عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 13-11-2025, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)




تفسير القرآن العظيم
(تفسير ابن كثير)

إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
الجزء الاول
من صــ33 الى صــ 42

الحلقة (4)









[نقلت هذه من على ظهر الجزء الأول من أجزاء المؤلف] (5) .أ . هـ.
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى أبو بكر -مقتل أهل اليمامة-فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني، فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد
(1)
في م: "قال المؤلف، رحمه الله، فيما وجد على ظهر الجزء الأول من تفسيره" وسيأتي هذا في ط في آخر الفائدة.

(2)
رواه مسلم في صحيحه برقم (672) من حديث عقبة بن عمرو، رضي الله عنه.

(3)
تفسير القرطبي (1/ 57) .

(4)
تفسير القرطبي (1/ 57) .

(5)
زيادة من ط.

كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز } [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم (1) .
وقد روى البخاري هذا [الحديث] (2) في غير موضع من كتابه، ورواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به (3) .
وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق، رضي الله عنه، فإنه أقامه الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغي لأحد بعده، قاتل الأعداء من مانعي الزكاة، والمرتدين، والفرس والروم، ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا، ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه، وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله، وكان هذا
34@@@
من سر قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9] فجمع الصديق الخير وكف الشرور، رضي الله عنه وأرضاه. ولهذا روى غير واحد من الأئمة منهم وكيع وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين (4) . إسناده صحيح.
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ختمه (5) . صحيح أيضا. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو الذي تنبه لذلك لما استحر القتل بالقراء، أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة، يعني: يوم اليمامة، يعني يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض اليمامة في حديقة الموت، وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف، فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفا، فالتقوا معهم (6) فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد، يقولون: ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا (7) منهم، وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله
(1)
صحيح البخاري برقم (4986) .

(2)
زيادة من جـ.

(3)
صحيح البخاري برقم (4679، 4989) والمسند (1/ 10) وسنن الترمذي برقم (3103) وسنن النسائي الكبرى برقم (7995) .

(4)
رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 156) وابن أبي داود في المصاحف (ص 11) .

(5)
المصاحف (ص 12) .

(6)
في جـ: "بهم" .

(7)
في جـ: "فميزوا" .

عليهم وولى جيش الكفار (1) فارا، وأتبعتهم السيوف المسلمة في [أقنيتهم] (2) قتلا وأسرا، وقتل الله مسيلمة، وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام، ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة، رضي الله عنهم، فلهذا أشار عمر على الصديق بأن يجمع القرآن؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته، فراجعه الصديق قليلا ليثبت في الأمر، ثم وافقه، وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا (3) إلى ما رأياه، رضي الله عنهم أجمعين، وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت الأنصاري؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد، حدثنا يزيد، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن؛ أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله، فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف (4)
35@@@
هذا منقطع، فإن الحسن لم يدرك عمر، ومعناه: أشار بجمعه فجمع؛ ولهذا كان مهيمنا على حفظه وجمعه كما رواه ابن أبي داود حيث قال: حدثنا أبو الطاهر (5) حدثنا ابن وهب، حدثنا عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر لما جمع القرآن كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان (6) .
وذلك عن أمر الصديق له في ذلك، كما قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ فرق أبو بكر، رضي الله عنه، أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (7) . منقطع حسن.
ولهذا قال زيد بن ثابت: وجدت آخر سورة التوبة، يعني قوله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر الآيتين [التوبة: 128، 129] ، مع أبي خزيمة الأنصاري، وفي رواية: مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره فكتبوها عنه لأنه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين في قصة الفرس التي ابتاعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعرابي، فأنكر الأعرابي البيع، فشهد خزيمة هذا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمضى شهادته وقبض الفرس من الأعرابي. والحديث رواه أهل السنن (8) وهو مشهور، وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أن أبي بن كعب أملاها عليهم مع خزيمة بن ثابت (9)
36@@@
وقد روى ابن وهب عن عمرو (10) بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى
(1)
"."

ابن عبد الرحمن بن حاطب؛ أن عثمان شهد بذلك أيضا (1) .
وأما قول زيد [بن ثابت] (2) "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال" وفي رواية: "من العسب والرقاع والأضلاع، وفي رواية:" من الأكتاف والأقتاب وصدور الرجال "."
أما العسب فجمع عسيب. قال أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري: وهو من السعف فويق الكرب لم ينبت عليه الخوص، وما نبت عليه الخوص فهو السعف.
واللخاف: جمع لخفة وهي القطعة من الحجارة مستدقة، كانوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير ذلك، مما يمكنهم الكتابة عليه مما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه، فكان يحفظه، فتلقاه زيد بن ثابت من هذا من عسيبه، ومن هذا من لخافه، ومن صدر هذا، أي من حفظه، وكانوا أحرص شيء على أداء الأمانات وهذا من أعظم الأمانة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أودعهم ذلك ليبلغوه إلى من بعده كما قال [الله] (3) تعالى: { ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [المائدة: 67] ، ففعل، صلوات الله وسلامه عليه، ما أمر به؛ ولهذا سألهم في حجة الوداع يوم عرفة على رؤوس الأشهاد، والصحابة أوفر ما كانوا مجتمعين، فقال: "إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون (4) ؟" . فقالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يشير بأصبعه إلى السماء، وينكبها عليهم ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد" . رواه مسلم عن جابر (5)
37@@@
وقد أمر أمته أن يبلغ الشاهد الغائب وقال: "بلغوا عني ولو آية" (6) يعني: ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية واحدة فليؤدها إلى من وراءه، فبلغوا عنه ما أمرهم به، فأدوا القرآن قرآنا، والسنة سنة، لم يلبسوا هذا بهذا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "من كتب عني سوى القرآن فليمحه" (7) أي: لئلا يختلط بالقرآن، وليس معناه: ألا يحفظوا السنة ويرووها، والله أعلم.
فلهذا نعلم بالضرورة أنه لم يبق من القرآن مما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم إلا وقد بلغوه إلينا، ولله الحمد والمنة، فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، من أكبر المصالح الدينية وأعظمها، من حفظهما كتاب الله في الصحف؛ لئلا يذهب منه شيء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته، ثم أخذها عمر بعده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قال البخاري، رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن
(1
أنس بن مالك، حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف
38@@@
إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في محل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن شهاب الزهري: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، التمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [الأحزاب: 23] ، فألحقناها في سورتها في المصحف (1) .
وهذا -أيضا-من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة؛ لئلا يختلفوا في القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة، وإنما روي عن عبد الله (2) بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرقه ماعدا المصحف الإمام، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا. فاتفق الأئمة (3) أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، على أن ذلك من مصالح الدين، وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (4) . وكان السبب في هذا حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه لما (5) كان غازيا في فتح أرمينية وأذربيجان، وكان قد اجتمع هناك أهل الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى، ورأى منهم اختلافا وافتراقا، فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب، فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا، وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ولا حرف الياء، والنصارى -أيضا-بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي مخالفة لنسختي اليهود والسامرة، وأما
(1)
صحيح البخاري برقم (4987 ، 4988) .

(2)
في ط، جـ: "عبد الرحمن" .

(3)
في ط، جـ: "الأربعة" .

(4)
رواه أحمد في المسند (4/ 126) وأبو داود في السنن برقم (07 46) والترمذي في السنن برقم (2676) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" .

(5)
في ط، جـ: "فإنه" .

الأناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة: إنجيل مرقس، وإنجيل لوقا وإنجيل
39@@@
متى، وإنجيل يوحنا، وهي مختلفة -أيضا-اختلافا كثيرا، وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط، ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو بالضعف، ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلامه وفيه شيء قليل مما يدعون أنه كلام الله، وهي مع هذا مختلفة، كما قلنا، وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة.
فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التي عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد، وينفذه إلى الآفاق، ويجمع الناس على القراءة به وترك ما سواه، ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلاء الأربعة وهم زيد بن ثابت الأنصاري، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعملا وأصلا وفضلا وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي، وكان كريما جوادا ممدحا، وكان أشبه الناس لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، فجلس هؤلاء النفر يكتبون القرآن نسخا، وإذا اختلفوا في وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان، كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء، فقال زيد بن ثابت: إنما هو التابوه وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت فتراجعوا (1) إلى عثمان فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم.
وكان عثمان -والله أعلم-رتب السور في المصحف، وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين؛ ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الأئمة الكبار، عن عوف الأعرابي، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما
40@@@
حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" ، ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتها في السبع الطوال (2) .
(1)
في ط: "فترافعوا" .

(2)
تفسير الطبري (1/ 102) وسنن أبي داود برقم (786) وسنن الترمذي برقم (3086) وسنن النسائي الكبرى برقم (8007) ويزيد الفارسي مجهول وقد انفرد بهذا الحديث.

ففهم من هذا الحديث أن ترتيب الآيات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ ولهذا ليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا مرتبا؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا. وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء بعثمان، رضي الله عنه، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ، عليه الصلاة والسلام، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية، فإن فرق جاز، كما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيد بقاف واقتربت الساعة، رواه مسلم عن أبي واقد (1) في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان (2) .
وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا، فقد روى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران. أخرجه مسلم (3) .
وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف. ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت، فأخذها من عبد الله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الآفاق، مصحفا إلى أهل مكة، ومصحفا إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وترك عند أهل المدينة
41@@@
مصحفا، رواه أبو بكر بن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني، سمعه يقوله (4) . وصحح القرطبي أنه إنما نفذ إلى الآفاق أربعة مصاحف. وهذا غريب، وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق لئلا تختلف قراءات الناس في الآفاق، وقد وافقه الصحابة في عصره على ذلك ولم ينكره أحد منهم، وإنما نقم عليه ذلك أولئك الرهط الذين تمالؤوا عليه وقتلوه، قاتلهم الله، وفي ذلك جملة ما أنكروه مما لا أصل له، وأما سادات المسلمين من الصحابة، ومن نشأ في عصرهم ذلك من التابعين، فكلهم وافقوه.
قال أبو داود الطيالسي وابن مهدي وغندر عن شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن رجل، عن سويد بن غفلة، قال علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته (5) .
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق (6) عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال: لم ينكر ذلك منهم أحد (7) . وهذا إسناد صحيح.
وقال أيضا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف، حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا ثابت بن عمارة
(1)
صحيح مسلم برقم (891) .

(2)
صحيح البخاري برقم (891) وصحيح مسلم برقم (880) .

(3)
صحيح مسلم برقم (772) .

(4)
المصاحف لابن أبي داود (ص 43) .

(5)
رواه ابن أبي داود في المصاحف (ص19) .

(6)
في جـ: "أبي مصعب" .

(7)
المصاحف (ص19) .

الحنفي، قال: سمعت غنيم بن قيس المازني قال: قرأت القرآن على الحرفين جميعا، والله ما يسرني أن عثمان لم يكتب المصحف، وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلام، فأصبح له مثل ماله. قال: قلنا له: يا أبا العنبر، ولم؟ قال: لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون الشعر (1) .
حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثني عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرؤون الشعر. حدثنا أحمد بن سنان قال: سمعت ابن مهدي يقول: خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبي بكر ولا لعمر: صبره نفسه حتى قتل مظلوما، وجمعه الناس على المصحف (2) .
42@@@
وأما عبد الله بن مسعود فقد قال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حميد (3) بن مالك قال: لما أمر عثمان بالمصاحف -يعني بتحريقها-ساء ذلك عبد الله بن مسعود وقال: من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغلل، فإنه من غل شيئا جاء بما غل يوم القيامة.
ثم قال عبد الله: لقد قرأت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد صبي، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
وقال أبو بكر: حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، حدثنا سعيد بن سليمان (5) حدثتا ابن (6) شهاب، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } [آل عمران: 161] ، غلوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته. قال أبو وائل: فلما نزل عن (7) المنبر جلست في الحلق، فما أحد ينكر ما قال (8) . أصل هذا مخرج في الصحيحين (9) وعندهما: ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله. وقول أبي وائل: "فما أحد ينكر ما قال" ، يعني: من فضله وعلمه وحفظه، والله أعلم.
وأما أمره بغل المصاحف وكتمانها، فقد أنكره عليه غير واحد. قال الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء، فقال: كنا نعد عبد الله جبانا (10) فما باله يواثب الأمراء (11)









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 20-11-2025 الساعة 11:43 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.69 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]