رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)

تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)
إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول
فَاتِحَةُ الْكِتَابِ
من صــ93 الى صــ 102
الحلقة (10)
(5) ورواه نافع مولى ابن عمر عنه، عن ابن الزبير (6) .
(1) زيادة من ط.
(2) فضائل القرآن (ص 81) والخصلتين هما: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط.
(3) فضائل القرآن (ص 81) .
(4) مسند البزار برقم (2332) "كشف الأستار" .
(5) رواه البزار في مسنده برقم (2334) "كشف الأستار" والحاكم في المستدرك (1/ 570) وقال الحاكم: "إسناده شاذ" .
(6) رواه البزار في مسنده برقم (2335) "كشف الأستار" .
اغتباط صاحب القرآن
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حسد إلا في (1) اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب فقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل والنهار" (2) .
انفرد به البخاري من هذا الوجه، واتفقا على إخراجه من رواية سفيان عن الزهري (3) ثم قال البخاري: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا روح، حدثنا شعبة، عن سليمان: سمعت ذكوان، عن أبي هريرة؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار "، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل،" ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق "، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل" (4) .
ومضمون هذين الحديثين: أن صاحب القرآن في غبطة وهو حسن الحال، فينبغي أن يكون شديد
(1) في جـ، ط: "على" .
(2) صحيح البخاري برقم (5025) .
(3) صحيح البخاري برقم (7529) وصحيح مسلم برقم (815) .
(4) صحيح البخاري برقم (5026) .
الاغتباط بما هو فيه، ويستحب تغبيطه بذلك، يقال: غبطه يغبطه غبطا: إذا تمنى ما هو فيه من النعمة، وهذا بخلاف الحسد المذموم وهو تمني زوال نعمة المحسود عنه، سواء حصلت لذلك الحاسد أو لا وهذا مذموم شرعا، مهلك، وهو أول معاصي إبليس حين حسد آدم، عليه السلام، على ما منحه الله تعالى من الكرامة والاحترام والإعظام. والحسد الشرعي الممدوح هو تمني مثل حال ذلك الذي هو على حالة سارة؛ ولهذا قال عليه السلام: "لا حسد إلا في اثنتين" ، فذكر النعمة القاصرة وهي تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، والنعمة المتعدية وهي إنفاق المال بالليل والنهار "، كما قال تعالى: { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور } [فاطر: 29] ، وقد روي نحو هذا من وجه آخر، فقال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي بخط يده: كتب إلي"
94@@@
أبو توبة الربيع بن نافع، فكان في كتابه: حدثنا الهيثم بن حميد، عن زيد بن واقد، عن سليمان بن موسى، عن كثير بن مرة، عن يزيد بن الأخنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنافس بينكم إلا في اثنتين: رجل أعطاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ويتبع ما فيه، فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأقوم (1) كما يقوم به، ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفقه ويتصدق، فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدق به" (2) . وقريب من هذا ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبادة بن مسلم، حدثني يونس بن خباب، عن أبي سعيد البختري الطائي، عن أبي كبشة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، فأما الثلاث التي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر، وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه، فإنه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه، ويعمل لله فيه حقه" ، قال: "فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول: لو كان لي مال عملت بعمل فلان" قال: "فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعمل لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت بعمل فلان" . قال: "هي نيته فوزرهما فيه سواء" (3) .
وقال أيضا: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول: لو كان لي مثل"
(1) في ط، م: "فيقوم به" .
(2) المسند (4/ 105) .
(3) المسند (4/ 231) .
هذا عملت فيه مثل
95@@@
الذي يعمل ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فهما في الوزر سواء ". إسناد صحيح (1) "
(1) المسند (4/ 230) .
خيركم من تعلم القرآن وعلمه
حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مرثد، سمعت سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" . وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان، رضي الله عنه، حتى كان الحجاج قال:
وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا (1) .
وقد أخرج الجماعة هذا الحديث سوى مسلم من رواية شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن وهو عبد الله بن حبيب السلمي -رحمه الله (2) .
وحدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه" (3) .
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق عن سفيان، عن علقمة، عن أبي
96@@@
عبد الرحمن، من غير ذكر سعد بن عبيدة (4) كما رواه شعبة ولم يختلف عليه فيه، وهذا المقام مما حكم لسفيان الثوري فيه على شعبة، وخطأ بندار يحيى بن سعيد في روايته ذلك عن سفيان، عن علقمة، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن وقال: رواه الجماعة من أصحاب سفيان عنه، بإسقاط سعد بن عبيدة، ورواية سفيان أصح في هذا المقام المتعلق بصناعة الإسناد، وفي ذكره طول لولا الملالة لذكرناه، وفيما ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك، والله أعلم.
والغرض أنه، عليه الصلاة والسلام، قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وهذه من صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكمل في أنفسهم، المكملون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال تعالى: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب } [النحل: 88] ، وكما قال تعالى: { وهم ينهون عنه وينأون عنه } [الأنعام: 26] ، في أصح قولي (5) المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها } [الأنعام: 157] ، فهذا شأن (6) الكفار، كما أن شأن خيار الأبرار أن يكمل في نفسه وأن يسعى في تكميل غيره كما قال عليه السلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ، وكما قال [الله] (7) تعالى: { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } [ فصلت: 33] ،
(1) صحيح البخاري برقم (5027) .
(2) سنن أبي داود برقم (1452) وسنن الترمذي برقم (2907) وسنن النسائي الكبرى برقم (8037) وسنن ابن ماجة برقم (311) .
(3) صحيح البخاري برقم (5028) .
(4) سنن الترمذي برقم (2908) وسنن النسائي الكبرى برقم (8038) وسنن ابن ماجة برقم (312) .
(5) في جـ: "قول" .
(6) في ط، جـ: "شأن شرار" .
(7) زيادة من ط.
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة من تعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، مما يبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا، فلا أحد أحسن حالا من هذا. وقد كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي -أحد أئمة الإسلام ومشايخهم-من رغب في هذا المقام، فقعد يعلم الناس في (1) إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة، رحمه الله، وآتاه الله ما طلبه ودامه. آمين.
قال (2) البخاري، رحمه الله: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا حماد عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: "أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ورسوله، فقال:" ما لي في النساء من حاجة ". فقال رجل: زوجنيها قال: [" أعطها ثوبا "، قال: لا أجد، قال:" أعطها ولو خاتما من حديد "، فاعتل له، فقال] (3) " ما معك من القرآن ". قال: كذا وكذا. فقال:" قد زوجتكها بما معك من القرآن "(4)"
97@@@
وهذا الحديث متفق على إخراجه من طرق عديدة، والغرض منه أن الذي قصده البخاري أن هذا الرجل تعلم (5) الذي تعلمه من القرآن، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه تلك المرأة، ويكون ذلك صداقا لها على ذلك، وهذا فيه نزاع بين العلماء، وهل يجوز أن يجعل مثل هذا صداقا؟ أو هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟ وهل هذا كان خاصا بذلك الرجل؟ وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "زوجتكها بما معك من القرآن" ؟ أبسبب ما معك من القرآن؟ كما قاله أحمد بن حنبل: نكرمك بذلك أو بعوض ما معك، وهذا أقوى، لقوله في صحيح مسلم: "فعلمها" (6) وهذا هو الذي أراده البخاري هاهنا وتحرير باقي الخلاف مذكور في كتاب النكاح والإجارة، والله المستعان.
(1) في جـ: "من" .
(2) في جـ: "ثم قال" .
(3) زيادة من جـ.
(4) صحيح البخاري برقم (5029) .
(5) في جـ: "يعلمها" .
(6) في جـ: "فتعلمها"
98@@@
القراءة عن ظهر قلب
إنما أفرد البخاري في هذه الترجمة (1) حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، الحديث الذي تقدم الآن، وفيه أنه، عليه السلام، قال لرجل: "فما معك من القرآن؟" . قال: معي سورة كذا وكذا، لسور عددها. قال: "أتقرؤهن (2) عن ظهر قلبك؟" . قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن" (3) .
وهذه الترجمة من البخاري، رحمه الله، مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل، والله أعلم. ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل؛ لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة، كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه، واستدلوا على فضيلة التلاوة في المصحف بما رواه الإمام العلم (4)
(1) في جـ: "هذا الوجه" .
(2) في جـ: "أتقرأ" .
(3) صحيح البخاري برقم (5030) .
(4) في جـ: "العالم" .
أبو عبيد في كتاب (1) فضائل القرآن حيث قال:
حدثنا نعيم بن حماد، عن بقية بن الوليد، عن معاوية بن يحيى، عن سليم بن مسلم، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا، كفضل الفريضة على النافلة" (2) وهذا الإسناد ضعيف (3) فإن معاوية بن يحيى هو الصدفي أو الأطرابلسي، وأيهما كان فهو ضعيف.
وقال الثوري عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف (4) .
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس، عن عمر: أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه (5) .
وقال حماد أيضا: عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن مسعود: أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف، فقرؤوا، وفسر لهم (6) . إسناد صحيح.
99@@@
وقال حماد بن سلمة: عن حجاج بن أرطاة، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال: إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ (7) . وقال الأعمش عن خيثمة: دخلت على ابن عمر وهو يقرأ في المصحف فقال: هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة (8) .
فهذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه، ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيتذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير، فالاستثبات أولى، والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال، فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء، كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على لفظ (9) القرآن، فأما عند العجز عمن يلقن فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية، فإذا قرأ في المصحف -والحالة هذه-فلا حرج عليه، ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه، فقد قال الإمام أبو عبيد:
حدثني هشام بن إسماعيل الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن الأوزاعي؛ أن رجلا صحبهم في سفر قال: فحدثنا حديثا ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ كتبه الملك كما أنزل" (10) .
(1) في ط: "كتابه" .
(2) فضائل القرآن (ص 46) .
(3) في ط: "وهذا الإسناد فيه ضعف" .
(4) فضائل القرآن (ص 46) وقال ابن حجر: "إسناده صحيح" .
(5) فضائل القرآن (ص 46) .
(6) فضائل القرآن (ص 47) .
(7) فضائل القرآن (ص 46) .
(8) فضائل القرآن (ص 47) .
(9) في طـ: "ألفاظ" .
(10) فضائل القرآن (ص 47) .
وحدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني (1) عن بكير (2) بن الأخنس قال: كان يقال: إذا قرأ الأعجمي والذي لا يقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل. وقال بعض العلماء: المدار في هذه المسألة على الخشوع في القراءة، فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف (3) فهو أفضل فإن استويا فالقراءة نظرا أولى؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف قال الشيخ أبو زكريا النووي (4) رحمه الله، في التبيان: والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل.
تنبيه:
إن كان البخاري، رحمه الله، أراد بذكر (5) حديث سهل للدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل منها في المصحف، ففيه نظر؛ لأنها قضية عين، فيحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فلا يدل على أن التلاوة عن ظهر
100@@@
قلب أفضل مطلقا في حق من يحسن ومن لا يحسن، إذ لو دل هذا لكان ذكر حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاوته عن ظهر قلب -لأنه أمي لا يدري الكتابة-أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده.
الثاني: أن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب؛ ليمكنه تعليمها لزوجته، وليس المراد هاهنا: أن هذا أفضل من التلاوة نظرا، ولا عدمه (6) والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) في جـ: "النسائي" .
(2) في جـ: "بكر" .
(3) في ط: "المصحف أكثر" .
(4) في ط: "النواوي" .
(5) في ط: "بذكره" .
(6) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 78) بعد أن ذكر كلام الحافظ ابن كثير هنا: "ولا يرد على البخاري شيء مما ذكر؛ لأن المراد بقوله: باب القراءة عن ظهر قلب، مشروعيتها أو استحبابها، والحديث مطابق لما ترجم به، ولم يتعرض لكونها أفضل من القراءة نظرا، وقد صرح كثير من العلماء أن القراءة من المصحف نظرا أفضل من القراءة عن ظهر قلب" .
استذكار القرآن وتعاهده
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت" هكذا رواه مسلم والنسائي من حديث مالك [به] (1) . وقال الإمام أحمد (2) حدثنا عبد الرزاق، حدثنا (3) معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار، كمثل رجل له إبل، فإن عقلها حفظها، وإن أطلق عقالها ذهبت، فكذلك صاحب القرآن" . أخرجاه، قاله (4) ابن الجوزي في جامع المسانيد، وإنما هو من أفراد مسلم من حديث عبد الرزاق به (5) وحدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل،
(1) صحيح البخاري برقم (031 5) وصحيح مسلم برقم (789) وسنن النسائي (2/ 154) .
(2) المسند (2/ 35) .
(3) في ط: "أخبرنا" .
(4) في جـ: "قال" .
(5) صحيح مسلم برقم (789) .
عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نسي، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم" (1) .
تابعه بشر. هو ابن محمد السختياني، عن ابن المبارك، عن شعبة.
101@@@
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة به (2) وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي من رواية شعبة (3) .
وحدثنا عثمان، حدثنا جرير، عن منصور مثله. وتابعه ابن جريج عن عبدة، عن شقيق: سمعت عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم (4) وهكذا أسنده مسلم من حديث ابن جريج به (5) ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث محمد بن جحادة، عن عبدة (6) وهو ابن أبي لبابة به (7) . وهكذا رواه مسلم عن عثمان وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم عن جرير به (8) وستأتي رواية البخاري له عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن منصور به، والنسائي من رواية ابن عيينة عن منصور به، فقد رواه هؤلاء عن منصور به مرفوعا في رواية هؤلاء كلهم (9) وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله موقوفا (10) وهذا غريب وفي مسند أبي يعلى (11) فإنما هو نسي بالتخفيف (12) .
حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن
102@@@
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها" . وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب محمد بن العلاء وعبد الله بن براد (13) الأشعري، كلاهما عن أبي أسامة حماد بن أسامة به (14) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا موسى بن علي:
(1) صحيح البخاري برقم (5032) .
(2) سنن الترمذي برقم (4922) .
(3) سنن النسائي (2/ 154) .
(4) صحيح البخاري (9/ 79) "فتح" .
(5) صحيح مسلم برقم (790) .
(6) في جـ: "عبيدة" .
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (10560) .
(8) صحيح مسلم برقم (790) .
(9) صحيح البخاري برقم (5039) وسنن النسائي الكبرى برقم (8042) .
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10564) .
(11) مسند أبي يعلى (9/ 69) .
(12) قال القرطبي: معنى التثقيل: أنه عوقب بوقوع النسيان عليه التفريط في معاهدته واستذكاره. ومعنى التخفيف: أن الرجل ترك غير ملتفت إليه، وهو كقوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) [التوبة: 67] أي: تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة.
(13) في جـ: "بردة" .
(14) صحيح البخاري برقم (5033) وصحيح مسلم برقم (791) .
سمعت أبي يقول: سمعت عقبة بن عامر يقول: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1) "تعلموا كتاب الله، وتعاهدوه وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل" (2) .
ومضمون هذه الأحاديث الترغيب في كثرة تلاوة القرآن واستذكاره وتعاهده؛ لئلا يعرضه حافظه للنسيان (3) فإن ذلك خطر كبير، نسأل الله العافية منه، فإنه قال الإمام أحمد:
حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن فائد، عن رجل، عن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير عشرة إلا ويؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه عن ذلك الغل إلا العدل، وما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم القيامة يلقاه وهو أجذم" (4) .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 20-11-2025 الساعة 12:22 PM.
|