حكم أكل ما له ناب من السباع
قال رحمه الله: [وما له ناب يفترس به] : الناب: هو السن الذي يلي الرباعيات ويفترس به؛ وهنا وصفان: أن يكون له ناب، وأن يفترس؛ أي: أن يكون من العاديات، وهذا لا يكون إلا في السباع.
والأصل في تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي ناب من السباع حرام) والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
فهذا أصل عند جمهور العلماء في تحريم أكل السباع العادية؛ كالأسد، والنمر، وكل ما له ناب، يعدو به على الناس، ولذلك لا يحل أكل لحمه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن العلة في هذا التحريم: أن السباع العادية فيها قوة، وفيها كلب، وفيها نفس خبيثة في الاعتداء، وإلحاق الضرر بالغير، واللحم يؤثر في الطبائع، ولـ ابن خلدون كلام تاريخي على مسألة النباتية والحيوانية، يعني أكل النباتات والحيوانات، وتأثير ذلك على الطباع.
فالسباع العادية إذا أكل لحمها تأثر الإنسان بطباعها الخبيثة من العدو والكلب، ولذلك نهي عنه، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (السكينة عند رعاة الغنم من مضر) لأن طبيعة الغنم السكينة؛ ولذلك بين أن السكينة في رعيها وأكل لحمها، ثم قال: (والجفاء عند رعاة الإبل من ربيعة) فهذا يدل على أن أكل لحم الإبل يؤثر في الطبائع، ويؤثر في نفسية الإنسان، ومن هنا قال الإمام ابن القيم: إن السباع العادية فيها نفس خبيثة، وفيها كلب وعدوان، فأكل لحمها يؤثر في طبع الإنسان، ولهذا حرمت.
واختلف العلماء في مسألة كل ذي ناب من السباع: الجمهور على التحريم، والمالكية عندهم رواية بالجواز، واحتجوا بقوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} [الأنعام:145] ، قالوا: إن آية الأنعام لم تذكر السباع.
ونقول لهم: إن قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} .
دل على عموم التحريم، وحديث: (كل ذي ناب من السباع) دل على خصوص التحريم في السباع العادية، فلا تعارض بين هذا وهذا، حيث جاءت السنة بالزيادة، والسنة تزيد على القرآن، وهذا هو الذي عليه العمل عند جماهير السلف والخلف والأئمة.
قوله: [غير الضبع] : الضبع: اختلف فيه على قولين: قيل: إنه لا يجوز أكله، كما يقول المالكية والحنفية.
وقيل: بجواز أكله، كما هو مذهب الشافعية والحنابلة.
والذين قالوا بالجواز أسعد بالدليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحل الضبع، فقد سأل عبد الرحمن بن عبد الله بن عمارة التابعي جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (الضبع صيد؟ قال: نعم، قال: آكله؟ قال: نعم، قال: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) .
وهذا الحديث صححه الإمام البخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والإمام الترمذي، والعمل عند العلماء-من ذكرنا- على متنه، أنه يدل على جواز أكل لحم الضبع، وعلى هذا فقول من قال بتحريمه مرجوح.
[كالأسد، والنمر.
كالأسد، والنمر، والذئب، والفيل: هذا تمثيل للسباع العادية، فالأسد: يقتل، ويعدو بنابه، وله كلب، وفيه وجهان: أولا: الأسد، والنمر من السباع العادية، وهذا النص فيه واضح.
وثانيا: اغتذاؤها بالجيف، ومن هنا تكون خبيثة، فجمعت بين الأصلين؛ لذلك التحريم فيها أقوى.
[والذئب] : والذئب له ناب، ويعدو بنابه، ويقتل.
[والفيل] : فيه قولان للعلماء: الجمهور على تحريم أكل الفيل؛ وذلك لأمرين: أولا: وجود الناب فيه، حتى قال الإمام أحمد: لم أر أعظم منه نابا، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب.
وهو يعدو؛ فإنه إذا آذاه الإنسان يفتك به، وإن كان فتكه ليس بالناب، لكنه يعدو عليه ويقتله، ففيه الكلب.
الوجه الثاني: خبث الفيل، ومن هنا قالوا: إنه جمع بين الوصفين.
وهناك من يقول بجواز أكل لحم الفيل.
[والفهد، والكلب، والخنزير] : أما الكلب: فاختلف في نجاسته وطهارته: فقيل: إنه نجس، وهذا هو الصحيح، وقد تقدم هذا في الطهارة وبينا الدليل على نجاسته، وبناء على ذلك لا يجوز أكل لحم الكلب، ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله من الفواسق، وإن كان قد خص الكلب العقور، وقد أمر بقتل الكلاب صلوات الله وسلامه عليه، ولو كانت تؤكل لأمرهم أن يأكلوا لحمها، ولكنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتلها، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الكلب.
الأمر الثاني: أن الكلب يغتذي بالجيف، ففيه استخباث لحمه، وقد جمع بين الوصفين لتحريمه.
قوله: (والخنزير) دل دليل الكتاب والإجماع على تحريم أكل لحم الخنزير، كما قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة:3] ، وهذا يدل على أنه لا يجوز أكل لحم الخنزير، ولا الإدهان بشحمه، ونحو ذلك من بقية أجزائه.
[وابن آوى، وابن عرس، والسنور] ابن آوى: فوق الثعلب، ودون الذئب، ويكثر صياحه لبني جنسه، وصوته أشبه بصوت الصبيان فيما ذكروا من ضوابطه، وهو مستخبث، وفيه خلاف، والجمهور على تحريم أكل لحمه.
(وابن عرس) كذلك مثله؛ لأن له نابا، وكلبا.
(والسنور) القط: سواء كان بريا، أو أهليا، فله كلب، وله عدو، خاصة المتوحش منه؛ وهو البري، ولو خلا بالإنسان فإنه يقتله، والقط البري المعروف، يقال: إنه من فصيلة النمور، وهو يغتذي بالجيف والأهلي يغتذي بالحشرات، فيستخبث لحمه، فهذه الأنواع كلها لا يجوز أكلها. حكم أكل ما له مخلب من الطير
قال رحمه الله: [والنمس، والقرد، والدب] : الدب استخبثوه؛ لأن فيه الكلب، وفيه الاستخباث.
[وما له مخلب من الطير يصيد به] : بعد أن بين رحمه الله تحريم السباع العادية، بالنسبة لما يدب على وجه الأرض، شرع في بيان النوع الثاني من البري؛ لأن البري إما طائر، وإما غير طائر، فبين غير الطائر، الذي هو ذو الناب من السباع، ثم شرع في بيان المحرم من الطير، وهو كل ذي مخلب من الطير، والمخلب: الظفر، والمراد به: ما يعدو من الجوارح؛ كالصقر، والباز، والشاهين، والباشق، ونحوها من العاديات في الطيور، فهذه محرمة.
أولا: لوجود العدو منها، كالعدو في ذوات السباع؛ لأنها ذوات مخلب.
كذلك أيضا: خبث تناولها للجيف، وأكلها للجيف يقوي تحريمها.
[كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والباشق، والحدأة، والبومة] : هذه كلها من الطيور العادية، والعادية ورد فيها النص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحدأة في الحل والحرم، وهذا يدل على أنها ليست بصيد؛ لأن المحرم لا يقتل الصيد، ولو كانت مما يحل أكله لكان فيه الضمان في قتله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنها فاسق، وأنها تقتل، فهذا يدل على أنها ليست مما يحل أكله. حكم أكل ما يأكل الجيف
قال رحمه الله: [وما يأكل الجيف] : هذا المستخبث من الطيور.
[كالنسر، والرخم] : النسر معروف، وهو يعدو على الجيف، وكثيرا ما يوجد في فضلات البهائم في البر.
والرخم: وهو من أسوأ وأقذر أنواع الطيور لحما، حتى كان بعض الأطباء إذا أعياه وجود الدود في بعض الجسم، يضع لحم الرخم على الجلد من خارج، فيترك الدود داخل البدن ويخرج إلى الرخم، وهذا من غريب ما فعله بعض الأطباء حينما أعيته الحيلة والرخم يضربون به المثل للشيء الذي يكون عديم الفائدة، لأنه لا أحد ينتفع به.
[واللقلق، والعقعق، والغراب الأبقع] : أما الغراب فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتله كما في حديث الفواسق، والأبقع: هو الذي فيه البقعة البيضاء، قيل: فيه بياض.
[والغداف: هو أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبير] : كل هذه يحرم أكلها -أنواع الغراب- لأنها مستخبثة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الغراب، وجعله من الفواسق، ولو كان حلالا لما أمر بقتله عليه الصلاة والسلام، ولما جعله من جنس ما لا يضمن، كما في حديث الفواسق. حكم أكل ما يستخبث
قال: [وما يستخبث كالقنفذ، والنيص، والفأرة، والحية، والحشرات كلها، والوطواط، وما تولد من مأكول، وغيره كالبغل] قوله: [وما يستخبث] : الأصل في تحريمه قوله تعالى: {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157] ، والأصل عند جمهور العلماء أن العبرة بالاستخباث العرب؛ لأن بيئتهم هي أوسط البيئات، وطبائعهم هي أعدل الطبائع، لما جبلهم الله عز وجل عليه من الصفات، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله اختارهم واصطفاهم.
وهذا الاختيار من الله عز وجل والاصطفاء، فيما جبلوا عليه من النعم التي وضعها الله عز وجل في طبائعهم.
فما استخبثته العرب فهو خبيث، وما استطابته فهو طيب، ثم ينظر: العرب فيهم بادية وحاضرة، وفيهم الغني والفقير، وفيهم أزمنة الرخاء وأزمنة الشدة، فهل نحكم في الاستخباث والطيب بضابط معين؟ أو يترك الأمر هكذا؟ الذي عليه المحققون: أن الاستخباث والطيب أمر نسبي، وأن العبرة فيه بأعدل الناس، لأن الغني يستخبث ما يستطيبه الفقير، فلو أنه جعل الاستخباث للأغنياء لعظم التحريم، ولم يبق شيء إلا حرم؛ لأنهم لا يأكلون إلا شيئا معينا خاصا، ولذا نظر إلى الأعدل في هذا، قيل: إنه ينظر إلى الفقراء.
أما بالنسبة للمدن، والقرى، والبادية، فينظر إلى الوسط بينها؛ لأن البادية بحكم شدة الظروف فيهم من الجلد والقوة ما ليس بالحاضرة، ولذلك يقوون على بعض الأشياء، ويرون أنها مستطابة، وقد يكون العرب في الحاضرة لا يستطيبونها، فلو قيل: إن العبرة بطبائع البادية، لحصل توسع، ولذلك قالوا: ينظر إلى الطبائع المعتدلة في القرى، والهجر، ونحوها.
كذلك أيضا بالنسبة للغنى والفقر، وأزمنة الخصب والجدب، فإن العبرة بالوسط بين الحالتين، وهو الذي يعتبر فيه الاستخباث وعدمه، وليس فيه إشكال إلا قليل جدا؛ لأنه ما حدث الخلاف بين العلماء إلا في مسائل معدودة، لأن كثيرا منها وردت بها النصوص، وحل إشكالها؛ لأنه لم يترك الشرع إلى طبائع الناس، وإنما هو وارد في بعض المسائل المحددة، وقد اختلف فيها، مثلا: بعض الدواب مثل القنفذ، هل هو مستخبث أو ليس بمستخبث؟ حصل الخلاف بين العلماء في هذا، لكن الأمر في الأوسط، وهو الذي عليه العمل عند المحققين رحمهم الله.
[كالقنفذ، والنيص] : القنفذ معروف؛ ذو الشوك، وهو حيوان يعدو بشوكه على الأفاعي، واستخباثه من جهة مطعمه، وتستخبث النفوس أكله، وأثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنهم حرموا أكله، ونصوا على ذلك، كما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره.
[والنيص] : قيل: إنه أكبر القنافذ أي: شيخ القنافذ، ويأخذ حكم التابع لما قبله، وقيل غير ذلك، ويقال له: (الدلدل) وعلى كل حال هو آخذ حكم القنافذ؛ لأن الخبث فيه من جهة أنه يعدو على الحيات والأفاعي، وهو يتكور، فتؤذيه الحية حتى يقتلها بشوكه، وقيل: إن النيص يلقي شوكه، والقنفذ لا يلقي شوكه، يعني: يرمي النيص، لكن هذا اختلف فيه بين العلماء رحمهم الله، وسواء هذا أو هذا، كلاهما شر.
[والفأرة] : النص فيها واضح، وخبثها معلوم، حتى إن الأطباء -والعياذ بالله- ذكروا أنها من أسباب الطاعون.
[والحية] : لا يجوز أكل الحيات؛ لما فيها من الضرر، وقد عدها النبي صلى الله عيه وسلم من الفواسق.
[والحشرات كلها] : لا يجوز أكل الحشرات؛ لأنها مستخبثة، إلا الدود الذي يكون في الطعام، مما لا نفس له سائلة، كدود التمر، ودود الحب، فهذا طاهر، ويجوز أكله، والأصل في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحلت لنا ميتتان، ودمان، أما الميتتان: فالجراد، والحوت) ، فجعل الجراد من الميتات يؤكل بغير ذكاة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقتلونه بالرماح، والجراد مما لا نفس له سائلة، ولذلك دود التمر، وسوس التمر، والسوس الذي يكون في الحبوب ونحوها، يجوز أكله مع أنه من الحشرات، ولا يعتبر محرما.
[والوطواط] : كذلك لاستخباثه، وقد أثر عن السلف رحمهم الله خبث لحمه.
[وما تولد من مأكول وغيره، كالبغل] : البغل يتولد من الحمار ومن الخيل، فإذا غلب الحلال، فإنه يقال بجواز أكله، وإن غلب الحرام، فيقال بتحريم أكله، والذي عليه المحققون: أنه إذا اجتمع الحل والحرمة في الدواب، كأن يكون متولدا من حلال وحرام، سواء كانت الأنثى الحلال، أو العكس، فالحكم في الجميع التحريم، والسبب في ذلك: أنه ليس فيه ذرة من لحمه إلا وفيها اختلاط حلال بحرام.
وهذا لا يجوز أكل السنع والسيعار، والسنع من الذئب والضبع، والسيعار من الكلب والضبع، وقيل أيضا: النعجة قد ينزو عليها الكلب-أكرمكم الله- فتأتي بنصف شبه للكلب، ونصف شبه للبهيمة، فكل هذا محرم؛ لأنه ليس فيه شيء إلا وقد اشترك فيه الحلال والحرام، ولا يشكل على هذا مسألة من كان يتعامل بالربا، إذا أردت أن تأخذ منه دينا، أو استضافك، وقد اختلط ماله الحلال بماله الحرام، فليس من هذا، ولذلك قالوا: من اختلط ماله الحلال بماله الحرام لا يمتنع إلا إذا جزم بأن هذا المال من الحرام، وعلم أن هذا المال الذي يأكل منه من الحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من شاة اليهودية، واستضافه اليهودي كما في الحديث المسند على خبز وإهالة سخنة، وأكل صلى الله عليه وسلم، لأن عين المال لم يجزم بحرمته، فبقي على الأصل من حله. ما يحل أكله من الحيوانات
قال رحمه الله تعالى: [فصل: وما عدا ذلك فحلال] أي: سوى ما ذكر فحلال، وهذا من بديع ذكر المصنف رحمه الله؛ فإنه ذكر المحرمات، ثم أعقبها بالحلال، من هنا يدرك المسلم أن ما أحل الله من الطيبات أكثر مما حرم، ولذلك قال تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} [الأنعام:145] فجعل الحل عاما، وجعل التحريم خاصا، وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ولا يحرم إلا لسبب؛ إما وجود الخبث، وإما وجود الضرر، وقد يكون لسبب إلهي مثل أن يكون مذبوحا لغير الله عز وجل، كأن يكون مما ذبح على النصب، وأهل لغير الله به.
[كالخيل] : اختلف في الخيل على قولين: قيل بتحريمها، وقيل بحل أكلها، والصحيح جواز أكلها، فقد حل نص صلى الله عليه وسلم على ذلك كما في حديث جابر في الصحيح أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمر الأهلية، وأذن لنا في الخيل) وقالت أم المؤمنين: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا وأكلناه) ، فهذا يدل على حل أكل الفرس، وقد حرم الحنفية وبعض المالكية أكل الخيل، لقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [النحل:8] قالوا: إن الله جعل الخيل مع الحمير، وهذه تسمى: دلالة الاقتران، وهي ضعيفة؛ لأن العطف لا يقتضي المساواة في الحكم، قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] كلوا، وآتوا: فالأكل من الثمر ليس بواجب، وآتوا حقه-الذي هو الزكاة- واجبة، فالعطف لا يقتضي من كل وجه التشريك في الحكم، فالصحيح القول بجواز أكل لحم الخيل، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج.
[وبهيمة الأنعام، والدجاج، والوحشي من الحمر، والبقر، والظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحوش] هذا فقط مجرد تمثيل، وما سوى ذلك الأمر واضح فيه، فلو أنه عدد، لم ينته الكتاب؛ لأن ما أحل الله لا ينحصر، وذلك من سعة رحمة الله بعباده.
وقوله: (بهيمة الأنعام) أي: الإبل، والبقر، والغنم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الإبل، وأكل الغنم كما في حديث الشاة، وحديث الكتف، وكذلك أيضا البقر، فقد ضحى عن نسائه بالبقر، أما الدجاج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) ثم الشاة، ثم الدجاجة، فدل على حل أكل الدجاج. ما يباح من حيوان البحر وما يحرم
قال رحمه الله: [ويباح حيوان البحر كله] : شرع رحمه الله في بيان حكم حيوان البحر، وقد اختلف في الأصل فيه على قولين: القول الأول: أن حل حيوان البحر لا يختص بنوع معين، أي: أن الأصل حله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقوله: (الحل ميتته) عام، فنأكل السمك، ونأكل الحوت، ونأكل سرطان البحر، ونأكل الجنبري ونحو ذلك، وذهب الحنفية رحمهم الله إلى تخصيص الحكم بالسمك والحوت، وأن ما عداه لا يؤكل، واختلفوا في نوعين: أحدهما (الجريث) : وهو السمك الذي كالترس المدور، و (الماراماهي) : وهذا أيضا فيه خلاف لبعض أهل البدع مع أهل السنة، والصحيح جوازه، وهو مذهب جماهير العلماء، لظاهر السنة.
فلا نحرم شيئا من لحم البحر إلا إذا ثبت ضرره، كالسمك إذا تفسخ، وقال الأطباء: فإنه يضر، أو كان من النوع الذي فيه ضرر، فنقول: لا يجوز أكله.
إذا: لا نحرمه إلا إذا وجد سبب يقتضي التحريم، وإلا فالأصل جوازه.
[إلا الضفدع] : لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله.
[والتمساح] : وهو من العوادي، فلا يحل أكله.
[والحية] : تقدم معنا أنها من الفواسق، ومراده هنا: حية الماء. أحكام المضطر
قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه] : بعد أن بين أحكام الاختيار شرع رحمه الله في بيان أحكام الاضطرار.
والضرورة: الإلجاء، ومن اضطر إلى الشيء احتاجه ولجأ إليه بعد الله سبحانه وتعالى، ولا تكون الضرورة إلا عند الخوف على النفس من التهلكة، أو على عضو من الأعضاء؛ كاليد والرجل أن تقطع، أو تذهب منافعها، فهذا مقام ضرورة.
قوله: (من اضطر) كمن أصابته مخمصة: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} [المائدة:3] قيل: ألا يكون سفره لحرام، وقيل أن يقصد تقوى الله عز وجل، وألا يعتدي ويسرف في أكله، فإذا أصابته المجاعة ولم يجد شيئا إلا الميتة، ينتظر حتى يغلب على ظنه أنه لو لم يأكل يهلك، فحينئذ يأكل، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجر أمرا عجيبا عن بعض الأطباء، وهو: أن الجسم إذا وصل إلى درجة المخمصة الشديدة وأصبح في مجاعة شديدة، وبلغ حالة الاضطرار، تكون فيه مثل المادة السمية، مما يفرزه من شدة حرارة الجسم، وهي في حمياته، وهذه المادة تقوى على دفع سم الميتات وضررها.
وقال: هذا من البديع الحسن، وكل شرع الله عز وجل حسن، ومن هنا لو اعترض معترض بأن الميتات خبث، وأنها كذا، لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى أحل هذا، وجعل في الإنسان ما يؤهله لذلك، ولذلك لما حرم الخمر سلبها المنافع، فالله إذا أحل وحرم، حلل وحرم لحكمة: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216] .
فمن اضطر -أي بلغ مقام الاضطرار- فقد أجمع العلماء رحمهم الله على حل الميتات والمحرمات له؛ لأن الله نص على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:173] ، وقال تعالى: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) [المائدة:3] ، وقال تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} [الأنعام:145] ، وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] فالمضطر يسقط عنه التكليف، وحينئذ ينقذ نفسه، وهذا من باب دفع الضرر الأعظم بتناول أو تعاطي الضرر الأخف، وعلى هذا أجمع العلماء والقاعدة المشهورة: (الضرر يزال) ومن فروعها: (الضرورات تبيح المحظورات) .
قوله: [ومن اضطر إلى محرم] : كالميتة، فيجوز للمضطر أن يأكل منها، وهل يأكل إلى حد الشبع، أو يأكل بقدر ما يدفع المخمصة؟ وجهان: أحوطهما: أن يأكل بقدر ما يدفع به المخمصة، وإذا غلب على ظنه أنه يجد ما ينقذ به نفسه فلا يجوز له أن يحمل منها، وإذا غلب على ظنه أنه لا يجد فيجوز له أن يحمل، هذا بالنسبة للأكل مما يضطر منه.
فالقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) فرعت عليها القاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) ومن هنا يأكل بقدر ما يدفع به الضرر عن نفسه، والزائد على ذلك يبقى على الأصل.
[غير السم] : لأن السم لا ضرورة فيه، فإنه إذا أكله هلك، وحينئذ لا ينقذ، بل يعجل بالوفاة، فلا يجوز تعاطي السم في الضرورات، يعني ليس بموجب لاغتذاء الجسم، وليس بموجب لاندفاع الضرر عنه، إلا فيما استثنيناه من أن يكون السم للتداوي أو ما شابه، فهذا قد استثناه بعض العلماء ولا يدخل في مسألتنا، إنما المسألة: رجل جائع ويريد أن يأكل، ولم يجد إلا سما، أو عطشان، ولم يجد إلا سائلا من السم، وإذا شربه يموت، فإن هذا ليس مما يؤذن له بشربه.
قال رحمه الله: [حل له منه ما يسد رمقه] حل له من الميتة، أو من الطعام المحرم ما يسد رمقه؛ لأن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
قال رحمه الله: [ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه] : بعد أن بين الاضطرار إلى الأكل شرع في الاضطرار إلى المنافع، إذا اضطر إلى المنفعة مع بقاء العين، كأن يضطر إلى ركوب سيارة، مثل أن تكون امرأته في حالة يخشى عليها الموت، أو عنده مريض يريد أن يسعفه، ولم يجد إلا هذه السيارة وعليها مفتاحها، إذن اضطر إلى نفع في مال غير، وهي السيارة، والنفع هو الركوب، مع بقاء العين: التي هي السيارة، وسيردها إلى صاحبها، فليس فيه استهلاك للمادة، وهذا يدخل في العواري، والأصل: أن المسلم يمنح أخاه المسلم ويعطيه، دل على مشروعية ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما ركب على فرس أبي طلحة، وذلك عندما سمع الصحابة ذات ليلة صيحة، فخرجوا -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس، وهذا الحديث من السير يمثل به العلماء على شجاعته عليه الصلاة والسلام- فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من عند الصوت، وهو يقول: (لا تراعوا) ، وكان عليه الصلاة والسلام قد ركب على فرس أبي طلحة من غير سرج، وأخذوا من هذا الحديث -يقولون- ما لا يقل عن ثلاثين فائدة، منها: استعمال مال الغير عند الحاجة مع بقاء العين، وقيل في قوله تعالى: {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون} [الماعون:4 - 7] قيل: الماعون: هو الإناء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكن قول طائفة من أئمة اللغة، وهو معروف في لسان العرب، واختاره بعض أئمة التفسير، ومحفوظ عن أئمة الصحابة أن الماعون: كل ما يحتاج إليه الإنسان؛ لأنه من المعونة، والآية فيها وعيد شديد على أن للإنسان الذي يرى أخاه محتاجا إلى شيء زائد عنه ثم لا يعطيه ذلك الفضل، وهذا هو المعنى الصحيح، وقد أشار إليه الأئمة كالإمام القرطبي وغيره من المفسرين، وعلى هذا لا يمنعه مالك الحاجة.
واختلف العلماء لو رأى شخصا بين الحياة والموت, وعلم أنه لو لم يركب معه أنه سيموت، وامتنع من إركابه؛ فـ ابن حزم يرى أنه قاتل، وأنه يقتل به، وهذا من مسائله الغريبة، لكنه سيكون عليه إثم عظيم، وهذه سببية، لكنها سببية لا تفضي للزهوق، ولم يقصد بها الزهوق، ولم يقصد بها الإتلاف؛ لأنه قد يمتنع لعارض، وليس كل من يمتنع معناه أنه يريد أن يقتل أخاه، كأن تمر على شخص في الطريق في شدة الظهيرة وهو واقف فتمتنع من إركابه، كأن تكون معك عائلة، أو تخشى على عرض، أو تخشى على شيء، وهذا شيء آخر، أو وجدت شبهة وريبة، وإلا والله الأمر عظيم في منع المسلم لأخيه المسلم ما يحتاجه.
قال رحمه الله: [لدفع برد، أو استسقاء ماء، ونحوه] : لدفع برد: أي من أجل دفع البرد، وإذا كان يريد منك لحافا (بطانية) ، أو استسقاء: مثل أن يريد الدلو للبئر، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يساعده.
[وجب بذله له مجانا] : معناه: أنه يأثم إذا لم يعطه، وفي حال الاضطرار يصير واجبا عليك، وفي حال الاختيار يكون غير واجب؛ لأنه يجد مندوحة، وعنده القدرة أن يشتري، لكن شخص مضطر يريد أن يشرب ماء ولا يجد إلا دلوك من أجل أن يغرف به فتعطيه، أو رجل يرتعش من شدة البرد، والضرر سيأتيه في بدنه، وعندك مثلا لحاف، أو بطانية، أو كوت، أو نحو ذلك، وتستطيع أن تعطيه إياه، أو في شدة الحر يمشي على الوهيج، وقد يتأذى يتضرر، وعندك حذاء-أكرمكم الله- زائد عن حاجتك، وجب بذله، قال: (وجب) يعني: يأثم إذا امتنع.
قال رحمه الله: [ومن مر بثمر بستان في شجرة، أو متساقط عنه، ولا حائط عليه ولا ناظر، فله الأكل مجانا منه، من غير حمل] : من مر بثمر داخل بستان: ينادي على صاحبه، فإذا لم يأت صاحبه حل له أن يأكل غير متمون، ولا يرمي الشجر فيسقط ما عليه، له أن يأكل ما أسقطه النخيل أو ما أسقطته الرياح من النخيل، وله أن يلتقط من الفواكه غير متمون، وفيها حديث السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ينادي على صاحب البستان ثلاثا، ثم يأكل بالمعروف) .
قال رحمه الله: [وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوما وليلة] .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فالمسلم إذا اجتاز بالقرى، فيجب على أهل القرية أن يكرموه، فإذا تبرع شخص أن يؤويه، وتبرع آخر أن يطعمه، سقط الإثم عن الجميع، وإلا أثموا، فعندما يمر الضيف أو يمر المسلم بإخوانه المسلمين ولا يجد من يضيفه، هذا من أسوأ ما يكون.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.