مكارم الأخلاق .. التواضع
«رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا؛ حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل» عبدالله المبارك.
- عبارة جميلة، لإمام عالم عامل، ولأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: «إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: التواضع»، وعن يحيى بن أبي كثير: «أفضل الأعمال الورع وأفضل العبادة التواضع»، وفي بيان قول الله -تعالى-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (الفرقان:63)، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين».
كنت وصاحبي أستاذ الشريعة، في طريقنا لقضاء حاجة صبيحة يوم السبت، قررنا أن نتناول طعام (الصبحية) في أحد المجمعات.
- عجبت لأمر هذا الإنسان، ينقلب حاله بين يوم وليلة؛ لأنه عيّن في منصب رفيع، أو أزيل من هذا المنصب، ألم تلاحظ ذلك في بعض الناس الذين تعرفهم؟! - بلى ولا نستطيع التعميم، ولكن نعم هذا حال كثير من الناس، يرى نفسه من خلال ماله، أو منصبه، أو عشيرته، أو غير ذلك من أمور الدنيا، ويستثنى من ذلك عباد الله المؤمنين! - إن التواضع عبادة عظيمة، يبدأ بالتواضع لأوامر الله -عز وجل-، وكتاب الله -تعالى-، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون خلقا مع الناس جميعا ولاسيما من هم أضعف، وقد أمر الله -تعالى- به هذه الأمة من خلال خطاب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر:88)، قال القرطبي: «ألن جانبك لمن آمن بك، وتواضع لهم».
- بلغنا المكان الذي نريد، مطعم إفطار تركي متكامل، بخمسة دنانير للشخص، لا حاجة أن تطلب شيئا سوى طريقة عمل البيض.
تابعنا حديثنا: - وكذلك قوله -تعالى في وصف المؤمنين-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (المائدة:54).
في تفسير ابن كثير: «هذه صفات المؤمنين الكمل، أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه»، وكذلك في وصف الفائزين يوم القيامة.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83).
- وماذا عن حديث من تواضع رفعه الله؟ - نعم هذا الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله -عز وجل-» (مسلم)، يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «والتواضع وعدم التكبر من أسباب الرفعة في الدنيا والآخرة».
ويقول القاضي عياض: «فيه وجهان: أحدهما أن الله -تعالى- يمنحه ذلك في الدنيا جزاء على تواضعه، فيثبت له في القلوب محبة ومكانة وعزة، والثاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه»، وقول الشيخ ابن باز -رحمه الله- أشمل؛ ففضل الله واسع! وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه خطبهم فقال: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد».
- وهل الحديث في ترك اللباس الثمين للتواضع والزهد صحيح؟! - نعم، الحديث عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره أي حلل الإيمان شاء يلبسها» (رواه الترمذي وقال الألباني: حسن لغيره).
- سبحان الله! لم أكن متأكدا من هذا الحديث. - في (تطريز رياض الصالحين)، في هذا الحديث فضيلة ترك الفاخر من اللباس تواضعا لله، (أي بنية التواضع لله والزهد في الدنيا)، وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي قال: ذكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما عنده الدنيا فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تسمعون ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان» (صحيح أبي داود).
استدركت على صاحبي: - وكيف نوفق بين هذا وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده»، عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- (صحيح البخاري). - في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب أن يرى»: بصيغة المجهول أي يبصر ويظهر أثر نعمه: أي إحسانه وكرمه -تعالى- على عبده: فمن شكرها إظهارها، ومن كفرانها كتمانها.
قال المظهر: «يعني إذا آتى الله عبدا من عباده نعمة من نعم الدنيا فليظهرها من نفسه، بأن يلبس لباسا يليق بحاله، لإظهار نعمة الله عليه، وليقصده المحتاجون لطلب الزكاة والصدقات، وكذلك العلماء يظهرون علمهم ليستفيد الناس منهم» اهـ. فإن قلت: أليس قد حث على البذاذة؟ قلت: إنما حث عليها لئلا يعدل عنها عند الحاجة، ولا يتكلف للثياب المتكلفة كما هو مشاهد في عادة الناس، حتى في العلماء والمتصوفة، فأما من اتخذ ذلك ديدنا وعادة مع القدرة على الجديد والنظافة، فلا؛ لأنه خسة ودناءة، ويؤيد ما ذكرنا ما رواه البيهقي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالى- يحب المؤمن المتبذل الذي لا يبالي ما لبس» (رواه الترمذي): وكذا الحاكم عن ابن عمر.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «وهذا يعني أن الإنسان إذا كان بين أناس متوسطي الحال لا يستطيعون اللباس الرفيع، فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلا تنكسر قلوبهم، ولئلا يفخر عليهم، فإنه ينال هذا الأجر العظيم، أما إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم، ويلبسون الثياب الرفيعة لكنها غير محرمة، فإن الأفضل أن يلبس مثلهم؛ لأن الله -تعالى- جميل يحب الجمال، ولا شك أن الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال، يلبسون الثياب الجميلة، ولبس دونهم فإن هذا يعدّ لباس شهرة؛ فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال».
اعداد: د. أمير الحداد