
اليوم, 03:28 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,895
الدولة :
|
|
رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي

الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثالث
صـــ 90 الى صـــ 99
(55)
(ولنا) حديث أنس - رضي الله عنه - قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال» وتوارث أهل المدينة ليس بقوي فقد قال مالك - رحمه الله تعالى - فقيههم: صاع أهل المدينة تحري عبد الملك بن مروان على صاع رسول الله. - صلى الله عليه وسلم - فإذا آل الأمر إلى التحري فتحري عمر - رضي الله عنه - أولى بالمصير إليه، والقفيز الحجاجي صاع عمر - رضي الله عنه - حتى كان الحجاج يمن به على أهل العراق ويقول: ألم أخرج لكم صاع عمر - رضي الله تعالى عنه -.
(قال): إبراهيم النخعي - رحمه الله - كان صاع عمر حجاجيا ثم قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعان مختلفان منها للنفقات ومنها للصدقات فما روي أنه كان خمسة أرطال وثلث محمول على صاع النفقات.
(قال): وإن صح بعد رمضان عشرة أيام ثم مات فعليه قضاء العشرة الأيام التي صح فيها؛ لأنه بقدرها أدرك عدة من أيام أخر والبعض معتبر بالكل، وذكر الطحاوي أنه على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يلزمه قضاء جميع الشهر، وإن صح يوما واحدا وعلى قول محمد - رحمه الله تعالى - يلزمه القضاء بقدر ما صح، وهذا وهم من الطحاوي فإن هذا الخلاف في النذر إذا نذر المريض صوم شهر ثم برأ يوما ولم يصم فهو على هذا الخلاف
فأما قضاء رمضان فلا خلاف بينهم والفرق لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن هناك السبب الموجب هو النذر إلا أنه ليس للمريض ذمة صحيحة في التزام أداء الصوم حتى يبرأ فعند البرء يصير كالمجدد للنذر والصحيح إذا قال لله علي أن أصوم شهرا ثم مات بعد يوم فعليه قضاء جميع الشهر وهنا السبب الموجب للأداء إدراك عدة من أيام أخر فلا يلزمه القضاء إلا بقدر ما أدرك والمسافر في جميع هذه الوجوه بمنزلة المريض
(قال): مسافر أصبح صائما ثم قدم المصر فأفتي بأن صيامه لا يجزئه وأنه عاص فأفطر فعليه القضاء ولا كفارة عليه، والكلام في هذه المسألة في فصول:
أحدها: أن أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء، وهو قول أكثر الصحابة وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز، وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - يستدلون بقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] فصار هذا الوقت في حقه كالشهر في حق المقيم فلا يجوز الأداء قبله وقال - صلى الله عليه وسلم - «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وقال: ليس من البر الصيام في السفر» وفي رواية «ليس من امبر امصيام في امسفر».
(ولنا) قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] ، وهذا يعم المسافر والمقيم ثم قوله ومن كان مريضا أو على سفر لبيان الترخص بالفطر فينتفي به وجوب الأداء لا جوازه وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - «أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله: إني أسافر في رمضان أفأصوم فقال - صلى الله عليه وسلم: صم إن شئت» وفي حديث «أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر لا يعيب البعض على البعض» وتأويل حديثهم إذا كان يجهده الصوم حتى يخاف عليه الهلاك على ما روى «أنه مر برجل مغشي عليه قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فسأل عن حاله فقيل إنه صائم فقال - صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر» يعنى لمن هذا حاله.
والثاني أن المسافرة في رمضان لا بأس بها وعلى قول أصحاب الظواهر يستديم السفر في رمضان ولا ينشئه والدليل على جواز المسافرة حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة إلى مكة لليلتين خلتا من رمضان فصام حتى أتى قديدا فشكا الناس إليه فأفطر ثم لم يزل مفطرا حتى دخل مكة» فإن سافرت في رمضان فقد سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن صمت فقد صام، وإن أفطرت فقد أفطر وكل ذلك واسع.
والثالث إذا أنشأ السفر في رمضان فله أن يترخص بالفطر وكان علي وابن عباس كانا يقولان ذلك لمن أهل الهلال
وهو مسافر فأما من أنشأ السفر في رمضان فليس له أن يفطر والحديث الذي روينا حجة فقد أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين شكا الناس إليه ولا يقال لما أهل الهلال، وهو مقيم فقد لزمه أداء صوم الشهر فلا يسقط ذلك عنه بسفر ينشئه باختياره كاليوم الذي يسافر فيه؛ لأنا نقول: صوم الشهر عبادات متفرقة وإنما يلزمه الأداء باعتبار اليوم الذي كان مقيما في شيء منه دون اليوم الذي كان مسافرا في جميعه قياسا على الصلوات.
والرابع أن الصوم في السفر أفضل من الفطر عندنا. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: الفطر أفضل؛ لأن ظاهر ما روينا من الآثار يدل على أن الصوم في السفر لا يجوز فإن ترك هذا الظاهر في حق الجواز بقي معتبرا في أن الفطر أفضل وقاس بالصلاة فإن الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك الصوم؛ لأن السفر يؤثر فيهما قال: - صلى الله عليه وسلم - «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم».
(ولنا) ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «في المسافر يترخص بالفطر، وإن صام فهو أفضل له، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصوم حتى شكا الناس إليه ثم أفطر» فذلك دليل على أن الصوم أفضل ثم الفطر رخصة، وأداء الصوم عزيمة والتمسك بالعزيمة أولى من الترخص بالرخصة، وهذا؛ لأن الرخصة لدفع الحرج عنه، وربما يكون الحرج في حقه في الفطر أكثر فإنه يحتاج إلى القضاء وحده، والصوم مع الجماعة في السفر يكون أخف من الفطر، والقضاء وحده في يوم جميع الناس فيه مفطرون بخلاف الصلاة فإن شطر الصلاة سقط عنه أصلا حتى لا يلزمه القضاء فإن الظهر في حقه كالفجر في حق المقيم إذا عرفنا هذا فنقول: إذا قدم المصر فأفتي أن صومه لا يجزيه تصير هذه الفتوى شبهة في إسقاط الكفارة وكذا كونه مسافرا في أول النهار يصير شبهة في آخره والكفارة تسقط بالشبهة
(قال): ولا بأس بقضاء رمضان في أيام العشر يريد به تسعة أيام من أول ذي الحجة، وهو قول عمر - رضي الله تعالى عنه - وكان علي - رضي الله عنه - يقول: لا يجوز لحديث روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنه نهى عن قضاء رمضان في أيام العشر» ونحن أخذنا بقول عمر - رضي الله تعالى عنه -؛ لأن الصوم في هذه الأيام مندوب إليه، وهو قياس صوم عاشوراء وصوم شعبان وقضاء رمضان في هذه الأوقات يجوز وقال - صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان عشر ذي الحجة» وتأويل النهي في حق من يعتاد صوم هذه الأيام تطوعا إنه لا ينبغي له أن يترك عادته ويؤدي ما عليه من القضاء في هذه الأيام
قال): وإذا بلغ الغلام في يوم رمضان فأفطر فيه فلا شيء عليه. وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه إذا بلغ قبل الزوال فعليه أن يصوم، وإن أفطر فعليه قضاء هذا اليوم؛ لأن وقت النية يمتد إلى وقت الزوال في حق من كان أهلا للعبادة في أول النهار فصار بلوغه قبل الزوال كبلوغه ليلا فعليه أن ينوي الصوم وجه ظاهر الرواية أن الخطاب بالصوم ما كان متوجها عليه في أول النهار وصوم اليوم الواحد لا يتجزأ وجوبا وإمساكه في أول النهار ما توقف على صوم الفرض؛ لأنه لم يكن أهلا له فهو نظير الكافر يسلم، ولو بلغ في غير رمضان في يوم فنوى الصوم تطوعا أجزأه بالاتفاق وفي الكافر يسلم اشتباه فقد ذكر في الجامع الصغير في صبي بلغ وكافر يسلم قال: هما سواء، وهذا يدل على أن نية كل واحد منهما صوم التطوع صحيح، وأكثر مشايخنا على الفرق بين الفصلين فقالوا: لا يصح من الكافر نية صوم التطوع بعد ما أسلم قبل الزوال؛ لأنه ما كان أهلا للعبادة في أول النهار فلا يتوقف إمساكه على أن يصير عبادة بالنية قبل الزوال
(قال): وإذا ذاق الصائم بلسانه شيئا، ولم يدخل حلقه لم يفطر؛ لأن الفطر بوصول شيء إلى جوفه، ولم يوجد والفم في حكم الظاهر. ألا ترى أن الصائم يتمضمض فلا يضره ذلك ويكره له أن يعرض نفسه لشيء من هذا؛ لأنه لا يأمن أن يدخل حلقه بعد ما أدخله فمه فيحوم حول الحمى قال - صلى الله عليه وسلم - «فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»
(قال): وإن دخل ذباب جوفه لم يفطره ولم يضره، وهذا استحسان وكان ينبغي في القياس أن يفسد صومه؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه غير مغذ وأنه لا صنع له فيه فكان نظير التراب يهال في حلقه وفي الاستحسان لا يضره هذا؛ لأنه لا يستطاع الامتناع منه فإن الصائم لا يجد بدا من أن يفتح فمه فيتحدث مع الناس وما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو؛ ولأنه مما لا يتغذى به فلا ينعدم به معنى الإمساك، وهو نظير الدخان والغبار يدخل حلقه قال أبو يوسف: - رحمه الله تعالى - وقد يدخل في هذا الاستحسان بصفة القياس فإنه لو كان الذباب في حلقه ثم طار لم يضره، ولو كان هذا مفسدا للصوم لكان بوصوله إلى باطنه يفسد صومه، وإن خرج بعد ذلك، وإن نزل في حلقه ثلج أو مطر فقد اختلف مشايخنا فيه والصحيح أنه يفطره؛ لأن هذا مما يستطاع الامتناع منه بأن يكون تحت السقف؛ ولأن هذا مما يتغذى به
(قال): وإن كان بين أسنانه شيء فدخل جوفه لم يفطر؛ لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فإن تسحر بالسويق فلا بد من أن يبقى بين أسنانه شيء فإذا أصبح يدخل في حلقه مع ريقه ثم ما يبقى بين الأسنان تبع لريقه فكما أنه
إذا ابتلع ريقه لم يضر فكذلك ما هو تبع، وهذا إذا كان صغيرا يبقى بين الأسنان عادة، وهو بخلاف ما إذا دخل ذلك القدر في فمه؛ لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه فإن كان بحيث لا يبقى بين الأسنان عادة يفسد صومه؛ لأن هذا لا تكثر فيه البلوى، والتحرز عنه ممكن وقدروا ذلك بالحمصة فإن كان دونها لم يفسد به الصوم وقدر الحمصة إذا أدخله في حلقه فسد صومه، وعليه القضاء ولا كفارة عليه في قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى -. وقال زفر - رحمه الله تعالى: عليه الكفارة؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه طعام متغير فهو كالمفطر باللحم المنتن ولأبي يوسف أن هذا من جنس ما لا يتغذى به والطباع تعافه فهو نظير التراب ثم للفم حكم الباطن من وجه وحكم الظاهر من وجه والكفارة تسقط بالشبهة فلهذا أسقطنا عنه الكفارة
(قال): رجل قال لله علي صوم شهر فله أن يصومه متفرقا أما وجوب الصوم بنذره؛ فلأنه عاهد الله عهدا، والوفاء بالعهد واجب قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل: 91] ، وذم من ترك الوفاء بالعهد بقوله {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75] الآية ثم ما كان من جنسه واجب شرعا صح التزامه بالنذر، وما ليس من جنسه واجب شرعا كعيادة المريض لا يصح التزامه بالنذر إلا في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، وهو قول أبي يوسف فكأنه اعتبر في تلك الرواية كون المنذر قربة ثم ما يلزمه بالنذر فرع لما هو واجب بإيجاب الله تعالى وما أوجب الله تعالى من الصوم مطلقا فتعيين وقت الأداء إلى العبد والخيار إليه في الأداء متفرقا أو متتابعا كقضاء رمضان فكذلك ما يوجبه على نفسه؛ ولأن صوم الشهر عبادات متفرقة؛ لأنه يتخلل بين الأيام وقت لا يقبل الصوم فلا يلزمه التتابع فيه إلا أن ينص عليه أو ينويه فإن المنوي إذا كان من محتملات لفظه جعل كالملفوظ.
(قال): فإن سمى شهرا بعينه كرجب فعليه أن يصومه، وإن لم يصمه فعليه القضاء وكذلك إن أفطر فيه يوما فعليه قضاء ذلك اليوم بالقياس على ما وجب بإيجاب الله تعالى من الصوم في وقت بعينه، وهو صوم رمضان، ويستوي إن كان قال: متتابعا، أو لم يقل؛ لأن الصفة في العين غير معتبرة وأيام شهر بعينه متجاوزة لا متتابعة فلا يلزمه صفة التتابع فيه، وإن نص عليه، أو نواه بخلاف ما إذا سمى شهرا بغير عينه؛ لأن الوصف في غير المعين معتبر ثم في العين إذا لم يصمه حتى وجب عليه القضاء فله أن يفرق القضاء؛ لأن القضاء معتبر بالأداء كما في صوم رمضان.
(قال): وإن كان أراد يمينا فعليه كفارة اليمين سواء أفطر في جميع الشهر، أو في يوم منه؛ لأن المنوي من محتملات
لفظه فإن الحالف يعاهد الله تعالى كالناذر ثم شرط حنثه أن لا يصوم جميع الشهر فسواء أفطر فيه يوما، أو أكثر فقد وجد شرط الحنث والحاصل أنه إذا لم ينو شيئا كان كلامه نذرا باعتبار الظاهر والعادة، وإن نوى اليمين كان يمينا نذرا بظاهره، وإن نواهما جميعا كان نذرا ويمينا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنهما لا يجتمعان في كلمة واحدة ولكنه إن نوى اليمين فهو يمين تلزمه الكفارة بالحنث دون القضاء، وإن نواهما كان نذرا ولم يكن يمينا وجه قوله أن حكم النذر يخالف حكم اليمين فلا يجتمعان في كلام واحد كقوله لامرأته أنت علي حرام إن نوى به الطلاق كان طلاقا، وإن نوى به اليمين كان يمينا ولا يجتمعان، وإن نواهما وليس هذا نظير قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - في اجتماع معنى الحقيقة والمجاز في كلام واحد في بعض مسائل الأيمان؛ لأن حكم المجاز هناك غير مخالف لحكم الحقيقة فكان بمنزلة لفظ العموم وجه قولهما أن في لفظه كلمتين إحداهما يمين، وهو قوله لله فإن معناه بالله قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج، وهذا؛ لأن اللام والباء يتعاقبان قال الله تعالى: {آمنتم له} [طه: 71] وفي موضع آخر به وقوله علي نذر إلا أن عند الإطلاق غلب عليه معنى النذر باعتبار العادة فحمل عليه فإذا نواهما فقد نوى بكل لفظ ما هو من محتملاته فيعمل بنيته وليس هذا نظير ما يقال أن على قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - لا تجتمع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد؛ لأن الحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه وإنما ذلك في كلمة واحدة لا في كلمتين
(قال): وإن نذر صوم سنة بعينها أفطر يوم النحر ويوم الفطر وأيام التشريق؛ لأن الصوم في هذا الأيام منهي عنه شرعا، وإلى العبد ولاية الإيجاب بنذره لا رفع المنهي ثم عليه قضاء هذه الأيام عندنا. وقال زفر - رحمه الله تعالى - ليس عليه القضاء، وهو قول الشافعي - رحمه الله تعالى - وأصل المسألة إذا قال لله علي أن أصوم غدا وغدا يوم النحر، أو قال لله علي أن أصوم يوم النحر صح نذره في الوجهين ويؤمر بأن يصوم يوما آخر فإن صام في ذلك اليوم خرج من موجب نذره وعند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يصح نذره، وهو رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا قال: لله علي صوم يوم النحر لم يصح نذره، وإن قال: غدا وغدا يوم النحر صح نذره وجه قولهما أن الصوم غير مشروع في هذه الأيام، وليس إلى العبد شرع ما ليس بمشروع كالصوم ليلا
وبيانه أن الشرع عين هذا الزمان للأكل بقوله - عليه السلام - «فإنها أيام أكل وشرب» وتعينه لأحد الضدين ينفي الضد الآخر فيه، والدليل على أنه لا يصح لأداء شيء من الواجبات أن الصوم اسم لما هو قربة والمنهي عنه يكون معصية فلا يكون صوما.
(ولنا) أن الصوم مشروع في هذه الأيام فإن «النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم هذه الأيام» وموجب النهي الانتهاء والانتهاء عما ليس بمشروع لا يتحقق؛ ولأن موجب النهي الانتهاء على وجه يكون للعبد فيه اختيار بين أن ينتهي فيثاب عليه وبين أن يقدم على الارتكاب فيعاقب عليه وذلك لا يتحقق إذا لم يبق الصوم مشروعا فيه وموجب النهي غير موجب النسخ فإذا كان موجب النسخ رفع المشروع عرفنا أنه ليس موجب النهي رفع المشروع والمعنى الذي لأجله كان الصوم مشروعا في سائر الأيام كون الإمساك فيها بخلاف العادة، وهذا المعنى في هذه الأيام أظهر والشرع أمر بالفطر فيه لا أنه جعله مفطرا فيه بخلاف الليل فقد جعله مفطرا بدخول الليل بقوله فقد أفطر الصائم أكل، أو لم يأكل والنهي يجعل الأداء من العبد فاسدا ولهذا لا يصلح لأداء شيء من الواجبات به ولكن صفة الفساد لا تمنع بقاء أصله شرعا كمن أفسد إحرامه نفي عقد الإحرام، وعليه أداء الأفعال شرعا، وإذا ثبت أن الصوم مشروع في هذا اليوم فقد حصل نذره مضافا إلى محله فيصح وليس في النذر ارتكاب المنهي إنما ذلك في أداء الصوم، ولهذا أمرناه بأن يصوم يوما آخر كي لا يكون مرتكبا للنهي، ولو صام في هذه الأيام خرج عن موجب نذره؛ لأنه ما التزم إلا هذا القدر وقد أدى كمن قال: لله علي أن أعتق هذه الرقبة وهي عمياء خرج عن موجب نذره بإعتاقها؛ لأنه ما التزم إلا هذا القدر، وقد أدى بإعتاقها، وإن كان لا يتأدى شيء من الواجبات بها، وكمن نذر أن يصلي عند طلوع الشمس فعليه أن يصلي في وقت آخر فإذا صلى في ذلك الوقت خرج عن موجب نذره وجه رواية الحسن أنه إذا نص على يوم النحر فقد صرح في نذره بما هو منهي عنه فلم يصح، وإذا قال: غدا لم يصرح في نذره بما هو منهي عنه فصح نذره، وهو كالمرأة إذا قالت: لله علي أن أصوم يوم حيضي لم يصح نذرها، ولو قالت: غدا وغدا يوم حيضها صح نذرها.
إذا عرفنا هذا فنقول: إذا نذر صوم سنة بعينها فعليه قضاء خمسة أيام إذا أفطر فيها يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق، وإن التزم سنة بغير عينها فعليه قضاء خمسة وثلاثين يوما؛ لأن صوم رمضان لا يكون عن المنذور، ولو قال: سنة متتابعة فعليه أن يصل هذا القضاء بالأداء وكان محمد بن سلمة - رحمه الله تعالى - يقول: في هذا الفصل لا يفطر
في الأيام الخمسة؛ لأن هذا القدر من التتابع في وسعه، والأول أصح، وهو مروي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - وكذلك المرأة إن نذرت صوم سنة بعينها قضت أيام الحيض لما بينا
(قال): رجل جعل لله عليه أن يصوم كل خميس يأتي عليه فأفطر خميسا فعليه القضاء وكفارة اليمين إن أراد يمينا فإن أفطر خميسا آخر قضاه أيضا ولم يكن عليه كفارة أخرى؛ لأن اليمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لا يحنث مرة أخرى، وبحكم النذر لزمه صوم كل خميس فكل ما أفطر في خميس كان عليه قضاؤه، وهذا؛ لأن إيجاب القضاء في كل خميس لا يقتضي تعدد النذر بخلاف إيجاب الكفارتين
(قال): وإن جعل لله عليه أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا فقدم فلان ليلا لم يلزمه شيء؛ لأن اليوم حقيقة لبياض النهار، ولم يوجد ذلك عند قدوم فلان ولا يقال اليوم بمعنى الوقت كما لو قال لامرأته: أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه فلان؛ لأن اليوم قد يحتمل معنى الوقت، ولكن إذا قرن به ما يختص بأحد الوقتين، وهو بياض النهار علم أنه ليس مراده الوقت مطلقا بخلاف الطلاق فإنه لا يختص بأحد الوقتين، وإن قدم فلان في يوم قد أكل فيه فعليه أن يصوم ذلك اليوم فيما يستقبل ولا يقضي هذا اليوم الذي أكل فيه، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن عليه قضاءه قال: لأن السبب هو النذر والوقت شرط فيه فعند وجوده يستند الوجوب إلى نذره فكأنه قال: لله علي أن أصوم غدا فأكل الغد فعليه قضاؤه وجه ظاهر الرواية أنه أضاف النذر إلى وقت قدوم فلان فعند وجود القدوم يصير كالمجدد للنذر كما هو الأصل أن المعلق بالشرط عند وجوده كالمنجز، ومن أكل في يوم ثم قال: لله علي أن أصوم هذا اليوم أبدا فعليه أن يصومه فيما يستقبل، وليس عليه قضاء هذا اليوم، وكذلك لو قدم فلان بعد الزوال، وجواب أبي يوسف - رحمه الله تعالى - في هذا غير محفوظ، ويجوز أن يفرق بينهما بعلة أن ما بعد الزوال ليس بوقت لالتزام الصوم من أحد وما قبل الزوال إن لم يكن وقتا لالتزام الصوم في حق الأكل فهو وقت في حق غيره والأظهر أنه يسوي بينهما، وإن كان قدم قبل الزوال ولم يكن أكل فيه صامه لبقاء وقت النية عند القدوم وصار كالمنجز للنذر في الحال
(قال): رجل أصبح صائما يوم الفطر ثم أفطر فلا قضاء عليه في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وعليه القضاء في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى؛ لأن الشروع ملزم كالنذر بدليل سائر الأيام والنهي لا يمنع صحة الشروع فيجب القضاء كمن شرع في الصلاة في الأوقات المكروهة وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: لم يجب عليه الإتمام بعد الشروع
لأن فيه معصية ووجوب القضاء ينبني على وجوب الإتمام؛ ولأن القدر المؤدى كان فاسدا لما فيه من ارتكاب النهي فلا يجب عليه حفظه ووجوب الإتمام والقضاء لحفظ المؤدى بخلاف النذر فإنه بنذره صار مرتكبا للنهي، وفي الشروع في الصلاة في الوقت المكروه روايتان عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وبعد التسليم الفرق من وجهين أحدهما: أن بالشروع هناك لا يصير مرتكبا للنهي؛ لأن بمجرد التكبير لا يصير مصليا كمن حلف أن لا يصلي فكبر لا يحنث فلهذا صح الشروع، وهنا بمجرد الشروع صار صائما مرتكبا للنهي بدليل مسألة اليمين؛ ولأن هناك يمكنه الأداء بذلك الشروع لا بصفة الكراهة بأن يصبر حتى تبيض الشمس فلهذا لزمه، وهنا بهذا الشروع لا يمكنه الأداء بدون صفة الكراهة فلم تلزمه
(قال): امرأة قالت: لله علي أن أصوم يوم حيضي فلا شيء عليها؛ لأن الحيض ينافي أداء الصوم، ومع التصريح بالمنافي لا يصح الالتزام كمن قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي أكلت فيه وكذلك إن حاضت ثم قالت: لله علي أن أصوم هذا اليوم؛ لأن المنافي متحقق فكأنها صرحت به بخلاف ما إذا قالت: لله علي أن أصوم غدا فحاضت من الغد؛ لأنه ليس في لفظها تصريح بالمنافي فصح الالتزام ثم تعذر عليها الأداء بما اعترض من الحيض فعليها القضاء
(قال): وإذا دخل الغبار، أو الدخان حلق الصائم لم يضره؛ لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فالتنفس لا بد منه للصائم والتكليف بحسب الوسع، ولو طعن برمح حتى وصل إلى جوفه لم يفطره؛ لأن كون الرمح بيد الطاعن يمنع وصوله إلى باطنه حكما فإن بقي الزج في جوفه فسد صومه؛ لأنه صار مغيبا حقيقة فكان واصلا إلى باطنه، وهو قياس ما لو ابتلع خيطا فإن بقي أحد الجانبين بيده لم يفسد صومه، وإن لم يبق فسد صومه
(قال): ولو أكره على أكل وشرب فعليه القضاء دون الكفارة عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: إن تناول بنفسه مكرها فكذلك، وإن صب في حلقه لم يفسد صومه واعتبر صنعه في ذلك ونحن نعتبر وصول المفطر إلى باطنه مع ذكره للصوم، وذلك لا يختلف بفعله وبفعل غيره وكذلك انائم إن صب في حلقه ماء فسد صومه عندنا، ولم يفسد عند زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأنه أعذر من الناسي إذا لا صنع له أصلا ولكنا نقول: الناسي معدول به عن القياس بالنص، وهذا ليس في معناه؛ لأن النسيان لا صنع فيه للعباد فإذا كان العذر ممن له الحق منع فساد صومه وإليه أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله أطعمك وسقاك» وهنا إنما
جاء العذر بسبب مضاف إلى العباد، وهو النوم منه والصب من غيره، وهذا غير مانع من فساد الصوم لوصول المفطر إلى باطنه
(قال): وللصائم أن يستاك بالسواك أول النهار وآخره وكره الشافعي - رحمه الله تعالى - للصائم السواك آخر النهار لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك» والسواك يزيل الخلوف وما هو أثر العبادة يكره إزالته كدم الشهيد (ولنا) قوله - صلى الله عليه وسلم - «خير خلال الصائم السواك» وقال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة وبالسواك عند كل وضوء» ثم هو تطهير للفم فلا يكره للصائم كالمضمضة والسواك لا يزيل الخلوف بل يزيد فيه إنما يزيل النكهة الكريهة ومراده - صلى الله عليه وسلم - بيان درجة الصائم لا عين الخلوف فإن الله تعالى يتعالى عن أن تلحقه الروائح، ودم الشهيد يبقى عليه ليكون شاهدا له على خصمه يوم القيامة والصوم بين العبد وبين من يعلم السر وأخفى فلا حاجة إلى الشاهد، والسواك الرطب واليابس فيه سواء لقول ابن عباس - رضي الله عنه - لا بأس للصائم أن يستاك بالسواك الأخضر وكذلك لا بأس أن يبله بالماء إلا في رواية عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه كره ذلك؛ لأنه يجد منه بدا فهو نظير الذوق، وإدخال الماء في فمه من غير حاجة.
(ولنا) حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك بالسواك الرطب، وهو صائم»
(قال): وإذا خافت الحامل، أو المرضع على نفسها أو ولدها أفطرت لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع الصوم»؛ ولأنه يلحقها الحرج في نفسها أو ولدها، والحرج عذر في الفطر كالمريض والمسافر، وعليها القضاء ولا كفارة عليها؛ لأنها ليست بجانية في الفطر ولا فدية عليها عندنا وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - إن خافت على نفسها فكذلك، وإن خافت على ولدها فعليها الفدية ومذهبه مروي عن ابن عمر - رحمه الله تعالى - ومذهبنا مروي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهما - إلا أن المروي عن ابن عمر الفدية دون القضاء والجمع بينهما لم يشتهر عن أحد من الصحابة، وهو يقول: الفطر منفعة حصلت بسبب نفس عاجزة عن الصوم خلقة لا علة فيوجب الفدية كفطر الشيخ الفاني، وهذا؛ لأن الفطر منفعة شخصين منفعتها ومنفعة ولدها فباعتبار منفعتها يجب القضاء وباعتبار منفعة ولدها تجب الفدية.
(ولنا) أن هذا مفطر يرجى له القضاء فلا يلزمه الفداء كالمريض والمسافر، وهذا؛ لأن الفدية
مشروعة خلفا عن الصوم والجمع بين الخلف والأصل لا يكون، وهو خلف غير معقول بل هو ثابت بالنص في حق من لا يطيق الصوم فلا يجوز في حق من يطيق الصوم، ولا يجوز أن يجب باعتبار الولد؛ لأنه لا صوم على الولد فكيف يجب ما هو خلف عنه؛ ولأنه لا يجب في مال الولد، ولو كان باعتباره لوجب في ماله كنفقته ولتضاعف بتعدد الولد، وأما الشيخ الكبير والذي لا يطيق الصوم فإنه يفطر ويطعم لكل يوم نصف صاع من حنطة. وقال مالك لا فدية عليه قال: لأن أصل الصوم لم يلزمه لكونه عاجزا عنه فكيف يلزمه خلفه؛ لأن الخلف مشروع ليقوم مقام الأصل ولنا أن الصوم قد لزمه لشهود الشهر حتى لو تحمل المشقة وصام كان مؤديا للفرض، وإنما يباح له الفطر لأجل الحرج، وعذره ليس بعرض الزوال حتى يصار إلى القضاء فوجبت الفدية كمن مات وعليه الصوم يوضحه أن الصوم لزمه لا باعتبار عينه بل باعتبار خلفه كالكفارة تجب على العبد لا باعتبار المال بل باعتبار خلفه، وهو الصوم والأصل فيه قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] جاء عن ابن عباس - رحمه الله تعالى - وعلى الذين يطيقونه فلا يطيقونه فدية وقيل حرف "لا" مضمر فيه معناه وعلى الذين لا يطيقونه قال الله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] أي لئلا تضلوا وجعل فيها رواسي أن تميد بكم أي لئلا تميد بكم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|