عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 27-10-2025, 12:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,805
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




حكم الوصف في الشهادة بالزنا وحدوده وضوابطه
قال رحمه الله: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها] كأن يقول: فلان زنى بفلانة، وفيه للعلماء وجهان: فبعض العلماء يقول: لا ينبغي للقاضي أن يعنت الشهود، بمعنى: أن يحرجهم بالأسئلة إلى أن يدخل في تفاصيل قد تحدث الضرر عند الشاهد، وحينئذ يكون هذا من التعنيت، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة:282] ، فحرم علينا الإضرار بالشهداء، ولذلك تعامل العلماء مع هذه القضية بحذر، بمعنى: أنهم لا يجيزون للقاضي أن يسأل الشهود إلا في حدود معينة وبضوابط مقيدة؛ كل هذا حتى لا يعتبر من تعنيت الشهود والإضرار بهم، فالوسط الذي هو بين الإفراط والتفريط.
فيسأله عن مكان الزنا، فيقول: فلان زنى بهذه في مكان كذا، أو فلان زنى بفلانة بنت فلان بنت فلان على وجه ينتفي به اللبس؛ لأنه ربما يقول: رأيته يفعل بالمرأة، وقد تكون زوجته، وحينئذ فلابد أن يتفق الشهود على هذا، فلو قال أحدهم: زنى بالليل، وقال الآخر: زنى بالنهار، وقال أحدهم: رأيته يزني في غرفة، وقال الآخر: رأيته يزني في العراء في البر، فحينئذ ثبت على أن هذه جريمة وهذه جريمة، وهذه شهادتها ناقصة وهذه شهادتها ناقصة.
ومن هنا يحتاط القاضي لأعراض المسلمين، وهذا ليس من الظلم والحيف، وإنما هو من الحياد؛ حتى تكون الشهادة موثوقا بها، مبنية على أصول صحيحة، ويظهر بها صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك فإن كثيرا من المظالم وشهادات الزور انكشفت بفضل الله عز وجل ثم بفطنة القضاة وحسن تعاملهم مع الشهود، فقد استطاعوا أن يدركوا أو يبينوا كذب الشهود وزيفهم، ومما يظهر به فضل الله عز وجل على القضاة حسن استخراجهم للخلل والخطأ في الشهادة حتى ترد.
ضرورة البيان لما يعتبر في الحكم
قال رحمه الله: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل] كما ذكرنا؛ لأن الأحكام اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وقد يكون هناك أمر يظنه على شكل والواقع أنه على شكل آخر، ومن هنا فلا يقبل الإجمال فيما ينبغي فيه البيان، سواء كانت من الأمور الشرعية، أو من الأمور المحتملة في بعض الوقائع، ومن هنا قال المغيرة رضي الله عنه لـ عمر -لما اتهم بالزنا وجيء بالشهود، وكان يعتبر من دهاة العرب-: يا أمير المؤمنين!: أرآني مدبرا أم مقبلا؟ فقال: رأيته من رجليه، يعني: مدبرا، فقال: ما درى أنها فلانة زوجتي، فأفحم الشاهد بهذا.
وهناك أشياء لا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحسس، ونهى عن سوء الظن، ونهى عن المحامل التي لا تنبغي، وكم من أمور ظاهرها الخلل وهي مبنية على براءة وغفلة، ومن هنا ينبغي للشهود أن يتحروا، وأن يتأكدوا، وأن تثبت شهادتهم على وجه لا شك فيه ولا لبس.


شروط من تقبل شهادته
قال رحمه الله: [فصل: شروط من تقبل شهادته ستة] .
نجملها قبل البيان والتفصيل، فقد شرع رحمه الله في شروط الشهادة؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي أن لا نقبل كل شهادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282] وصدر الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282] ، فقال: (يا أيها الذين آمنوا.
من رجالكم) ، فخصص ولم يعمم؛ لأن صدر الآية مخاطب به المؤمنون، فدل على أن قوله: (من رجالكم) أي: من المؤمنين؛ لأنه قال: (يا أيها الذين آمنوا) ، وقوله: (رجالكم) ، الكاف كاف خطاب، إذا لا تقبل شهادة كافر.
ومفهوم ذلك أيضا: أن الصبي لا تقبل شهادته، وأن المرأة لا تقبل شهادتها من حيث الأصل في بعض القضايا، مثل: الحدود وغيرها، ولكن استثنى الشرع قبول شهادتها في بعض القضايا.
قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، فهذا استثناء، وكذلك قال: (ممن ترضون من الشهداء) ، فخرج الذي لا يرضى في مضمون الشهادة، كالشخص الذي فيه غفلة وفيه ضعف في الضبط، ومن لا يرضى من ساقط العدالة، وهو الفاسق، ولا يرضى مخروم المروءة، وسنبين علته، فهذه الآية أصل في بيان أن الشهادة لا يقبل فيها كل أحد، ومن هنا يجب أن يكون الشاهد قد توفرت فيه صفات معتبرة، وهذه الصفات مقصود الشرع من اشتراطها وإلزام الناس بها: أن يتوصل إلى الشهادة الصحيحة، وأن يكون العمل بمضمونها بما تحصل به الطمأنينة، ومن هنا اعتنى الفقهاء والأئمة رحمهم الله، وجاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة ذي الحنة، وهو الذي بينه وبين من شهد عليه إحنة وعداوة، وأجمع العلماء رحمهم الله على رد شهادة الكفار إلا فيما استثناه الدليل، وسيأتي إن شاء الله، وأجمعوا على رد شهادة الصبي من حيث الأصل إلا في مسائل، وأجمعوا على رد شهادة المجنون وشهادة خفيف الضبط، ومن فيه غفلة وعند نسيان، ونحو ذلك.


الشرط الأول: البلوغ

قال رحمه الله: [البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبيان] .
البلوغ: هو انتقال الصبي من طور الصبا إلى طور الحلم.
وقوله: (فلا) الفاء للتفريع، أو تفصيلية، والأصل في اشتراط البلوغ قوله تعالى: {من رجالكم} [البقرة:282] ، والصبي ليس برجل هذا أولا.
وثانيا: أن الصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ناقص الإدراك وناقص العقل، وقد يرى أشياء لا يميزها، وقد ينتابه الخوف وينتابه الاستعجال، فحينئذ لا يوثق بقوله وخبره.
ثالثا: قال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، والصبي لا ترضى شهادته للعلل التي ذكرناها، فاجتمع الدليلان: الدليل الأول: {من رجالكم} [البقرة:282] ، والصبي ليس من الرجال، وقد لفت إلى هذا الوجه ابن عباس حبر الأمة ترجمان القرآن رضي الله عنهما في دلالته على رد شهادة الصبيان.
وقد استثنيت مسألة وقع فيها الخلاف بين السلف رحمهم الله والأئمة، وهي: شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فمثلا: لو وقعت حادثة كأن يضرب صبي صبيا، أو حصل شيء بين الصبيان وهم مع بعض، فمذهب عبد الله بن الزبير من الصحابة والمالكية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله: أنه تقبل شهادة الصبيان في هذه المسألة خاصة، واشترطوا شروطا: الأول: أن يكون فيما بينهم؛ لأن الغالب أن لا يحضره الرجال، وهذا ما يسمونه: شهادة الحاجة، أي: أنه وجدت حاجة لقبولها، كالحوادث التي تقع بين الأطفال.
الثاني: أن لا يدخل بينهم كبير، وأن لا يختلطوا بالكبار، فيؤخذون بعد الحادث مباشرة، وتؤخذ أقوالهم بعد الحادثة، قبل أن يدخل بينهم كبير ويلقنهم، وقبل أن يختلطوا بأهليهم وبالناس، لأنه قد يحدث التخويف والترويع، فتختلف شهادتهم.
والصحيح: أنه لا تقبل شهادتهم مطلقا؛ لظاهر النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم) ، فالصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ليس مؤاخذا على كذب، وليس مؤاخذا على خلل يفعله، ولو كان عمدا، ومن هنا ترد شهادته حتى ولو كانت على الصبيان.


الشرط الثاني: العقل

قال رحمه الله: [الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه] قوله: (العقل، فلا تقبل شهادة مجنون) وهذا بالإجماع؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، وفي الحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة ذي الجنة) ، وهو المجنون، فدل على اشتراط العقل في الشاهد، فلا تقبل شهادة المجانين بالإجماع.
وكذلك المعتوه، والعته: ضرب من الخفة في العقل بحيث لا يضبط الأشياء ولا يميزها، وقد يلقن ويقبل التلقين، ويستعجل بالأمور، ولذلك لا يوثق بخبره.
قال رحمه الله: [وتقبل ممن يخنق أحيانا في حال إفاقته] أي: تقبل الشهادة ممن يجن تارة ويفيق تارة إذا أداها في حال إفاقته؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وقد تقدم نظائر لهذه المسألة.

الشرط الثالث: الكلام

قال رحمه الله: [الثالث: الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته، إلا إذا أداها بخطه] أولا: لا تقبل شهادة الأخرس؛ لأن الشهادة محتملة، والحركات محتملة، حتى ولو وجد من يفسرها، فلا تقبل شهادة الأخرس.
ثانيا: يستثنى من هذا أن يكتبها؛ لأن الكتابة تنزل منزلة المقال، ودليلنا على أن الكتابة تنزل منزلة المقال: أن الله تعالى يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة:67] ، فأمره الله بالبلاغ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض، ونزل الكتابة منزلة العبارة والقول، فأخذ العلماء من هذا أصلا وهو: أن من كتب الطلاق فإنه يمضي عليه طلاقه، ومن كتب الكفر حكم بردته، ومن كتب شهادته قبلت شهادته؛ لأن كتابته تنزل منزلة العبارة، فكأنه متكلم.

الشرط الرابع: الإسلام

قال رحمه الله: [الرابع: الإسلام] أي: من الشروط الإسلام، فلا تقبل شهادة الكافر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} [البقرة:282] ، ثم قال: {من رجالكم} [البقرة:282] ، وقد قدمنا أن الكاف للخطاب، فخص به المؤمنين، فدل على أنه لا تقبل شهادة الكافرين.
هذا أولا.
ثانيا: يقول الله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج:18] ، والكفر قد أهان الله أهله، والشهادة تكريم؛ لأن الشاهد يحكم على غيره، ومن هنا فلا يمكن أن يكرم من أهانه الله عز وجل.
ثالثا: أنه لا تقبل شهادته على المسلم، وهذا ظاهر؛ لأن فيها نوعا من العلو، وقد قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] ، فالشاهد له سلطان وله علو وله قوة على المشهود عليه؛ لأنه يضر به ويقبل قوله، والكافر ليس بأهل لهذا العلو.
رابعا: أن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظم العداوة عداوة الدين، فقد يعتقد الكافر التقرب لآلهته ومن يعبده بأذية المسلمين.
ومن هنا اجتمعت الأدلة العقلية والنقلية على عدم قبول شهادة الكفار، إلا في الوصية عند حضور الموت في السفر، أي: أن تكون الوصية في السفر، فتقبل من نوع خاص من الكفار وهم أهل الكتاب، ولا تقبل من غيرهم، لا تقبل شهادة المجوس ولا الوثنيين ولا المرتدين؛ لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} [المائدة:106] ، وقد عمل الصحابة الكرام بهذه الآية الكريمة، كما في قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه حينما رفعت إليه قضية في شهادة اثنين من أهل الكتاب على وصية صحابي أو تابعي في سفره لم يجد من المسلمين، فأشهدهما، وحلفا بالله عز وجل أنهما لم يغيرا ولم يبدلا، فقبل شهادتهما على الصفة المعتبرة شرعا، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعت دلالة الكتاب والسنة على قبول شهادة الكفار، بشرط أن تكون شهادتهم على المسلمين في السفر على الوصية.
إذا: لا تقبل شهادتهم في الحضر؛ لأن القرآن نص على هذا، وكذلك أيضا لا تقبل شهادة الكفار ولو على كافر مثله، سواء اتحدت ملتهما، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، أو اختلفت الملة مع اتفاق الأصل، كيهودي على نصراني، أو نصراني على يهودي، في اتفاق كونهما من أهل الكتاب، أو وثني على وثني، فكل هؤلاء لا تقبل شهادتهم مطلقا.

الشرط الخامس: الحفظ

قال رحمه الله: [الخامس: الحفظ] .
وذلك لأن قبول الشهادة مبني على الوثوق بخبر المخبر، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان حافظا لا ينسى، أما إذا عرف منه النسيان والغفلة وعدم الضبط، فإنه لا تقبل شهادته، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، وهذا يخص قبول الشهادة إذا كانت ممن يرضى في ضبطه وتحريه ونقله، فإذا كان بهذه الصفة قبلت شهادته وإلا فلا.

الشرط السادس: العدالة

قال رحمه الله: [السادس: العدالة] فلا تقبل شهادة الفاسق، والعدل: هو الشيء الوسط الذي بين الإفراط والتفريط، وهو القسط المعتبر الذي هو بين الغلو والإجحاف، والأصل أن العدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
عدل الرواية الذي قد أوجبوا هو الذي من بعد هذا يجلب العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فإذا كان مجتنبا للكبائر ولا يصر على الصغائر فإنه عدل، وتقبل شهادته والدليل على عدم قبول شهادة الفاسق بل العدل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات:6] .
فبين سبحانه وتعالى أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على أنه ليس بحجة؛ فقد أمر بالتثبت والتوقف في خبر الفاسق، فدل على أنه لا يقبل، والفسق سواء كان بالأقوال كالقذف، أو كان بالأعمال كأكل الحرام، أو كشرب الخمر وتعاطي المخدرات والعياذ بالله! أو كان بالفعل كالسرقة والزنا، فكل هذا يوجب الحكم برد الشهادة.
والجمهور على أنه لا تقبل شهادة الفاسق من حيث الجملة، والحنفية على قبولها بشرط أن لا يكون فسقه مؤثرا في الشهادة، وهو فسق الكذب، قالوا: لأنه قد يكون الشخص فاسقا بشرب الخمر، وهو من أصدق الناس ولا يكذب، وقد يكون فاسقا بخلل ولكنه يضبط الشهادة ويحفظ ويصون، ولكن الجمهور قالوا: إن خلله في شيء لا يمنع من خلله في غيره، والأصل يقتضي عدم قبول شهادته كما ذكرنا، وعلى هذا فلا تقبل شهادة الفاسق.
لكن إذا فسد الزمان وقل وجود العدول وتعذر، فإنه تقبل شهادة أمثل الفساق، وهذا الأمر اختاره المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وابن فرحون المالكي كما قرره في كتابه: (القضاء في تبصرة الحكام) ، وبين أنه تقبل شهادة أمثل الفساق عند تعذر وجود العدول ويقبلها القاضي.
ما يعتبر للعدالة من صلاح الدين والمروءة
قال رحمه الله: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، فلا تقبل شهادة فاسق] .
كل هذا قد تقدم.
وقوله: (لا يأتي كبيرة) الصحيح هو مذهب جماهير السلف والخلف أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ودليل ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31] ، وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم:32] ، فدلت هاتان الآيتان الكريمتان على أن الذنوب كبائر وصغائر، ودل عليها قوله تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات:7] ، فلما قال: (الكفر) دل هذا على أن الخروج عن طاعة الله على ثلاثة أقسام: الأول: الكفر، وهو الخروج من الملة والعياذ بالله! الثاني: الصغائر، وهو اللمم والعصيان.
الثالث: ما بينهما وهو الفسوق.
ولذلك قال: (كره إليكم الكفر والفسوق) ، وهو ارتكاب الكبائر الذي لا يخرج من الملة.
وأصل الفسوق من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، قالوا: سمي الفاسق فاسقا؛ لأنه خرج عن طاعة الله عز وجل.
وقد اختلفت عبارات العلماء في ضبط الكبيرة إلى قرابة عشرين قولا، وأصح الأقوال وأجمعها قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الإمام أحمد، والإمام ابن حزم وغيرهما من الأئمة: أن الكبيرة كل ما سماه الله ورسوله كبيرة، أو ورد عليه الوعيد في الدنيا أو الآخرة، بنفي إيمان أو غضب ونحو ذلك، أو ترتبت عليه عقوبة، هذا كله من الكبائر، وهذا من أجمع ما قيل في ضابط الكبيرة.
وهناك من قال: هي ما كان فيها عقوبة، وهذا ضعيف؛ لأنه يخرج ما ورد فيه الوعيد وليست فيه عقوبة، ومنهم من يقول: عقوبة مطلقة، ومنهم من يقول: عقوبة محددة، والخمر فيه عقوبة غير محددة على الخلاف الذي ذكرناه، فالشاهد: أن الضابط الذي ذكرناه من أجمع الضوابط.
قال رحمه الله: [الثاني: استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه] المروءة: هي التي تحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات والأقوال والأعمال، جعلنا الله وإياكم من أهلها، وقد قل وجودها في هذه الأزمنة، ويقل وجودها كلما تباعدت أزمنة الناس عن أزمنة النبوة، وهي حياة الإنسان، ولذلك ففيها الحياء وفيها الخجل، قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فمن أجمع خصال المروءة: الحياء، ولذلك إذا ذهب الحياء ذهب الخير عن الإنسان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير) ، والمروءة تقل بفساد الزمان كما ذكر الأئمة: مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا! فذهب أهل المكرمات وأهل الحياء والخجل، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) دل على أن من لا مروءة عنده يفعل ما شاء، ومن هنا اختلفت تعليلات العلماء لرفض شهادة من لا مروءة له.
ومن خوارم المروءة: أن يأتي السوق ويكشف رأسه، أو يجلس في وسط السوق ويأكل، أو يأخذ الأكل معه في يده وداخل سيارته ولا يبالي، إلا إذا كان في أحوال مخصوصة، مثل أن يكون مسافرا ونحو ذلك، أو جرى العرف بكشف الرأس في السوق أو في مجامع الناس، فهذا ليس فيه بأس.
أو يصيح ويرفع صوته في المساجد بين الناس في مجامع الناس، أو يجتمع كبار الناس وكبار القبيلة وكبار الجماعة من أهل الحل والعقد فلا يراعي أدبا، أو يمد رجليه وهو جالس أمام أهل العلم وأهل الفضل، ويفعل ما يشاء، ويضحك بحضور أناس ينبغي الحشمة معهم، كل هذا مما يخرم المروءة.
قال بعض العلماء: إن تعاطي هذه الأمور يدل على خفة العقل؛ لأن العقل يعقل الإنسان، فالذي لا يبالي ويفعل ما يشاء، كأن يرفع صوته في مجامع أو في خطابه للناس، ولا يراعي منازل الناس، فهذا دليل على أن عنده نقصا في عقله، ومن نقص عقله لم تقبل شهادته؛ لأن هذا يؤثر في الوثوق بقوله وبخبره، وقالوا: إذا لم يتورع في الظاهر فإنه لا يتورع في الباطن، وهذه دلالة الظاهر على الباطن، هذا الوجه الأول، وحينئذ يكون الخلل من عدم الصيانة.
وهناك وجه ثان: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس وهو من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يستحيي لا يتورع عن شيء، وإذا لم يتورع عن شيء فلا يتورع عن الكذب في شهادته، ولن يتورع أن يقول: أنا متأكد مائة بالمائة، وهو ليس بمتأكد، ويبالغ ويعظم الأمور، ويبالغ في مدح نفسه وفي الوثوق بقوله، فقالوا: مثل هذا لا ترضى شهادته، فهذان وجهان، والحقيقة أنه لا مانع من اعتبار كلا الوجهين موجبين لرد شهادة من لا مروءة له.
وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعراف، فهذا كله يعتبر من خوارم المروءة.
ولا يعتبر من خوارم المروءة العمل بالسنة وإظهارها، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يأتي شخص ويفعل شيئا من السنة أمام جماعته، أو أمام كبار السن، فلا ينبغي لأحد أن يقول له: أنت لا تستحيي، بل فعله هذا هو عين الحياء؛ لأن السنة لا تأتي إلا بخير، وجزاه الله خيرا أن أحيا سنة أميتت، فهذا لا يعتبر مذموما، وليس عليه منقصة ولا ملامة في هذا.
قبول الشهادة عند زوال المانع من قبولها
قال رحمه الله: [ومتى زالت الموانع فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق؛ قبلت شهادتهم] .
أي: متى زالت الموانع قبلت شهادتهم، فلو أن الصبي صار بالغا قبلت شهادته، وهكذا المجنون إذا أفاق من جنونه قبلت شهادته؛ لأن ما شرع لعلة يبطل بزوالها، والسبب في رد الشهادة وجود هذه العلل، وقد زالت، فيزول الحكم برد شهادته إذا توفرت فيه شروط قبول الشهادة.
أما الفاسق فإنه إذا صلح حاله قبلت شهادته، فمثلا: لو أنه قذف شخصا وردت شهادته بالقذف، أو فعل معصية من المعاصي وثبتت عليه وحكم بفسقه، قالوا: يترك مدة حتى تثبت فيها استقامته، واختلف العلماء في ضابطها، فمن العلماء من قال: إذا تاب توبة ظاهرة واستقام أغلب الحول، بأن تمضي عليه أكثر من ستة أشهر وهو على براءة؛ حكم بعدالته، وإلا فلا.
وبناء على هذا القول: لو أنه ردت شهادته بالقذف، ثم صلح حاله وتاب ورجع عن شهادته؛ لم تقبل شهادته حتى يمضي عليه أغلب الحول.
والصحيح هو مذهب الجمهور، وهو أن من قذف وأقيم عليه الحد، وتاب عن القذف ورجع عنه قبلت شهادته، قال عمر رضي الله عنه لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك.
وهذا يدل على أنه إذا تاب ورجع قبلت شهادته، وحينئذ فلا يشترط مضي مدة في المحدود بالقذف إذا قال: رجعت عن قذفي، فتقبل شهادته مباشرة، ويستثنى من هذا الأصل.
لكن لو زنى -والعياذ بالله- فظهرت عليه دلائل التوبة والاستقامة والرجوع إلى الله عز وجل، وأقيم عليه الحد كما لو كان بكرا وهو حي، فإذا مضت ثلاثة أشهر وشهد لم تقبل، بناء على أنه لم تمض مدة يستبرأ بها على الاستقامة والخير.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]