
13-11-2025, 03:08 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,916
الدولة :
|
|
رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي

الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الثالث
صـــ 50 الى صـــ 59
(51)
(قال): ولو أن أرضا من أرض الخراج مات ربها قبل أن يؤخذ منه الخراج فإنه لا يؤخذ من ورثته؛ لأن الخراج في معنى الصلة فيسقط بالموت قبل الاستيفاء، ولا يتحول إلى التركة كالزكاة ثم خراج الأرض معتبر بخراج الرأس ففي كل واحد منهما معنى الصغار وكما أن خراج الرأس يسقط بموت من عليه قبل الاستيفاء فكذلك خراج الأرض، ولا يمكن استيفاؤه من الورثة باعتبار ملكهم؛ لأنهم لم يتمكنوا من الانتفاع بها في السنة الماضية.
(قال): ولو مات رب الأرض العشرية، وفيها زرع فإنه يؤخذ منه العشر على حاله، وفي رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه سوى بين العشر والخراج، وقال يسقط بموت رب الأرض فأما في ظاهر الرواية الزرع كما حصل صار مشتركا بين الفقراء ورب الأرض عشره حق الفقراء وتسعة أعشاره حق رب الأرض، ولهذا لا يعتبر في إيجاب العشر المالك حتى يجب في أرض المكاتب والعبد والمديون والصبي والمجنون فبموت أحد الشريكين لا يبطل حق الآخر ولكن يبقى ببقاء محله فأما الخراج محله الذمة وبموته خرجت ذمته من أن تكون صالحة لالتزام الحقوق والمال لا يقوم مقام الذمة فيها فيما طريقه طريق الصلة وقد بينا في كتاب الزكاة وجوب الخراج في أرض الصبي والمجنون؛ لأنه مؤنة الأرض النامية ومال الصبي محتمل للمؤنات بمنزلة النفقات
(قال): ولو أن رجلا عجل خراج أرضه ألف درهم فذلك يجزيه؛ لأن سبب وجوب الخراج ملك الأرض المنتفع بها، ذلك موجود والتعجيل بعد تمام السبب جائز لسنة ولسنتين
ألا ترى أنه لو عجل صدقة الفطر لسنتين كان جائزا فكذلك إذا عجل الزكاة عن النصاب لسنتين كان جائزا فأما إذا عجل عشر أرضه قبل أن يزرعها لم يجزه لأن العشر، وإن كان مؤنة الأرض النامية فإنه لا يجب إلا باعتبار حصول الخارج فلا يتم السبب قبل الزراعة وقبل تمام السبب لا يجوز التعجيل كما لو عجل الزكاة عن الإبل والغنم قبل أن يجعلها سائمة وبعد ما زرعها جاز تعجيل العشر سواء استحصد، أو لم يستحصد؛ لأن سبب الوجوب قد تم، ولم يبق إلى وجوب العشر إلا مجرد مضي الزمان فهو كتعجيل الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول فإن عجل عشر نخله قال: هنا يجزيه، وهو قول أبي يوسف فأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إن حصل الطلع جاز التعجيل وإلا لم يجز لأن ملك النخل
كملك الأرض على معنى أن العشر لا يجب فيه، وإنما يجب في الخارج منه فكما لا يجوز تعجيل العشر باعتبار ملك الأرض قبل الزراعة فكذلك لا يجوز تعجيل عشر النخل قبل أن يخرج الطلع بخلاف ما إذا عجل عشر الزرع قبل أن ينعقد الحب؛ لأن القصيل محل لوجوب العشر فيه بدليل أنه لو قصله كما هو يلزمه أداء العشر منه فلهذا جاز التعجيل باعتباره وأما النخل ليس بمحل للعشر فإنه لو قطعه كان حطبا لا شيء فيه فلا يجوز فيه العشر باعتباره وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - يقول: لم يبق بينه وبين وجوب العشر إلا مجرد مضي الزمان فيجوز التعجيل كما يجوز التعجيل عن الزرع قبل أن ينعقد الحب وعن النصاب قبل أن يحول الحول
(قال) ولو كان في الأرض الخراجية أرض نخل، أو مشجرة فلا خراج فيها لكن يوضع عليها بقدر ما تطيق، ومعنى هذا أنه ليس فيها خراج الكرم، ولا خراج الرطبة، ولا خراج الزرع؛ لأنه ليست بمنزلة هذه الأراضي في الانتفاع ولكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيما وظف من الخراج اعتبر الطاقة حيث قال للذين مسحا الأراضي لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق فقالا: بل حملناها ما تطيق فعرفنا أن المعتبر هو الطاقة ففي المشجرة وأرض النخل تعتبر الطاقة أيضا، ذلك أن ينظر إلى غلته فإن كانت مثل غلة الرطبة فخراجها مثل خراج أرض الرطبة، وإن كانت مثل غلة الكرم، وكذلك.
(قال): فإن عجل خراج أرضه ثم غرقت تلك السنة كلها فإنه يرد عليه ما أدى من خراجها؛ لأنه لم يكن متمكنا من الانتفاع بها فلا يلزمه خراجها ويد الإمام في الخراج المعجل نائبة عن يد صاحب الأرض وقد بينا نظير هذا في زكاة السائمة إذا عجلها فدفعها إلى الساعي ثم هلكت السائمة والمعجل قائم في يد الساعي فإنه يرد عليه فكذلك في الخراج (قال) : فإن زرعها في السنة الثانية فإنه يحسب له ما أدى من خراجها في هذه السنة إن لم يرد عليه؛ لأن يده نائبة في ذلك المال كيده، ولا فائدة في الرد عليه ثم الاستيفاء منه. فإن قيل أليس أنكم قلتم في الزكاة إذا عجلها ولم تجب عليه الزكاة في ذلك الحول فإن المعجل لا يجزئ عما يلزمه في حول آخر. قلنا ذلك فيما إذا دفعها إلى الفقير فتتم تطوعا عند مضي الحول وهنا لا يتم المؤدى خراجا في الحول الأول، ولكن له حق الاسترداد فيحسب ذلك له من خراجه في الحول الثاني
(قال): فإن أجر أرضه سنين فغرقت سنة فلم يفسخ القاضي الإجارة فلا أجر عليه حتى ينضب الماء عنها، ولا خراج على ربها في السنة التي غرقت فيها؛ لأن وجوب كل واحد منهما باعتبار
التمكن من الانتفاع، وقد انعدم إلا أن فرق ما بينهما أن الأجر يجب للمدة التي مضت قبل أن تغرق والخراج لا يجب؛ لأن الأجر عوض يجب شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة فأما الخراج إنما يجب جملة واحدة باعتبار التمكن من الانتفاع ولم يوجد ذلك حين غرقت الأرض وتكون الإجارة على حالها؛ لأن تعذر الانتفاع بالأرض مع بقائها بعارض على شرف الزوال فتبقى الإجارة ما لم يفسخ القاضي العقد فإن فسخ القاضي العقد في تلك الحالة فإنها لا تعود الإجارة مستقبلة؛ لأنه قضى بفسخ العقد والسبب الموجب له قائم هو بمنزلة العبد المستأجر إذا أبق فإن لم يفسخ القاضي العقد حتى عاد كانت الإجارة باقية، وإن فسخ القاضي العقد بينهما لم تعد الإجارة بعد ذلك، وإن عاد من إباقه.
(قال): ولو أن صبيا أدى أبوه عشر أرضه أو خراجها، أو أدى ذلك وصيه فهما ضامنان، وإنما أراد ما إذا أديا العشر إلى الفقراء أو الخراج إلى المقاتلة؛ لأن حق الأخذ فيهما للسلطان فلا يسقط عن الصبي بأدائها إلى الفقراء أو المقاتلة فأما إذا أديا إلى السلطان فلا ضمان عليهما وكيف يضمنا والسلطان يطالبهما بذلك ويجبرهما على الأداء ثم بين مصارف الصدقات والعشر والخراج والخمس والجزية وما يؤخذ من أهل نجران ومن بني تغلب وقد بينا جميع ذلك في كتاب الزكاة.
(قال): فإن اشترى بمال الخراج غنما سائمة للتجارة، وحال عليها الحول فعليه فيها الزكاة، وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت الغنم المأخوذة في الزكاة في يد الإمام، وهي سائمة فحال عليها الحول؛ لأن هناك لا فائدة في إيجاب الزكاة فإن مصرف الواجب والموجب فيه واحد، وهنا في إيجاب الزكاة فائدة فإن مصرف الموجب فيه المقاتلة ومصرف الواجب الفقراء فكان الإيجاب مفيدا فلهذا تجب الزكاة (قال) الشيخ الإمام الأجل - رحمه الله تعالى: وفي هذا الفصل نظر فإن الزكاة لا تجب إلا باعتبار الملك والمالك ولهذا لا تجب في سوائم الوقف، ولا في سوائم المكاتب ويعتبر في إيجابها صفة الغنى للمالك، ذلك لا يوجد هنا إذا اشتراها الإمام بمال الخراج للمقاتلة فلا يجب فيها الزكاة إلا أن يكون مراده أنه اشتراها لنفسه فحينئذ تجب عليه الزكاة باعتبار وجود المالك وصفة الغنى له.
(قال): وإن كان للرجل خمسة وعشرون بعيرا حال عليها الحول ثم استفاد عشرة أبعرة فضمها معها ثم ضاع معها عشرة من الإبل لا يعلم من أيهما هي فعليه ثلاث من الغنم فيها والقياس في ذلك أن يكون عليه خمسة أسباع بنت مخاض وجه القياس أن الجملة كانت خمسة وثلاثين فحين ضاع منها عشرة يجعل ما ضاع مما فيه الزكاة، ومما
لا زكاة فيه بالحصة فيكون خمسة أسباع ما ضاع من مال الزكاة وسبعاه مما لا زكاة فيه وخمسة أسباع العشرة سبعة وسبع وقد كان وجب عليه بنت مخاض في خمسة وعشرين ضاع منها سبعة وسبع، وبقي منها سبعة عشر وستة أسباع خمسة وعشرين فإن كان سبع من خمسة وعشرين ثلاثة وأربعة أسباع فإذا جمعت خمس مرات ثلاثة وأربعة أسباع يكون سبعة عشر وستة أسباع فلهذا كان الواجب فيه خمسة أسباع بنت مخاص ولكنه استحسن فقال: الشرع أوجب الغنم عند قلة الإبل، وإن لم يكن بينهما مجانسة لدفع الضرر عن صاحب المال بإيجاب الشقص عليه كما يدفع الضرر عنه في الابتداء فيجعل الهلاك من مال الزكاة كأن لم يكن فكأن في ملكه سبعة عشر بعيرا وستة أسباع فعليه فيها ثلاثة من الغنم ولكن وجه القياس أقوى؛ لأن معنى دفع الضرر معتبر في الابتداء فأما في حالة البقاء لا يعتبر، ولكن يبقى من الواجب بقدر ما بقي من المال
ألا ترى أنه لا يعتبر النصاب في البقاء بخلاف الابتداء، وقد كان الواجب عند تمام الحول بنت مخاض فلا معنى للتحويل إلى الغنم عند هلاك بعض المال فعرفنا أن وجه القياس أقوى فلهذا فرع على وجه القياس فقال: إن عرف خمسة من الإبل فعليه فيها خمس بنت مخاض وفي الباقية أربعة أخماس ثلثي بنت مخاض أما وجوب خمس بنت مخاض في الخمسة ظاهر؛ لأنه قد وجب بنت المخاض في خمسة وعشرين فيكون في خمسة خمسها ثم بقي من مال الزكاة عشرون وما لا زكاة فيه عشرة والهالك عشرة فثلث الهالك مما لا زكاة فيه وثلثا ما فيه الزكاة، وهو ستة وثلثان فإذا نقصنا ذلك من العشرين بقي ثلث عشر وثلث وقد كان عليه ثلثا بنت مخاض في ستة عشر وثلثان؛ لأنها ثلثا خمسة وعشرين وثلاثة عشر وثلث يكون أربعة أخماسه فإن كل خمس يكون ثلاثة وثلثا فلهذا قال في الباقية أربعة أخماس ثلثي بنت مخاض ولو كان له خمسة وعشرون بعيرا فخلطها بمثلها بعد الحول بيوم ثم ضاع نصفها فعليه في الباقي نصف بنت مخاض؛ لأن نصف الهالك من مال الزكاة ونصفه مما لا زكاة فيه وأن ما بقي نصف مال الزكاة فلهذا قال: عليه نصف بنت مخاض في القياس وينبغي على طريقة الاستحسان أن عليه في الباقي شاتين؛ لأن الهالك يجعل كأن لم يكن والباقي من مال الزكاة اثنا عشر ونصف ولكن وجه القياس أقوى كما بينا وما ذكر بعد هذا إلى آخر الكتاب من مسائل المعدن وصدقة الفطر فقد بينا جميع ذلك في كتاب الزكاة والصوم فلا معنى لإعادة ذلك هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
[كتاب الصوم]
بسم الله الرحمن الرحيم (قال) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي: - رحمه الله تعالى - الصوم في اللغة: هو الإمساك ومنه قول النابغة
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي واقفة ومنه صام النهار إذا وقفت الشمس ساعة الزوال، وفي الشريعة: عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الكف عن قضاء الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج من شخص مخصوص، وهو أن يكون مسلما طاهرا من الحيض والنفاس وفي وقت مخصوص، وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس بصفة مخصوصة، وهو أن يكون على قصد التقرب فالاسم شرعي فيه معنى اللغة وأصل فرضية الصوم ثبت بقوله تعالى {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] إلى قوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] ففيه بيان السبب الذي جعله الشرع موجبا، وهو شهود الشهر وأمر بالأداء نصا بقوله فليصمه وقال - صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس»، وذكر من جملتها الصوم وقد كان وقت الصوم في الابتداء من حين يصلي العشاء أو ينام وهكذا كان في شريعة من قبلنا ثم خفف الله تعالى الأمر على هذه الأمة، وجعل أول الوقت من حين يطلع الفجر بقوله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم} [البقرة: 187] الآية قال أبو عبيد: الخيط الأبيض الصبح الصادق والخيط اللون وفي حديث عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الخيط الأبيض والأسود بياض النهار وسواد الليل» وسبب هذا التخفيف ما ابتلي به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «وما ابتلي به صرمة بن أنس حين رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - مجهودا فقال: ما لك أصبحت طلحا أو قال طليحا» الحديث ومعنى التخفيف أن المعتاد في الناس أكلتان الغداء والعشاء فكان التقرب بالصوم في الابتداء بترك الغداء والاكتفاء بأكلة واحدة وهي العشاء ثم إن الله تعالى أبقى لهذه الأمة الأكلتين جميعا، وجعل معنى التقرب في تقديم الغداء عن وقته كما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السحور إنه الغذاء المبارك والتقرب بالصوم من حيث مجاهدة النفس والمجاهدة في هذا من وجهين: أحدهما: بمنع النفس من
الطعام وقت الاشتهاء والثاني بالقيام وقت حبها المنام ومن المجاهدة حفظ اللسان وتعظيم ما عظم الله تعالى كما بدأ به الكتاب وذكر عن مجاهد - رحمه الله تعالى - أنه كان يكره أن يقول الرجل جاء رمضان وذهب رمضان ولكن ليقل جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان قال لا أدري لعل رمضان اسم من أسماء الله تعالى فكأنه ذهب في هذا إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى» وفي رواية «ولكن عظموه كما عظمه الله تعالى» واختار بعض مشايخنا قول مجاهد في هذا فقال: والصحيح من المذهب أنه يكره ذلك؛ لأن محمدا - رحمه الله تعالى - لم يبن مذهب نفسه، ولا روى خبرا بخلاف قول مجاهد وقالوا: في بيان المعنى إنه مشتق من الإرماض، وهو الإحراق والمحرق للذنوب المذهب لها هو الله تعالى، والذي عليه عامة مشايخنا أنه لا بأس بذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة» وقال: «من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وقال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» وليس فيها ذكر رمضان واثبات الاسم لا يكون بالآحاد وإنما يكون بالمتواتر والمشاهير، ولو كان من أسماء الله تعالى فهو اسم مشترك كالحكيم والعالم ولا بأس بأن يقال: جاء الحكيم والعالم والمراد به غير الله تعالى
(قال): رجل تسحر وقد طلع الفجر، وهو لا يعلم به في شهر رمضان ومراده الفجر الثاني فبطلوع الفجر الأول الذي تسميه العرب ذنب السرحان لا يدخل وقت الصوم قال - صلى الله عليه وسلم: «لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل وكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير المنتشر»، وإذا تبين أن تسحره كان بعد طلوع الفجر الثاني فسد صومه إلا على قول ابن أبي ليلى فإنه يقيسه على الناسي بناء على أصله؛ لأن المخصوص من القياس بالنص يقاس عليه غيره، وعندنا المخصوص من القياس بالنص لا يقاس عليه فإن قياس الأصل يعارضه ولا يلحق به إلا ما كان في معناه من كل وجه، وهذا ليس في معنى الناسي؛ لأن الاحتراز عن هذا الغلط ممكن في الجملة بخلاف النسيان ثم فساد صومه لفوات ركن الصوم، وهو الإمساك، وعليه الإمساك في بقية يومه قضاء لحق الوقت فإن الإمساك في نهار رمضان عند فوات الصوم مشروع قال - صلى الله عليه وسلم: «ألا من أكل فلا يأكل بقية يومه وعليه قضاء هذا اليوم»؛ لأن فوات الأداء بعد تقرر السبب الموجب له فيضمنه بالمثل بما هو مشروع له ولا كفارة عليه
لأنه معذور وكفارة الفطر عقوبة لا تجب إلا على الجاني قال - صلى الله عليه وسلم: «من أفطر في نهار رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر والذي أفطر، وهو يرى أن الشمس قد غابت ثم تبين أنها لم تغب فعليه مثل هذا» وفيه حديث عمر - رضي الله عنه - عنه حين أفطر مع الصحابة يوما فلما صعد المؤذن المئذنة قال الشمس يا أمير المؤمنين قال بعثناك داعيا ولم نبعثك راعيا ما تجانفنا لإثم وقضاء يوم علينا يسير
(قال): رجل أصبح في شهر رمضان جنبا فصومه تام إلا على قول بعض أصحاب الحديث يعتمدون فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «من أصبح جنبا فلا صوم له محمد - صلى الله عليه وسلم - ورب الكعبة قاله».
(ولنا) قوله تعالى {فالآن باشروهن} [البقرة: 187] إلى قوله {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} [البقرة: 187] ، وإذا كانت المباشرة في آخر جزء من أجزاء الليل مباحة فالاغتسال يكون بعد طلوع الفجر ضرورة وقد أمر الله تعالى بإتمام الصوم وفي حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - «أن رجلا سأل رسول الله فقال: إني أصبحت جنبا وأنا أريد الصوم فقال - صلى الله عليه وسلم: وأنا ربما أصبح جنبا وأنا أريد الصوم فقال: لست كأحدنا فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال إني لأرجو أن أكون أعلمكم بما يبقى». ولما بلغ عائشة حديث أبي هريرة قالت: رحم الله أبا هريرة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه وذلك في رمضان فذكر قولها لأبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - فقال: هي أعلم حدثني به الفضل بن عباس - رضي الله تعالى عنه - وكان يومئذ ميتا ثم تأويل الحديث من أصبح بصفة توجب الجنابة، وهو أن يكون مخالطا أهله، وإن احتلم نهارا لم يفطر لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام»
(قال): وإن ذرعه القيء لم يفطر لما روينا ولقول ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - الصوم مما دخل، وإن تقيأ متعمدا فعليه القضاء لحديث علي - رحمه الله تعالى - موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء»؛ ولأن فعله يفوت ركن الصوم، وهو الإمساك ففي تكلفه لا بد أن يعود شيء إلى جوفه ولا كفارة عليه إلا على قول مالك - رحمه الله تعالى - فإنه يقول كل مفطر غير معذور فعليه الكفارة ولم يفصل في ظاهر الرواية بين مليء الفم، وما دونه وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - فرق بينهما، وهو الصحيح فإن ما دون مليء الفم تبع لريقه فكان قياس ما لو تجشأ وملء الفم لا يكون تبعا لريقه ألا ترى أنه ناقض
لطهارته فإن عاد إلى جوفه، أو أعاده فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا ذرعه القيء فرده، وهو يستطيع أن يرمي به فعليه القضاء وروى ابن مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه إذا ذرعه القيء فكان ملء فيه أو أكثر فعاد إلى جوفه فسد صومه تعمد ذلك، أو لم يتعمد والمشهور أن فيه خلافا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فمحمد اعتبر الصنع في طرف الإخراج، أو الإدخال؛ لأنه يفوت به الإمساك وأبو يوسف يعتبر انتقاض الطهارة ليستدل به على أنه ليس بتبع لريقه حتى إذا ذرعه القيء دون ملء الفم، وعاد بنفسه لم يفسد صومه بالاتفاق.
وإن أعاده فسد صومه عند محمد ولم يفسد عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى -، وإن كان ملء الفم فعاد بنفسه فسد صومه عند أبي يوسف ولم يفسد عند محمد، وإن أعاده فسد صومه بالاتفاق، وإن تقيأ أقل من ملء فمه فإن عاد بنفسه يفسد صومه عند محمد ولم يفسد صومه عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى -، وإن أعاده ففيه روايتان عن أبي يوسف في إحداهما لا يفسد صومه؛ لأنه ليس بناقض لطهارته وفي الأخرى يفسد صومه لكثرة صنعه في الإدخال والإخراج جميعا فكان قياس ملء الفم
(قال): وإن احتجم الصائم لم يضره إلا على قول أصحاب الحديث يستدلون فيه بما روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمعقل بن يسار وهو يحتجم في رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم».
(ولنا) حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: «مر بنا أبو طيبة في بعض أيام رمضان فقلنا من أين جئت فقال: حجمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: «أفطر الحاجم والمحجوم شكا الناس إليه الدم فرخص للصائم أن يحتجم» وفي حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم، وهو صائم محرم بالقاحة» وتأويل الحديث الذي روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بهما وهما يغتابان آخر فقال - صلى الله عليه وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم» أي أذهبت ثواب صومهما الغيبة وقيل الصحيح أنه غشي على المحجوم فصب الحاجم الماء في حلقه فقال - صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» أي فطره بما صنع به فوقع عند الراوي أنه قال: أفطر الحاجم والمحجوم ثم خروج الدم من البدن لا يفوت ركن الصوم ولا يحصل به اقتضاء الشهوة وبقاء العبادة ببقاء ركنها
(قال): واذا طهرت الحائض في بعض نهار رمضان لم يجزها صومها في ذلك اليوم لانعدام الأهلية للأداء في أوله، وعليها الإمساك عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - فالأصل عنده أن
من كان مباحا له الإفطار في أول اليوم ظاهرا وباطنا لا يلزمه الإمساك فيه في بقية اليوم؛ لأن وجوب الإمساك في يوم واحد لا يتجزأ كوجوب الصوم، وعلى هذا الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم والمريض إذا برئ والمسافر إذا قدم مصره والمجنون إذا أفاق في بعض النهار لا يلزمهم الإمساك عنده بخلاف يوم الشك إذا تبين أنه من رمضان والمتسحر بعد طلوع الفجر، وهو لا يعلم به؛ لأن الأكل كان مباحا له باطنا والأصل عندنا أن من صار في بعض النهار على صفة لو كان عليها في أول النهار يلزمه الصوم فعليه الإمساك في بقية النهار؛ لأن الإمساك مشروع خلفا عن الصوم عند فواته لقضاء حق الوقت؛ ولأنه لو أكل، ولا عذر به اتهمه الناس والتحرز عن مواضع التهمة واجب قال - صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم». وقال علي - رضي الله تعالى عنه - إياك وما يقع عند الناس إنكاره، وفي رواية ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره فليس كل سامع نكرا يطيق أن يوسعه عذرا، وإن أكلت لم يلزمها شيء؛ لأن الإمساك لحق الوقت، وقد فات على وجه لا يمكن تداركه وعليها قضاء هذا اليوم مع سائر أيام الحيض لما روي أن امرأة قالت لعائشة - رضي الله عنها: ما بال إحدانا تقضي صيام أيام الحيض ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت كنا على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي الصلاة؛ ولأن الحرج عذر مسقط للقضاء كما أنه مسقط للأداء وفي قضاء خمسين صلاة في كل عشرين يوما حرج بين وليس في قضاء صوم عشرة أيام في إحدى عشر شهرا كبير حرج
(قال): ويقبل الصائم ويباشر إذا كان يأمن على نفسه ما سوى ذلك لحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يقبل، وهو صائم» وفي رواية كان يصيب من وجهها، وهو صائم قالت وكان أملككم لأدبه أو لإربه فالأدب العضو والإرب الحاجة «وجاء عمر - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أذنبت ذنبا فاستغفر لي قال وما ذنبك قال هششت إلى امرأتي وأنا صائم فقبلتها فقال: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك فقال: لا قال: فقم إذن» وفيه إشارة إلى معنى بقاء ركن الصوم وانعدام اقتضاء الشهوة بنفس التقبيل فإن كان لا يأمن على نفسه فالتحرز أولى لما روي «أن شابا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة للصائم فمنعه، وسأل شيخ عن ذلك فأذن له فيه فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: قد علمت لم نظر بعضكم
إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه» وهكذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - وفي حديثه «أن الشاب قال له: إن ديني ودينه واحد قال: نعم ولكن الشيخ يملك نفسه»، وهو إشارة إلى معنى تعريض الصوم للفساد والتجاوز عن القبلة إلى غيرها. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وعلى هذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه كره المباشرة الفاحشة للصائم وكذلك بأن يعانقها وهما متجردان ويمس ظاهر فرجه ظاهر فرجها
(قال): وإن اشتبه شهر رمضان على الأسير تحرى وصام شهرا بالتحري؛ لأنه مأمور بصوم رمضان وطريق الوصول إليه التحري عند انقطاع سائر الأدلة كأمر القبلة فإن تبين أنه أصاب شهر رمضان أجزأه؛ لأنه أدرك ما هو المقصود بالتحري، وإن تبين أنه صام شهرا قبله لم يجزه؛ لأنه أدى العبادة قبل وجود سبب وجوبها فلم تجزه كمن صلى قبل، وذكر الشافعي - رحمه الله تعالى - في كتاب الأم أنه إن علم به قبل مضي شهر رمضان فعليه أن يصوم، وإن علم به بعد مضي شهر رمضان جاز صومه، وإن تبين أنه صام شهرا بعده جاز بشرطين إكمال العدة وتبييت النية لشهر رمضان؛ لأنه قاض لما وجب عليه بشهود الشهر وفي القضاء يعتبر هذان الشرطان. فإن قيل كيف يجوز ولم ينو القضاء. قلنا؛ لأنه نوى ما هو واجب عليه من الصوم في هذه السنة، وهذا ونية القضاء سواء فإن تبين أنه صام شوال فعليه قضاء يوم الفطر؛ لأن الصوم فيه لا يجوز عن القضاء، وإن تبين أنه صام ذي الحجة فعليه قضاء يوم النحر وأيام التشريق، وإن تبين أنه صام شهرا آخر فليس عليه قضاء شيء إلا أن يكون رمضان كاملا، وذلك الشهر ناقصا فحينئذ يقضي يوما لإكمال العدة
(قال): وإن صام شهر رمضان تطوعا، وهو يعلم به، أو لا يعلم فصومه عن شهر رمضان والكلام في هذه المسألة على فصول أحدها أن أصل النية شرط لأداء صوم رمضان إلا على قول زفر - رحمه الله تعالى - وحجته أن المشروع في زمان رمضان صوم واحد؛ لأن الزمان معيار للصوم ولا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد ومن ضرورة استحقاق الفرض فيه انتفاء غيره فما يتصور منه من الإمساك في هذا اليوم مستحق عليه لصوم الفرض فعلى أي وجه أتى به يقع من الوجه المستحق، وهو نظير من وهب النصاب الذي وجبت فيه الزكاة من فقير جاز عن الزكاة، وإن لم ينو.
(ولنا) حرفان أحدهما أن المستحق عليه فعل هو عبادة والعبادة لا تكون إلا بالإخلاص والعزيمة قال: - صلى الله عليه وسلم - «الأعمال
بالنيات ولكل امرئ ما نوى»، والثاني أن مع استحقاق الصوم عليه في هذا اليوم بقيت منافعه مملوكة له فإن معنى العبادة لا يحصل إلا بفعل يباشره عن اختيار ويصرف إليه ما هو مملوك له، وصرف منافعه المملوكة إلى ما هو مستحق عليه على وجه يكون مختارا فيه لا يكون إلا عن قصد وعزيمة، وفي مسألة هبة النصاب معنى القصد والعزيمة حصل باختيار المحل ومعنى العزيمة حصل لحاجة المحل ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا يملك الرجوع فيه لحصول المقصود، وهو الثواب وكان أبو الحسن الكرخي - رحمه الله - ينكر هذا المذهب لزفر - رحمه الله تعالى - ويقول المذهب عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما هو قول مالك - رحمه الله تعالى -.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|