عرض مشاركة واحدة
  #52  
قديم 13-11-2025, 03:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,916
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثالث
صـــ 60 الى صـــ 69
(52)






وحجتهما أن صوم الشهر في معنى عبادة واحدة فإن سببها واحد، وهو شهود جزء من الشهر والشروع فيها في وقت واحد والخروج منها كذلك فكان بمنزلة ركعات صلاة واحدة.
(ولنا) أن صوم كل يوم عبادة على حدة ألا ترى أن فساد البعض لا يمنع صحة ما بقي وأنه يتخلل بين الأيام زمان لا يقبل الصوم، وهو الليل، وإن انعدمت الأهلية في بعض الأيام لا يمنع تقرر الأهلية فيما بقي فكانت بمنزلة صلوات مختلفة فيستدعي كل واحد منهما نية على حدة ثم إن أطلق نية الصوم، أو نوى النفل فهو صائم عن الفرض عندنا. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - إن كان يعلم أن اليوم من رمضان فنوى النفل لم يكن صائما، وإن كان لا يعلم جاز صومه عن النفل؛ لأن الخطاب بأداء الفرض لا يتوجه عليه إلا بعد العلم به. وقال ابن أبي ليلى: إن كان يعلم أن اليوم من رمضان جاز صومه عن الفرض، وإن كان لا يعلم لم يكن صائما؛ لأن قصده عند عدم العلم كان إلى أداء النفل غير مشروع في هذا اليوم فهو كنية أداء الصوم في الليل وأنه لغو لكونه غير مشروع فيه. والشافعي - رحمه الله تعالى - يقول: إن صفة الفريضة قربة كأصل الصوم فكما لا يتأدى أصل الصوم إلا بالنية فكذلك الصفة وبانعدام الصفة ينعدم الصوم ضرورة وعلى هذا إذا أطلق النية لا يجوز، والوجه الآخر أن بنية النفل صار معرضا عن الفرض لما بينهما من المغايرة فصار كإعراضه بترك النية ولا يجوز أن يصير ناويا للصوم المشروع في هذا الوقت بنية النفل؛ لأنه لو أعتقد في المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر، وعلى هذا لو أطلق النية يجوز؛ لأنه ما صار معرضا بهذه النية.
(ولنا) حديث علي وعائشة - رضي الله تعالى عنهما - أنهما كان يصومان يوم الشك وكانا يقولان، لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان وإنما كانا يصومان بنية النفل
لإجماعنا على أنه لا يباح صوم يوم الشك بنية الفرض فلولا أن عند التبين يجوز الصوم عن الفرض لم يكن لهذا التحرز منهما معنى ثم هذا صوم عين فيتأدى بمطلق النية كالنفل ومعناه أنه هو المشروع فيه وغيره ليس بمشروع أصلا والمتعين في زمان كالمتعين في مكان فيتناوله اسم الجنس كما يتناوله اسم النوع ومعنى القربة في أصل الصوم يتحقق لبقاء الاختيار للعبد فيه ولا يتحقق في الصفة إذ لا اختيار له فيها فلا يتصور منه إبدال هذا الوصف بوصف آخر في هذا الزمان فيسقط اعتبار نية الصفة ونية النفل ولغو بالاتفاق؛ لأن النفل غير مشروع في هذا الوقت والإعراض عن الفرض يكون بنية النفل فإذا لغت نية النفل لم يتحقق الإعراض، وهو نظير الحج على قوله وبه يبطل قوله أنه لو اعتقد أنه نفل يكفر وعلى هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في المسافر إذا نوى واجبا آخر في رمضان وقع عن فرض رمضان؛ لأن وجوب الأداء ثابت في حق المسافر حتى لو أدى جاز وإنما يفارق المقيم في الترخص بالفطر فإذا لم يترخص كان هو والمقيم سواء وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: يقع صومه عما نوى؛ لأنه ما ترك الترخص حين قصد صرف منافعه إلى ما هو الأهم، وهو ما تقرر دينا في ذمته وهذه الرخصة لدفع الحرج والمشقة عنه فكان من مصالح بدنه وفي هذه النية اعتبار المصلحة أن يصوم، أو يفطر فصح منه؛ ولأن رمضان في حق المسافر كشعبان في حق المقيم على معنى أنه مخير بين أن يصوم أو يفطر فإن نوى المسافر النفل ففيه روايتان عن أبي حنيفة في رواية ابن سماعة عنه يقع عن فرض رمضان؛ لأنه ترك الترخص وفي رواية الحسن يقع عن النفل؛ لأن رمضان في حقه كشعبان في حق غيره.
فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أن صومه يقع عن رمضان؛ لأن إباحة الفطر له عند العجز عن أداء الصوم فأما عند القدرة هو والصحيح سواء بخلاف المسافر، وذكر أبو الحسن الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة، وهو سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض وأما الكلام في وقت النية فلا خلاف في أن أوله من وقت غروب الشمس؛ لأن الأصل في العبادات اقتران النية بحال الشروع في الصوم إلا أن وقت الشروع في الصوم وقت مشتبه لا يعرفه إلا من يعرف النجوم وساعات الليل، وهو مع ذلك وقت نوم وغفلة والمتهجد بالليل يستحب أن ينام سحرا فلدفع الحرج جوز له بنية متقدمة على حالة الشروع، وإن كان غافلا عنه عند الشروع بأن تجعل
تلك النية كالقائمة حكما فأما النية بعد طلوع الفجر لصوم رمضان تجوز في قول علمائنا رحمهم الله تعالى وعلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - لا تجوز وفي الكتاب لفظان أحدهما إذا نوى قبل الزوال والثاني إذا نوى قبل انتصاف النهار، وهو الأصح فالشرط عندنا وجود النية في أكثر وقت الأداء ليقام مقام الكل، وإذا نوى قبل الزوال لم يوجد هذا المعنى؛ لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت أداء الصوم من طلوع الفجر فالشافعي - رحمه الله تعالى - استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» والعزم عقد القلب على الشيء فإذا لم ينعقد قلبه على الصوم من الليل لا يجزئه والمعنى فيه أن القصد والعزيمة عند أول جزء من العبادة شرط ليكون قربة كالصلاة وسائر العبادات فإذا انعدم ذلك لم يكن ذلك الجزء قربة وما بقي لا يكفي للفريضة؛ لأن المستحق عليه صوم يوم كامل بخلاف النفل فإنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما من حين نوى مع أن مبنى النفل على المسامحة والفرض على الضيق ألا ترى أن صلاة النفل تجوز قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول بخلاف الفرض.
(ولنا) حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - «أن الناس أصبحوا يوم الشك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: نعم فقال: - صلى الله عليه وسلم - الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم فصام وأمر الناس بالصيام وأمر مناديا فنادى ألا من كان أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم» وتأويل حديثه أن المراد هو النهي عن تقديم النية على الليل ثم هو عام دخله الخصوص بالاتفاق، وهو صوم النفل فنحمله على سائر الصيامات بالقياس، وهو أن هذا يوم صوم فالإمساك في أول النهار يتوقف على أن يصير صوما بالنية قبل الزوال كالنفل، وهذا؛ لأن للصوم ركنا واحدا، وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره فإذا اقترنت النية بأكثره ترجح جانب الوجود على جانب العدم فيجعل كاقتران النية بجميعه ثم اقتران النية بحالة الشروع ليس بشرط في باب الصوم بدليل جواز التقديم فصارت حالة الشروع هنا كحالة البقاء في سائر العبادات، وإذا جاز نيته متقدمة دفعا للحرج جاز نيته متأخرة عن حالة الشروع بطريق الأولى؛ لأنه إن لم تقترن بالشروع هنا فقد اقترنت بالأداء ومعنى الحرج في جنس الصائمين لا يندفع بجواز التقديم ففي الصائمين صبي يبلغ نصف الليل وحائض
تطهر في آخر الليل فلا ينتبه إلا بعد طلوع الفجر وفي أيامه يوم الشك فلا يمكنه أن ينوي الفرض ليلا إذا لم يتبين أنه من رمضان.
وإن نوى الصوم بعد الزوال لم يجزه لانعدام الشرط في أكثر وقت الأداء فيترجح به جانب العدم ثم القرب بسبب الصوم وقع في ترك الغداء كما بينا ووقت الغداء قبل الزوال لا بعده فإذا نوى قبل الزوال كان تاركا للغداء على قصد التقرب، وإذا نوى بعد الزوال لم يكن تركه الغداء على قصد التقرب فلا يكون صوما وكذلك المسافر إذا نوى قبل الزوال وقد قدم مصره، أو لم يقدم ولم يكن أكل شيئا جاز صومه عن الفرض عندنا خلافا لزفر - رحمه الله تعالى - هو يقول إمساك المسافر في أول النهار لم يكن مستحقا لصوم الفرض فلم يتوقف على وجود النية ولم يستند إليه في حقه إلى أول النهار بخلاف المقيم.
(ولنا) أن المعنى الذي لأجله جوز في حق المقيم إقامة النية في أكثر وقت الأداء مقامها في جميع الوقت وجد في حق المسافر فالمسافر في هذا الوقت أسوة المقيم إنما يفارقه الترخص بالفطر ولم يترخص به؛ ولأن العبادة في وقتها مع ضرب نقصان أولى من تفويتها عن وقتها والمسافر والمقيم في هذا سواء وبهذا فارق صوم القضاء فإنه دين في ذمته، والأيام في حقه سواء فلا يفوته شيء إذا لم نجوزه مع النقصان فلهذا اعتبر صفة الكمال منه
(قال): رجل أصبح صائما في رمضان قبل أن يتبين أنه من رمضان ثم تبين أنه منه فصومه جائز، وقد أساء حين تقدم الناس ومراده في هذا يوم الشك ومعنى الشك أن يستوي طرف العلم وطرف الجهل بالشيء وإنما يقع الشك من وجهين: أما إن غم هلال شعبان فوقع الشك أنه اليوم الثلاثون منه أو الحادي والثلاثون، أو غم هلال رمضان فوقع الشك في اليوم الثلاثين أنه من شعبان، أو من رمضان ولا خلاف إنه يكره الصوم فيه بنية الفرض لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين»؛ ولأنه حين نوى الفرض فقد اعتقد الفريضة فيما ليس بفرض، وذلك كاعتقاد النفلية فيما هو فرض ولكن مع هذا إذا تبين أن اليوم من رمضان فصومه تام؛ لأن النهي ليس لعين الصوم فلا يؤثر فيه فأما إذا صام فيه بنية النفل فلا بأس به عندنا، وهو الأفضل وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - إن وافق ذلك يوما كان يصومه، أو صام قبله أياما فلا بأس به وإلا فهو مكروه لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم» ولما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن صوم ستة أيام يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق ويوم الشك» ولنا حديث علي وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما كانا
يصومان يوم الشك كما روينا؛ ولأن هذا اليوم من شعبان؛ لأن اليقين لا يزال بالشك والصوم من شعبان تطوعا مندوب إليه كما في سائر أيامه جاء في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - «ما كان يصوم في شهر أكثر منه في شعبان فإنه كان يصومه كله» وتأويل النهي أن ينوي الفرض فيه وبه نقول.
(قال): إلا أن يكون أبصر الهلال وحده ورد الإمام شهادته وإنما ترد شهادته إذا كانت السماء مصحية، وهو من أهل المصر فأما إذا كانت السماء مغيمة أو جاء من خارج المصر، أو كان من موضع نشز فإنه تقبل شهادته عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - في أحد قوليه قال؛ لأن تهمة الكذب إذا كان بالسماء غيم أظهر فإن الغيم مانع من الرؤية فإذا لم تقبل شهادته عند عدم المانع فعند قيامه أولى.
(ولنا) حديث عكرمة على ما رويناه ثم هو مخبر بأمر ديني، وهو وجوب أداء الصوم على الناس فوجب قبول خبره إذا لم يكذبه الظاهر كمن روى حديثا، وهذا الظاهر لا يكذبه فلعله تقشع الغيم عن موضع القمر فاتفقت له الرؤية دون غيره بخلاف ما إذا كانت السماء مصحية؛ لأن الظاهر يكذبه فإنه مساو للناس في الموقف والمنظر وحدة البصر وموضع القمر فإذا رد الإمام شهادته فعليه أن يصوم ولا يفطر إلا على قول الحسن بن حي يعتمد ظاهر قوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] وقوله - صلى الله عليه وسلم - «صومكم يوم تصومون»، وهذا ليس بيوم الصوم في حق الجماعة فكذلك في حق الواحد.
(ولنا) قوله - صلى الله عليه وسلم - «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما»؛ ولأن وجوب الصوم برؤية الهلال أمر بينه وبين ربه فلا يؤثر فيه الحكم، وقد كان لزمه الصوم قبل أن ترد شهادته فكذلك بعده فإن أفطر بالجماع لم تلزمه الكفارة عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - هو يقول: إنه متيقن أن اليوم من رمضان إذ لا طريق للتيقن أقوى من الرؤية وتيقنه لا يتغير بشك غيره ألا ترى أنه يلزمه الصوم فيه عن الفرض، ويوم الشك ينهى فيه عن مثله وكما أن وجوب الصوم بينه وبين ربه فكذلك وجوب الكفارة عند الفطر.
(ولنا) أنه مفطر بالشبهة؛ لأن الإمام حين رد شهادته فقد حكم بأنه كاذب بدليل شرعي أوجب له الحكم به، ولو كان حكمه هذا حقا ظاهرا وباطنا لكان يباح الفطر له فإذا كان نافذا ظاهرا يصير شبهة وكفارة الفطر عقوبة تدرأ بالشبهات حتى لا يجب على المخطئ ثم الكفارة إنما وجبت بالفطر في يوم رمضان مطلقا، وهذا اليوم رمضان من وجه شعبان من وجه
ألا ترى أن سائر الناس لا يلزمهم الصوم فيه ويوم من رمضان لا ينفك عن الصوم فيه قضاء أو أداء فلم يكن هذا اليوم في معنى المنصوص من كل وجه فلو أوجبنا الكفارة فيه كان بطريق القياس على المنصوص ولا مدخل للقياس في إثبات الكفارة فأما وجوب الصوم فهو عبادة يؤخذ فيه بالاحتياط فكونه من رمضان من وجه يكفي في حقه
(قال): رجل قبل امرأته في شهر رمضان فأنزل عليه القضاء ولا كفارة عليه لحديث ميمونة بنت سعد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل قبل امرأته وهما صائمان فقال: قد أفطرا» وتأويله أنه قد علم من طريق الوحي حصول الإنزال به ثم معنى افتضاء الشهوة قد حصل بالإنزال فانعدم ركن الصوم ولا يتصور أداء العبادة بدون ركنها ولكن لا تلزمه الكفارة لنقصان في الجناية من حيث إن التقبيل تبع وليس بمقصود بنفسه وفي النقصان شبهة العدم إلا على قول مالك - رحمه الله تعالى - فإنه يوجب الكفارة على كل مفطر غير معذور وكذلك المرأة إن أنزلت لحديث «أم سليم أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل فقال: إن كان منها مثل ما يكون منه فلتغتسل» أشار إلى أنها تنزل كالرجل، وإذا أنزلت فحكمها حكم الرجل
(قال): ومن أكل، أو شرب أو جامع ناسيا في صومه لم يفطره ذلك والنفل والفرض فيه سواء. وقال مالك - رحمه الله تعالى - في الفرض يقضي، وهو القياس على ما قاله أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - في الجامع الصغير لولا قول الناس لقلت يقضي أي لولا روايتهم الأثر أو لولا قول الناس إن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - خالف الأثر ووجه القياس أن ركن الصوم ينعدم بأكله ناسيا كان، أو عامدا وبدون الركن لا يتصور أداء العبادة والنسيان عذر بمنزلة الحيض والمرض فلا يمنع وجوب القضاء عند انعدام الأداء.
(ولنا) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن رجلا سأل رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال إني أكلت وشربت في رمضان ناسيا وأنا صائم فقال: إن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك» وهكذا روي عن علي - رضي الله عنه -. وقال سفيان الثوري - رضي الله عنه: إن أكل، أو شرب لم يفطر، وإن جامع ناسيا أفطر قال؛ لأن الحديث ورد في الأكل والشرب والجماع ليس في معناه؛ لأن زمان الصوم زمان وقت للأكل عادة فيبتلى فيه بالنسيان وليس بوقت الجماع عادة فلا تكثر فيه البلوى ولكنا نقول: قد ثبت بالنص المساواة بين الأكل والشرب والجماع في حكم الصوم فإذا ورد نص في أحدهما كان ورودا في الآخر باعتبار هذه المقدمة كمن يقول: لغيره
اجعل زيدا وعمرا في العطية سواء ثم يقول: أعط زيدا درهما كان ذلك تنصيصا على أنه يعطي عمرا أيضا درهما فإن تذكر فنزع نفسه من ساعته فصومه تام، وكذا الذي طلع عليه الفجر، وهو مخالط لأهله إذا نزع نفسه من ساعته فصومه تام وعلى قول زفر - رحمه الله تعالى - فيهما جميعا يقضي الصوم لوجود جزء من المواقعة، وإن قل بعد التذكر وطلوع الفجر.
(ولنا) أنه لم يوجد بعد التذكر وطلوع الفجر إلا الامتناع من قضاء الشهوة وذلك ركن الصوم فلا يفسد الصوم وروى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في نوادر الصوم أنه قال في الذي طلع عليه الفجر يقضي بخلاف الناسي والفرق أن اقتران المواقعة بطلوع الفجر مانع من انعقاد الصوم، وفي الناسي صومه كان منعقدا ولم يوجد ما يرفعه، وهو اقتضاء الشهوة بعد التذكر فبقي صائما فإن أتم الفعل فعليه القضاء دون الكفارة إلا على قول الشافعي - رحمه الله تعالى - فإنه يجعل استدامة الفعل بعد التذكر وطلوع الفجر كالإنشاء.
(ولنا) أن الشبهة قد تمكنت في فعله من حيث إن ابتداءه لم يكن جناية وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في الذي طلع عليه الفجر إذا أتم الفعل فعليه الكفارة بخلاف ما إذا تذكر؛ لأن آخر الفعل من جنس أوله وفي الذي طلع عليه الفجر أول فعله عمد فكذلك آخره بخلاف الناسي فإن ذكر الناسي فلم يتذكر وأكل مع ذلك فقد ذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول زفر لا يفسد صومه لبقاء المانع، وهو النسيان وعلى قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يفسد صومه؛ لأن الاحتياط قد لزمه حين ذكر وعدم التذكر بعد ما ذكر نادر فلا يعتبر
(قال): وإذا تمضمض الصائم فسبقه الماء فدخل حلقه فإن لم يكن ذاكرا لصومه فصومه تام كما لو شرب، وإن كان ذاكرا لصومه فعليه القضاء عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ثم عذر هذا أبين من عذر الناسي فإن الناسي قاصد إلى الشرب غير قاصد إلى الجناية على الصوم، وهذا غير قاصد إلى الشرب ولا إلى الجناية على الصوم فإذا لم يفسد الصوم ثمة فهنا أولى.
(ولنا) ما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للقيط بن صبرة بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما» فالنهي عن المبالغة التي فيها كمال السنة عند الصوم دليل على أن دخول الماء في حلقه مفسد لصومه؛ ولأن ركن الصوم قد انعدم مع عذر الخطأ وأداء العبادة بدون ركنها لا يتصور وهكذا القياس في الناسي ولكنا تركناه بالسنة، وهذا ليس في معناه؛ لأن
التحرز عن النسيان غير ممكن والتحرز عن مثل هذا الخطأ ممكن ثم ركن الصوم قد انعدم معنى فإن الذي حصل له، وإن كان مخطئا قد انعدم صورة لا معنى بأن يتناول حصاة فسد صومه فإذا انعدم معنى أولى؛ لأن مراعاة المعاني في باب العبادات أبين من مراعاة الصور وكان ابن أبي ليلى يقول: إن كان وضوءه فرضا لم يفسد صومه، وإن كان نفلا فسد صومه لهذا. وقال بعض أهل الحديث: إن كان في الثلاث لا يفسد صومه، وإن جاوز الثلاث يفسد صومه. ومنهم من فصل بين المضمضة والاستنشاق في الوضوء والجنابة والاعتماد على ما ذكرنا، وتأويل الحديث أن المراد رفع الإثم دون الحكم وبه نقول
(قال): والاكتحال لا يضر الصائم، وإن وجد طعمه في حلقه وكان إبراهيم النخعي يكره للصائم أن يكتحل وابن أبي ليلى كان يقول: إن وجد طعمه في حلقه فطره لوصول الكحل إلى باطنه.
(ولنا) حديث أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «دعا بمكحلة إثمد في رمضان فاكتحل، وهو صائم». وعن أبي مسعود قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء من بيت أم سلمة وعيناه مملوءتان كحلا كحلته أم سلمة» وصوم يوم عاشوراء في ذلك الوقت كان فرضا ثم صار منسوخا ثم ما وجد من الطعم في حلقه أثر الكحل لا عينه كمن ذاق شيئا من الأدوية المرة يجد طعمه في حلقه فهو قياس الغبار والدخان، وإن وصل عين الكحل إلى باطنه فذلك من قبل المسام لا من قبل المسالك إذ ليس من العين إلى الحلق مسلك فهو نظير الصائم يشرع في الماء فيجد برودة الماء في كبده، وذلك لا يضره وعلى هذا إذا دهن الصائم شاربه فأما السعوط والوجور يفطره لوصوله إلى أحد الجوفين إما الدماغ، أو الجوف والفطر مما يدخل ولا كفارة عليه؛ لأن معنى الجناية لا يتم به فإن اقتضاء الشهوة لا يحصل به إلا في رواية هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن عليه الكفارة إذا لم يكن به عذر.
والحقنة تفطر الصائم لوصول المفطر إلى باطنه، وهذا بخلاف الرضيع إذا احتقن بلبن امرأة لا يثبت به حرمة لرضاع إلا في رواية شاذة عن محمد - رحمه الله تعالى -؛ لأن ثبوت حرمة الرضاع بما يحصل به إنبات اللحم وانشاز العظم، وذلك بما يحصل إلى أعالي البدن لا إلى إلا سافل فأما الفطر يحصل بوصول المفطر إلى باطنه لانعدام الإمساك به والإقطار في الأذن كذلك يفسد؛ لأنه يصل إلى الدماغ والدماغ أحد الجوفين فأما الإقطار في الإحليل لا يفطره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويفطره عند أبي يوسف وحكى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى
أنه توقف فيه وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إذا صب الدهن في إحليله فوصل إلى مثانته فسد صومه، وهذا الاختلاف قريب فقد وقع عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن من المثانة إلى الجوف منفذ حتى لا تقدر المرأة على استمساك البول والأمر على ما قالا فإن أهل الطب يقولون: البول يخرج رشحا وما يخرج رشحا لا يعود رشحا وبعضهم يقول: هناك منفذ على صورة حرف الخاء فيخرج منه البول ولا يتصور أن يعود فيه شيء مما يصب في الإحليل فأما الجائفة والآمة إذا داواهما بدواء يابس لم يفطره، وإن دواهما بدواء رطب فسد صومه في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ولم يفسد في قولهما والجائفة اسم لجراحة وصلت إلى الجوف والآمة اسم لجراحة وصلت إلى الدماغ فهما يعتبران أن الوصول إلى الباطن من مسلك هو خلقة في البدن؛ لأن المفسد للصوم ما ينعدم به الإمساك المأمور به وإنما يؤمر بالإمساك لأجل الصوم من مسلك هو خلقة دون الجراحة العارضة وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: المفسد للصوم وصول المفطر إلى باطنه فالعبرة للواصل لا للمسلك وقد تحقق الوصول هنا، وفي ظاهر الرواية فرق بين الدواء الرطب واليابس وأكثر مشايخنا - رضي الله عنهم - أن العبرة بالوصول حتى إذا علم أن الدواء اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه، وإن علم أن الرطب لم يصل إلى جوفه لا يفسد صومه عنده إلا أنه ذكر اليابس والرطب بناء على العادة فاليابس إنما يستعمل في الجراحة لاستمساك رأسها به فلا يتعدى إلى الباطن، والرطب يصل إلى الباطن عادة فلهذا فرق بينهما والدليل على أن العبرة لما قلنا أن اليابس يترطب برطوبة الجراحة
(قال): رجل أصبح في أهله صائما ثم سافر لم يفطر؛ لأنه حين أصبح مقيما وجب عليه أداء الصوم في هذا اليوم حقا لله تعالى وإنما أنشأ السفر باختياره فلا يسقط به ما تقرر وجوبه عليه، وإن أفطر فلا كفارة عليه لتمكن الشبهة بسبب اقتران المبيح للفطر فإن السفر مبيح للفطر في الجملة فصورته، وإن لم تبح تمكن شبهة، وكفارة الفطر تسقط بالشبهة وذكر الشافعي - رحمه الله تعالى - في رواية البويطي أنه يلزمه الكفارة اعتبارا لآخر النهار بأوله، وهذا بعيد فإن في أوله يتعرى فطره عن الشبهة وبعد السفر يقترن السبب المبيح بالفطر، ولو وجد هذا السبب في أول النهار لكان الفطر يباح له فإذا وجد في آخره يصير شبهة
(قال): رجل أصبح صائما متطوعا ثم أفطر عليه القضاء عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - وحجته حديث «أم هانئ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناولها فضل سؤره فشربت ثم قالت إني كنت
صائمة لكن كرهت أن أرد سؤرك فقال: - صلى الله عليه وسلم - إن كان صومك عن قضاء فاقضي يوما، وإن كان صومك تطوعا فإن شئت فاقضيه، وإن شئت فلا تقضيه»؛ ولأن المتنفل متبرع بما ليس عليه فلا يلزمه ما لم يتبرع به، ولكنه مخير في آخره كما كان مخيرا في أوله كمن شرع في صلاة التطوع ينوي أربعا فصلى ركعتين كان مخيرا في الشفع الثاني، وهذا بخلاف الحج فإن بتبرعه هناك لا يلزمه شيء إنما تعذر الخروج عما شرع فيه فيلزمه الإتمام حتى لو تيسر عليه الخروج بالإحصار لم يلزمه القضاء عندي، وبخلاف الناذر فإنه ملتزم ما ليس عليه فكان نظير النذر من المعاملات الكفالة ونظير الشروع في الهبة والإقرار.
(ولنا) حديث عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا حيس فأكلنا فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابتدرنا لنسأله فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها سباقة إلى الخيرات فقال: - صلى الله عليه وسلم - «اقضيا يوما مكانه» فإن كان هذا بعد حديث أم هانئ كان ناسخا له، وإن كان قبله فتبين به أن المراد بقوله إن شئت فاقضيه، وإن شئت فلا تقضيه تأخير القضاء وتعجيله أو تبين به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص أم هانئ بإسقاط القضاء عنها بقصدها التبرك بسؤر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنها غفلت عن الصوم لفرط قصدها إلى التبرك كما «أن أبا طيبة لما حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب دمه فقال: - صلى الله عليه وسلم - حرم الله جسدك على النار» وشرب الدم لا يوجب هذا ولكنه لفرط المحبة غفل عن الحرمة فأكرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر؛ ولأنه باشر فعل قربة مقصودة فيجب عليه إتمامها ويلزمه القضاء بالإفساد كمن أحرم بحج التطوع.
ولا نقول: إن تبرعه بما ليس عليه يلزمه ما لم يتبرع به، ولكن وجب عليه حفظ المؤدى لكونه قربة فإن التحرز عن إبطال العمل واجب قال الله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] كما أن الوفاء بالعهد واجب فكما يلزمه الأداء بعد النذر؛ لأن الوفاء به فكذلك يلزمه أداء ما بقي؛ لأن التحرز عن إبطال العمل فيه بخلاف الصلاة فإنه ليس في الامتناع من الشفع الثاني إبطال الشفع الأول؛ ولأنه بالشروع تعين هذا اليوم لأداء الصوم المشروع فيه وله ولاية التعيين فيتعين بتعيينه والتحق بالزمان المتعين للصوم شرعا، والإفساد في ذلك الزمان يوجب القضاء فهذا مثله، وهو كالناذر لما كان له ولاية الإيجاب التحق ذلك بالواجب شرعا حتى إذا انعدم الأداء منه لزمه القضاء فهذا مثله وهذه المسألة تبنى على أصل، وهو أن بعد الشروع لا يباح له الإفطار بغير عذر عندنا
فيصير بالإفطار جانيا فيلزمه القضاء وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - يباح له الإفطار من غير عذر واختلفت الروايات في الضيافة هل تكون عذرا؟ فروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أنه عذر مبيح للفطر وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يكون عذرا وروى ابن مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يكون عذرا، وهو الأظهر لما روي «أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان في ضيافة رجل من الأنصار فامتنع رجل من الأكل فقال: إني صائم فقال - صلى الله عليه وسلم: إنما دعاك أخوك لتكرمه فأفطر واقض يوما مكانه» ووجه الرواية الأخرى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.67%)]