مكارم الأخلاق .. كفّ الأذى
هناك بعض الأشخاص يتجنبهم الناس لسوء خُلقهم وسلاطة ألسنتهم؛ فطلبت من خطيبنا أن يكون موضوع خطبته (كف الأذى)؛ فكان مما ذكره -جزاه الله خيرا-: - إن كف الأذى عن كل مسلم عبادة جليلة، دلّ الكتاب والسنة على فضلها وعِظم منزلتها، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال - صلى الله عليه وسلم-: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» (متفق عليه) وفي صحيح الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يتناجى اثنان دون واحد؛ فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله -عز وجل- يكره أذى المؤمن» (صححه الألباني)، والشاهد (أن الله -عز وجل- يكره أذى المؤمن). كانت خطبة قصيرة ماتعة، اجتمعنا بعدها في مكتبة (أبو عبدالله) كعادتنا عقب كل جمعة. - لقد أجاد وأصاب أبو عمر في خطبته.
- لعل هؤلاء يتعظون، دعونا نسترجع بعض ما ورد في الخطبة. عن أبي ذر قال: قلت: يا نبي الله أي العمل أفضل قال - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرِقاب أفضل يا نبي الله؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا، قال: قلت: أرأيت إن لم أفعل، قال: تعين ضعيفا أو تصنع لأخرق، قال: قلت: أرأيت إن ضعفت، قال: تكف شرك عن الناس فإنه صدقة منك على نفسك» (متفق عليه) وفي الصحيحين: «من سلم المسلمون من لسانه ويده».
- كف الأذى عبادة يؤجر عليها العبد، كما أنه يأثم إذا آذى إخوانه، وحديث الصوامة القوامة معروف رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قال رجل يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال - صلى الله عليه وسلم -: هي في النار، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الإقط ولا تؤذي جيرانها، قال: هي في الجنة» (صحيح الترغيب).
شاركنا المجلس مؤذننا (أبو أحمد)، قبل أن يأخذ مجلسه، أدلى بدلوه، وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جَوف رَحله»، ونظر ابن عمر -رضي الله عنهما- إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وما أعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك!» الترمذي (صححه الألباني).
- أحسنت يا أبا أحمد، وحديث المفلس يعرفه الجميع، وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:« أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
- المشكلة أن الأذى المعنوي أشد من الأذى البدني، أذى اللسان أشد من أذى اليد، الغيبة والنميمة والسب والقذف والسخرية وشهادة الزور واللغو، كل هذا مصدره اللسان، وهي من الذنوب التي لا تغفر يوم القيامة، وإنما مدارها على المقاصة كما في حديث المفلس، وهي من الذنوب التي لا ينتبه لها كثير من المسلمين؛ وبذلك نفهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حديث معاذ، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير؛ فقلت يا نبي الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجلِ فِي جوفِ الليلِ، ثم قرأ قوله -تعالى-: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ فقلت له: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا؛ فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟» (السلسلة الصحيحة).
قال ابن عثيمين في (مكارم الاخلاق): أما حُسن الخلق مع المخلوق فعرّفه بعضهم بأنه كفّ الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه.
ويذكر ذلك عن الحسن البصري -رحمه الله-، معنى كف الأذى: أن يكف الإنسان أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض، فمن لم يكف أذاه عن غيره فليس بحسن الخلق، بل هو سيئ الخلق، وقد أعلن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرمة أذية المسلم بأي نوع من الإيذاء، وذلك في أعظم مجمع اجتمع فيه بأمته؛ حيث قال: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (البخاري).
إذا كان رجل يعتدي على الناس بأخذ المال، أو يعتدي على الناس بالغش، أو يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس بالسب والغيبة والنميمة، لا يكون هذا حسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجها إلى من له حق عليك أكبر، فالإساءة إلى الوالدين مثلا أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا جيرانا لك؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن! قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه» (متفق عليه).
معنى بذل الندي: الندى هو الكرم والجود، يعني: أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس أنه بذل المال فقط، بل الكرم يكون في بذل النفس وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، وفي بذل العلم. وعن الحسن البصري أنه كان بمكة وكثر الناس عليه؛ فقال: أيها الناس، إن سرّكم أن تسلموا ويسلم لكم دينكم، فكفوا أيديكم عن دماء الناس، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم، وكفوا بطونكم عن أموالهم.
واعلم: أن حسن الخلق مع المرأة ليس كفّ الأذى عنها فحسب، بل باحتمال أذاها، والحلم على طيشها وغضبها! وذلك اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ففى (الصحيحين)، من حديث عمر - رضي الله عنه - أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. والحديث مشهور.
اعداد: د. أمير الحداد