلك إلا بيان أنه من شرائط الاعتكاف والمعنى فيه أنه لو قال: لله علي أن أعتكف صائما يلزمه الجمع بينهما، وبقوله صائما، ولا يصح أن يجعل نصبا على المصدر كما يقال ضربته وجيعا أي ضربا وجيعا فإنه حينئذ يصير كأنه قال: أعتكف اعتكافا صائما والصوم لا يكون صفة للاعتكاف فالاعتكاف لبث في مقام لتعظيم ذلك المقام والصوم كف النفس عن اقتضاء الشهوات إتعابا للبدن فكيف يكون صفة للاعتكاف فعرفنا أنه نصب على الحال كما يقال: دخل الدار راكبا والحال خلو عن الإيجاب؛ لأنه صفة الموجب لا الواجب، ومع ذلك يلزمه الجمع بينهما فعرفنا أنه إنما لزمه؛ لأنه شرط الاعتكاف كمن يقول: أصلي طاهرا وشرط الشيء يتبعه فيثبت بثبوته سواء ذكر أو لم يذكر بخلاف قوله أصوم متتابعا فإنه نصب على المصدر؛ لأن التتابع صفة الصوم وبخلاف قوله أصلي قائما فإنه ينصب قائما على المصدر يقال: صلاة قائمة وبخلاف قوله أحج قارنا فإن العمرة بالانضمام إلى الحج يزداد فيها معنى القربة ولهذا لزمه دم القران، وهو دم نسك وعن كلامه جوابان: أحدهما: أن الصوم شرط الاعتكاف والشرائط إنما تثبت بحسب الإمكان ولا يمكن اشتراط الصوم ليلا فسقط للتعذر، وجعل الليل تبعا للأيام كما أن الشرب والطريق يجعل تبعا في بيع الأرض، والثاني أن شرط الاعتكاف أن يكون مؤدى في وقت الصوم وبوجود الصوم في النهار يتصف جميع الشهر بأنه وقت الصوم ودليله شهر رمضان
فصار الشرط به موجودا كما أن من شرط الصلاة أن يقوم إليها طاهرا، وذلك يحصل في جميع البدن بغسل الأعضاء الأربعة وحديث عمر - رضي الله عنه - دليلنا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «اعتكف وصم» وبلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبين أن الصحيح من الرواية إني نذرت أن أعتكف يوما.
فأما التطوع من الاعتكاف في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا يكون إلا بصوم ولا يكون أقل من يوم فجعل الصوم للاعتكاف كالطهارة للصلاة وفي ظاهر الرواية يجوز التنفل بالاعتكاف من غير صوم فإنه قال في الكتاب: إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج وهذا؛ لأن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى تجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول والواجب لا يجوز تركه.
(قال): ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لجمعة أو غائط أو بول أما الخروج للبول والغائط فلحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان»؛ ولأن هذه الحاجة معلوم وقوعها في زمان الاعتكاف، ولا يمكن قضاؤها في المسجد فالخروج لأجلها صار مستثنى بطريق العادة وكان مالك - رحمه الله تعالى - يقول: إذا خرج لحاجة الإنسان لا ينبغي أن يدخل تحت سقف فإن آواه سقف غير سقف المسجد فسد اعتكافه، وهذا ليس بشيء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يدخل حجرته إذا خرج لحاجة» وإذا خرج للحاجة لم يمكث في منزله بعد الفراغ من الطهر؛ لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدرها وأما إذا خرج للجمعة فلا يفسد اعتكافه عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - يفسد اعتكافه فإن كان اعتكافه دون سبعة أيام اعتكف في أي مسجد شاء، وإن كان سبعة أيام أو أكثر اعتكف في المسجد الجامع قال: لأن ركن الاعتكاف هو المقام والخروج ضده فيكون مفسدا له إلا بقدر ما تحققت الضرورة فيه، ولا ضرورة في الخروج للجمعة؛ لأنه يمكنه أن يعتكف في الجامع فلا يحتاج إلى هذا الخروج فهو، والخروج لعيادة المريض وتشييع الجنائز سواء.
(ولنا) أن الخروج للجمعة معلوم وقوعه في زمان الاعتكاف فصار مستثنى من نذره كالخروج للحاجة والخروج لعيادة المريض ليس بمعلوم وقوعه في زمان الاعتكاف لا محالة وهذا؛ لأن الناذر يقصد التزام القربة لا المعصية والتخلف عن الجمعة معصية فيعلم يقينا
أنه لم يقصده بنذره فإذا اعتكف في الجامع كان خروجه أكثر؛ لأنه يحتاج في الخروج لحاجة الإنسان إلى الرجوع إلى بيته واذا كان بيته بعيدا عن الجامع يزداد خروجه إذا اعتكف في الجامع على ما إذا اعتكف في مسجد حيه فإذا أراد الخروج للجمعة قال في الكتاب: يخرج حين تزول الشمس فيصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا أو ستا قالوا: هذا إذا كان معتكفه قريبا من الجامع بحيث لو انتظر زوال الشمس لا تفوته الخطبة ولا الجمعة فإذا كان بحيث تفوته لم ينتظر زوال الشمس، ولكنه يخرج في وقت يمكنه أن يأتي الجامع فيصلي أربع ركعات قبل الأذان عند المنبر، وفي رواية الحسن ست ركعات ركعتان تحية المسجد وأربع سنة وكذلك بعد الجمعة يمكث مقدار ما يصلي أربع ركعات أوستا بحسب اختلافهم في سنة الجمعة، ولا يمكث أكثر من ذلك؛ لأن الخروج للحاجة والسنن تبع للفرائض ولا حاجة بعد الفراغ من السنة فإن مكث أكثر من ذلك لم يضره، ذكره ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى قال: ألا ترى أنه لو بدا له أن يتم اعتكافه في الجامع جاز وهذا؛ لأن المفسد للاعتكاف الخروج من المسجد لا المكث في المسجد إلا أنه لا يستحب له ذلك؛ لأنه التزم أداء الاعتكاف في مسجد واحد فلا ينبغي له أن يتمه في مسجدين.
(قال): ولا يعود المعتكف مريضا ولا يشهد جنازة إلا على قول الحسن البصري فإنه يروي حديثا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يعود المعتكف المريض ويشهد الجنازة».
(ولنا) حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان في اعتكافه إذا خرج لحاجة الإنسان يمر بالمريض فيسأل عنه ولا يعرج عليه»؛ ولأن هذا لم يكن معلوما وقوعه في مدة اعتكافه فالخروج لأجله لم يكن مستثنى كالخروج لتلقي الحاج وتشييعهم.
وما كان من أكل أو شرب فإنه يكون في معتكفه إذ لا ضرورة في الخروج لأجله فإن هذه الحاجة يمكن قضاؤها في معتكفه.
(قال): وإذا مرض المعتكف في اعتكاف واجب فإن أفطر يوما استقبل الاعتكاف؛ لأن من شرط الاعتكاف الصوم وقد فات والعبادة لا تبقى بدون شروطها كما لا تبقى بدون ركنها (قال) : وإذا خرج من المسجد يوما أو أكثر من نصف يوم فكذلك الجواب؛ لأن ركن الاعتكاف قد فات فأما إذا خرج ساعة من المسجد فعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يفسد اعتكافه، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يفسد ما لم يخرج أكثر من نصف يوم، وقول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أقيس وقولهما أوسع قالا: اليسير من الخروج عفو لدفع الحاجة
فإنه إذا خرج لحاجة الإنسان لا يؤمر بأن يسرع المشي، وله أن يمشي على التؤدة فظهر أن القليل من الخروج عفو والكثير ليس بعفو فجعلنا الحد الفاصل أكثر من نصف يوم فإن الأقل تابع للأكثر فإذا كان في أكثر اليوم في المسجد جعل كأنه في جميع اليوم في المسجد كما قلنا في نية الصوم في رمضان إذا وجدت في أكثر اليوم جعل كوجودها في جميع اليوم وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: ركن الاعتكاف هو المقام في المسجد والخروج ضده فيكون مفوتا ركن العبادة، والقليل والكثير في هذا سواء كالأكل في الصوم والحدث في الطهارة.
(قال): ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة الرجال والنساء فيه سواء قال: لأن مسجد البيت ليس له حكم المسجد بدليل جواز بيعه والنوم فيه للجنب والحائض، وهذا؛ لأن المقصود تعظيم البقعة فيختص ببقعة معظمه شرعا، وذلك لا يوجد في مساجد البيوت.
(ولنا) أن موضع أداء الاعتكاف في حقها الموضع الذي تكون صلاتها فيه أفضل كما في حق الرجال وصلاتها في مسجد بيتها أفضل فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما «سئل عن أفضل صلاة المرأة فقال: في أشد مكان من بيتها ظلمة» وفي الحديث أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الاعتكاف أمر بقبة فضربت في المسجد فلما دخل المسجد رأى قبابا مضروبة فقال: لمن هذه فقيل لعائشة وحفصة فغضب وقال: آلبر يردن بهن وفي رواية يردن بهذا، وأمر بقبته فنقضت فلم يعتكف في ذلك العشر» فإذا كره لهن الاعتكاف في المسجد مع أنهن كن يخرجن إلى الجماعة في ذلك الوقت؛ فلأن يمنعن في زماننا أولى، وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها إذا اعتكفت في مسجد الجماعة جاز ذلك، واعتكافها في مسجد بيتها أفضل، وهذا هو الصحيح؛ لأن مسجد الجماعة يدخله كل أحد، وهي طول النهار لا تقدر أن تكون مستترة ويخاف عليها الفتنة من الفسقة فالمنع لهذا، وهو ليس لمعنى راجع إلى عين الاعتكاف فلا يمنع جواز الاعتكاف وإذا اعتكفت في مسجد بيتها فتلك البقعة في حقها كمسجد الجماعة في حق الرجل لا تخرج منها إلا لحاجة الإنسان فإذا حاضت خرجت ولا يلزمها به الاستقبال إذا كان اعتكافها شهرا أو أكثر ولكنها تصل قضاء أيام الحيض لحين طهرها وقد بينا هذا في الصوم المتتابع في حقها. ومسجد بيتها الموضع الذي تصلي فيه الصلوات الخمس من بيتها.
(قال): وإذا قال الرجل: لله علي أن أعتكف شهرا فعليه اعتكاف شهر متتابع في قول علمائنا
وقال زفر - رحمه الله تعالى - هو بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق قال: لأن الاعتكاف فرع عن الصوم فإن ما لا أصل له في الفرائض لا يصح التزامه بالنذر ولا أصل للاعتكاف في الفرائض سوى الصوم ثم التتابع في الصوم لا يجب بمطلق النذر فكذلك في الاعتكاف والدليل على التسوية أن تعيين الوقت إليه، ولا يتعين لأدائه الشهر الذي يعقب نذره فيهما بخلاف الأيمان والآجال والإجارات فإنه يتعين لها الشهر الذي يعقب السبب.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]