عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 24-10-2025, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,797
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




إلحاق الغيلة بالحرابة
وفي حكم هذا الأمر ما كان بين الجريمتين، وهي مسألة الغيلة، ومسألة الاستدراج.
ففي حكم المحاربين الشخص أو الأشخاص الذين يستدرجون بفعل الجرائم من المدن، فعلى القول باشتراط الصحراء قرر بعض العلماء أنه لو استدرج امرأة بفعل الزنا بها، حتى أخرجها من المدينة ثم هددها وزنى بها، أو استدرجها أمام الناس بالقوة أو اختطفها، أو استدرج صبيا لفعل الفاحشة -والعياذ بالله- أو رجلا لقتله، فإن هذا كله يعتبر حرابة.
والفائدة إذا قلنا: جريمة، سواء جريمة قتل أو جريمة زنا أو جريمة لواط أنه يسري عليها حكم الجريمة الخاصة، لكن إذا قلنا: إنها حرابة، فيجب على ولي الأمر تنفيذ الحكم، ولو شفع فيه أهل الأرض كلهم ردت شفاعتهم، ولا يجوز لأحد أن يقف ويمنع من قتلهم وصلبهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا اعتدوا على الأموال على التفصيل الذي نذكره؛ لأن الحق فيها لله عز وجل.
فالاستدراج بفعل الجرائم في زماننا كاختطاف الناس جهرة، وإعطاء المخدر له حتى لا يتحرك، أو ربط المجني عليه حتى لا يتحرك، وأخذه أمام الناس واختطافه من بيته أمام جيرانه تحت وطأة السلاح، أو اختطافه من عمله أو مكتبه أمام زملائه تحت وطأة السلاح، وإخراجه من المدينة، كل هذا يعتبر من الحرابة؛ لأنه وجد فيه حمل السلاح، ووجد فيه المجاهرة وقصد به ما ذكرناه فهو في حكم الحرابة؛ لأن شرطها قد تحقق فيه.

التعرض للذميين وإخافتهم والاعتداء على أموالهم
يقول رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس] .
الناس المراد بهم المسلمون أو من لهم حرمة كالذميين، فالذمي له حرمة المسلم، لا يجوز الاعتداء على ماله ولا على دمه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) .
فالكفار الذين يدخلون بلاد المسلمين بإذن من ولي الأمر أو من يقوم مقامه، أو دخل كافر بلاد المسلمين تحت أمان من امرأة مسلمة فإنه لا يجوز أن يتعرض له، وذمة هذه المرأة كذمة المسلمين جميعا، ففي الصحيحين: (أن أم هانئ رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، وفاطمة تستره بثوب يوم الفتح -فتح مكة-، فقال: من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحبا بـ أم هانئ فقالت: زعم أخي -وهو علي رضي الله عنه، وكانت قد أمنت أحد قرابتها من الكفار- أنه قاتل لرجل أمنته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) فدخل في جوار النبي صلى الله عليه وسلم وأمانه، مع أن الذي أجارته امرأة.
ولذلك نص النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى، فقال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) .
وقتل الكافر المؤمن داخل بلاد المسلمين فيه وعيد شديد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى غضب الله عز وجل على صاحبه، وإعراضه عنه يوم القيامة والعياذ بالله؛ لأنه أخفر ذمة المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يتعرض للذمي والمؤمن والمعاهد، فمن له ذمة من مسلم فذمة المسلمين واحدة كما نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقوله: [يتعرضون للناس] يشترط أن تكون للناس حرمة في دمائهم، وفي الأموال على اشتراط القطع في السرقة لابد أن يكون المال له حرمة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
وقوله: [بالسلاح] أي: يكون هذا التعرض مصحوبا بالسلاح.
وقوله: [في الصحراء أو البنيان] هذا ظرف الجريمة (والبنيان) أي: داخل المدن، وعلى هذا: يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب طائفة من أهل العلم أن الحرابة لا تختص بالصحراء، وقدم المصنف الصحراء لأنها محل إجماع، وقوله: أو البنيان؛ لأنها تابعة لذلك على الصحيح.
وقد بينا أن الاعتداء في البنيان أعظم من الاعتداء في الصحراء.
لا يشترط في الحرابة قصد المال أو النفس أو العرض بل تكفي الإخافة
وقوله: [فيغصبونهم المال] ذكر رحمه الله هذا؛ لأن قطع الطريق وإخافة السبل غالبا ما يقصد به أخذ أموال الناس، لكن الحكم لا يختص بغصب المال بل يشمل الاعتداء على النفس والعرض، وحينئذ فإن من دقة المصنف أنه ذكر الأدنى للتنبيه على الأعلى، وذكر المال وإن كان أخف من إخافة السبل، لأنه أقل ما يكون في الحدود؛ لأن فيه قطعا لليد والرجل من خلاف في الحرابة، فذكر المال, وإلا فلو أنهم تعرضوا للناس بقصد قتلهم هناك، فمثلا: بعض الجرائم وبعض المجرمين الذين يخرجون بالسلاح بقصد قتل الناس واستباحة دمائهم، ويكون هذا عن حقد على المجتمع أو نوع من الإرعاب للمجتمع والإرهاب والتخويف له، وهذا يدخل في الحرابة، فالمصنف رحمه الله ذكر المال لكنه لا يقصد تخصيص الحكم بالمال فقط، فينتبه لهذا.
فقوله: [يغصبونهم المال] هذا على الغالب أن الاعتداء يكون من أجل الأموال، ويقع أيضا بالاعتداء على الأعراض، فلو جاء مثلا في منطقة يغشاها النساء، أو أماكن تجمع النساء في الأفراح، فجاء وأشهر سلاحه عليهن، فهذا يعتبر من الاعتداء على العرض وإن لم يفعل الجريمة.
المقصود أن المصنف لا يقصد تخصيص الحكم بالاعتداء على المال، فإن الاعتداء على الدماء بالقتل، والاعتداء على الأجساد بالضرب، والاعتداء على السوءات والأعراض بالانتهاك وفعل الفواحش، كل هذا يعتبر من الاعتداء، ولو سلم من الاعتداء بحيث تجرد الفعل وصار محض تخويف فإنه إرهاب واعتداء على أمن الناس، وهذا يعتبر جريمة، وله عقوبة في حد الحرابة أيضا.
وقوله: [مجاهرة] هذا الشرط الثاني الذي ذكرناه، وهو أن يكون جهارا لا خفية.
وقوله: [لا سرقة] ولذلك لما كانت الجناية على المال خفية سرقة، فقال: (لا سرقة) و (لا) هنا للإضراب، أي أنه لا يشمل حد السرقة، فالسرقة لها حكم خاص، فلو أنه اعتدى على المال خفية فإنه يحكم بكونه حد سرقة، ولا يحكم بكونه حد حرابة.
اشتراك المكلف مع غير المكلف في الحرابة لا يسقط الحد
قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئا أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] .
قوله: (فمن) من صيغ العموم، والمجرم في جريمة الحرابة يشترط فيه أولا أن يكون مكلفا، بالغا، عاقلا، فلو كانت جريمة الحرابة من مجنون رفع السلاح، فهذا لا يقام عليه حد الحرابة؛ لأنه مجنون وغير مؤاخذ.
ولو كان صبيا فإنه أيضا لا يقام عليه حد الحرابة, لكن لو اشترك الصبي مع البالغ، والمجنون مع المكلف العاقل، فهل هذا الاشتراك شبهة يسقط الحد عن الشريك؟ الصحيح أن اشتراك المكلف مع غير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، وأن هذا لو فتح بابه لاستطاع أهل الجرائم أن ينفذوا جرائمهم بواسطة غير المكلفين.
وإن قيل: غير المكلف شبهة؟ نقول: غير المكلف كالآلة، فلو أن مكلفا أمسك حية وأنهشها لشخص فقتلته الحية، لقلنا: إنه قاتل، فهو الذي أغرى الصبي، وهو الذي دفعه وحفزه، وربما هدد الصبي أن يخرج معه، ولربما أغراه، وهكذا بالنسبة لضحكه وعبثه بالمجنون حتى يطيعه.
وقد تقدم معنا في باب القتل أن الاشتراك بين المكلف وغير المكلف لا يسقط الحد عن المكلف، ولذلك فإن الذي عليه العمل أنه لو اشترك الصبيان مع البالغ سقط الحد عن الصبيان، وأدبوا بما يتناسب مع سنهم؛ لأن فيهم المميز وغير المميز، ولا يعني هذا أن نطلقهم هكذا، وإنما ينظر فيهم، فمن كان مميزا فله حكم، ومن كان غير مميز فله حكم آخر.
وأما بالنسبة للمكلف فإن الحكم أن يقام عليه حد الحرابة، وليس عندنا دليل على إسقاط الحد عنه، فكون شريكه غير مكلف لا تأثير له في مؤاخذة الشرع لهذا النوع من المكلفين.
وعلى هذا: فإنه لو اشترك من يسقط عنه الحد ومن لا يسقط عنه الحد وجب الحد.

لا تشترط الذكورة في المحاربين
كذلك أيضا قوله: (من) يشمل النساء، فلو أن عصابة من النساء اتفقت على جريمة الحرابة، فإن جمهور أهل العلم على أن النساء يطبق وينفذ عليهن حد الحرابة كالرجال، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية عنه، وإن كان بعض أصحابه قد قال بقول الجمهور كـ الطحاوي وغيره، وبينوا أن المرأة والرجل على حد سواء، وعليه فإن النساء يقام عليهن حد الحرابة كالرجال.
ومن هنا قال المصنف: (فمن) وهذا يشمل الذكور والإناث المكلفين، والمراد بقوله: (من) أي: المكلف الملتزم وهو المسلم أو المعاهد أو الذمي الذي التزم بأحكام الإسلام.
قال رحمه الله: [فمن منهم قتل مكافئا] فجريمة الحرابة تختلف على حسب اختلاف الجريمة، وهذا فيه تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الصواب، وأن يلهمنا الحق فيما اختلفوا فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.


الأسئلة




الفروق بين الحرابة والغصب
السؤال ما الفرق بين الحرابة والغصب أثابكم الله؟
الجواب كل من الحرابة والغصب فيهما مغافصة ومعافصة ومغالبة، فيشتركان في هذا المعنى، وكل منهما يقهر المجني عليه للوصول إلى جريمته من أخذ المال ونحو ذلك.
لكن الفرق من وجوه: أولا: الغصب يكون في الأموال والحرابة تكون في الأموال وغير الأموال.
ثانيا: الغصب ليس فيه اعتداء على النفس، والحرابة فيها اعتداء على النفس، وهذا راجع أيضا للفرق الأول.
ثالثا: الحرابة فيها تهديد بالسلاح، والغصب لا يشترط فيه التهديد بالسلاح.
رابعا: أن الغصب في كثير من صوره يكون فيه نوع من الشبهة، فالجار يأخذ شبرا من جاره، ويقول: هذا حقي، فيكون عنده نوع من الشبهة، ونوع من الاحتيال، قد تكون شبهة حتى بالنسبة له، فيظن أن هذا حقه، وهو في الحقيقة غاصب لمال أخيه، وهذا من أهم الفوارق.
خامسا: الغصب ليس فيه عقوبة بالحد، وإنما فيه تعزير إذا ثبت، والحرابة فيها عقوبة وفيها حد مقدر، وهذا من ناحية الأثر.
سادسا: الغصب يسقط بعفو المغصوب منه، والحرابة لا تسقط بعفو المجني عليه.
سابعا: يستحب العفو عن الغاصب ومسامحته لعظيم الأجر، قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:40] ، والحرابة لا يجوز للإنسان أن يتنازل فيها عن حقه، ولذلك حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن المحاربين لا تجوز مسامحتهم؛ لأن هذا أمر عظيم جدا، وحتى لو عفا فلا يعتد بعفوه، لكن يقولون من ناحية المكلف نفسه: لا يجوز له أن يسامح.
هذه بعض الفوارق بين جريمة الغصب وجريمة الحرابة، والله تعالى أعلم.

حد الحرابة إذا كان المجني عليه مسلحا
السؤال إذا كان المجني عليه يملك سلاحا، وغلبه الجاني، فهل يكون الجاني محاربا أيضا؟

الجواب العبرة بوجود الفعل وهو المجاهرة وحمل السلاح، بغض النظر عن كون المجني عليه عنده سلاح أو ليس عنده سلاح، فقد يكون عند المجني عليه سلاحان فضلا عن سلاح واحد، ولكن أمامه عشرون شخصا مسلحون، فماذا يفعل؟! وقد يوجد عنده سلاح ولكن لا يستطيع أن يتحرك؛ لأن السلاح على رأسه، إذا: الحرابة تكون من الجاني وإن كان المجني عليه يملك سلاحا؛ لأن الحرابة سلوك إجرامي وجريمة وانبعاث للأذية والضرر، يستوي أن يكون المجني عليه قادرا على الدفع أو غير قادر على الدفع.
ومن هنا يكون حرابة ولو كان المجني عليه مسلحا.
صور نقل الفتوى
السؤال إذا سمعنا الفتوى في الدرس، فهل يجوز لنا أن نقول: قال الشيخ فيها كذا، إذا سألنا أحد، أثابكم الله؟
الجواب هذه المسألة تعرف عند العلماء بنقل الفتوى، ونقل الفتوى له صورتان: الصورة الأولى: النقل الحرفي للسؤال الحرفي أو المشابه، فإذا كانت المسألة التي سئل عنها الشيخ هي التي وقعت خارج الدرس، فهذا هو النقل الحرفي للسؤال.
أو ينقل فتواه حرفيا وليس مجيبا عن سؤال، كأن يقول: جلست في الدرس وسمعت الشيخ يقول كذا وكذا، فهذا رخص فيه العلماء وأجازوه، ويستحب للإنسان أن ينشر العلم، ومن أراد أن يبارك له الله في علمه فليحفظ ما استطاع ويكون وعاء خير، كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض التي أمسكت الماء وأنبتت الكلأ، وشرب الناس منها، وأكلت الدواب من الكلأ.
فهذا حال أعظم الناس انتفاعا، ينتفع بالعلم في نفسه، ثم يبلغه للغير، وهذا هو السنة في العلم: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة:122] هذا أول شيء، ثم بعد ذلك: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122] .
فأي شخص يجلس في مجلس علم، ويسمع فيه آية أو حديثا أو علما ينتفع به فعليه أن ينشره، ويبين للناس، وإذا نشرت العلم أسقطت عن نفسك مسئولية عظيمة، وإذا لم تنشره فإنه لا يزال أمانة في عنقك حتى تبلغه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) .
فمن جلس في مجالس العلماء وعرف الحكم أو المسائل أو الفتاوى، فعليه أن ينشره بين الناس إبراء وإعذارا إلى الله عز وجل، خاصة في المحرمات والمنكرات والحقوق والواجبات، فالأمر أشد والمسئولية أعظم.
فمثلا: جلست عند الشيخ، فبين لك أنه يجب فعل كذا، أو يحرم فعل كذا، فهذا واجب على المسلم أن يبلغه.
الصورة الثانية: إذا كان النقل للفتوى بالمعنى، كأن ينقل فتوى تشبه الفتوى التي قيلت للشيخ، أو لم ينقل الناقل حرفيا، ففي الحالة الأولى ينقل نقلا مجردا لا في مقابل فتوى، فيقول: سمعت الشيخ سئل عن مسألة كذا وكذا، فقال فيها كذا وكذا.
فهو لم يجب عن سؤال ولا يحكي الفتوى جوابا للسؤال، فهذا مرخص فيه كما ذكرنا، وهو من حمل العلم، وهو مستحب.
لكن أن يأخذ الإنسان فتوى في مسألة، ثم يسمع سائلا يسأل في مسألة، فيفهم بحسب فهمه وتقديره أن المسألة التي في الدرس هي المسألة التي تشبه المسألة التي أمامه والتي يسأل عنها، فهذا شدد فيه العلماء رحمهم الله.
فلابد أن يكون عالما بالمسألتين، هل هما في حكم المسألة الواحدة أم مختلفتان؟ فإن شك وجب عليه أن يسكت، ولا ينقل الفتوى حتى لا يخلط، يقول للسائل: اذهب إلى فلان واسأله.
فإن قال قائل: كيف يكتم العلم؟ قلنا: هذا ليس كتمانا للعلم، هذه مخاطرة؛ لأنه ربما كان المسئول عنه الآن غير المسئول الذي أجاب أو حصلت الفتوى عنه.
فلذلك لا يجوز في هذه الحالة أن ينقل الفتوى إلا إذا كان ضابطا للسؤالين، وبعض طلاب العلم من خلال التجربة والجلوس مع العلماء والمشايخ تصبح عنده ملكة ودرجة من الفهم والوعي، فيميز بين المسائل؛ لأن بعض طلاب العلم فتح الله عليه في الفهم والفقه، ومنهم من فتح الله عليه في فهم عبارات العلماء في المتون، لكن لا يعرف في الفتوى ولا يحسن نقلها ولا يحسن الإفتاء، ولو طلبت منه أن يدرس كتابا لأبدع وأجاد وفتح الله عليه في ذلك.
ومنهم العكس: لا يحسن شرح الكتب، ولا يحسن تحرير العبارات وبيان معانيها ودلالاتها، ولكنه ما إن يسمع سؤالا إلا وضبطه، ولا يسمع جوابا إلا حرره، فعنده ملكة في فهم الفتاوى.
وتجد بعضهم شغوفا بسماع الفتاوى، ثم يقرأ السؤال مرتين أو ثلاثا ويحدد عناصر السؤال، ثم يحدد عناصر الجواب، ويكثر من قراءة فتاوى المتقدمين؛ لأنهم يضبطون العبارات والفتاوى، فعندما تصبح عنده هذه الملكة التي يغلب معها في الظن السلامة، فيجوز له حينئذ إذا غلب على ظنه أن هذه المسألة هي المسألة التي سئل عنها، مثل لو أنه أيام طلبه سمع شيخه يسأل عن مسألة، ثم سئل عن مسألة مشابهة لها، وهو يعلم أن الجواب واحد، فإنه حينئذ ينقل جواب شيخه، سواء أسنده أو لم يسنده، لكنه عن علم ومعرفة، فهذا نقل للفتوى محرر، وقد وجدت عنده ملكة يفهم بها السؤال وموارد الفتوى، ويفهم الجواب والمقصود من الجواب، فحينئذ يغلب على الظن السلامة، فهذا يجوز فيه النقل.
أما المحفوظ عن العلماء رحمهم الله فهو التشديد في نقل الفتاوى، وعدم قراءتها على الناس، خاصة إذا كانت في المسائل الدقيقة، مثل مسائل البيوع أو المسائل التي فيها تفاصيل.
أما المسائل الظاهرة المحرمة التي نهى الله عنها ورسوله، وفيها فتاوى، مثل فتاوى تحريم المحرمات من الزنا والخمور ونحوها من المحرمات الظاهرة، فإن العبارات فيها واضحة، والمسائل المسئول عنها واضحة حتى لعوام الناس، فهذا لا بأس بحكايته ونشره، وهذا نشر للعلم، ويؤجر الإنسان على ذلك.
وهنا ننبه على أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على البركة في هذا العلم، فأعظم الناس بركة في العلم أعظمهم نفعا للمسلمين، وجمعا له وعملا به ودعوة إليه.
ومن هنا قال الله عن نبي من الأنبياء: {وجعلني مباركا أين ما كنت} [مريم:31] فما بورك النبي إلا بالنبوة، والنبوة فيها خير، كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص:29] فبركة العلم نشره، ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ ما أوحي إليه، وأن يبلغ ما أنزل إليه.
وهذا كله يحتم على المسلم أن يحرص على نقل علم العلماء، ولا يشترط أن يكون في الأجوبة والفتاوى، فعلمهم لا يختص بذلك، وإنما يشمل جوانب عديدة، خاصة فيما تعظم الحاجة إليه، والله تعالى أعلم.
حكم الدعاء بغير العربية في السجود
السؤال هل يجوز أن يدعو المصلي بلغته في السجود إذا لم يعرف اللغة العربية؟
الجواب يجوز للساجد أن يدعو بلسانه وبالعربية، وذلك لأن النصوص عامة في مشروعية الدعاء، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) ولم يرد اشتراط أن يكون الدعاء عربيا، وإنما يكون اشتراط العربية في الأذكار الخاصة: كالتشهد، والتكبيرات والتسمية والتحميد، ونحوها مما يشترط فيه التعيين.
وأما بالنسبة للدعاء، فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أنه يجوز للمصلي أن يدعو بلغته ولسانه، والله تعالى أعلم.
حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها
السؤال امرأة تسأل وتقول: إنها تصلي ولكنها لا تشعر بأنها تصلي، وتصوم ولكن لا تشعر أنها تصوم، فبالتالي تفطر، ولو أذنبت ذنبا فإنها تتوقف عن كل عمل صالح، نرجو التوجيه أثابكم الله؟
الجواب هذه الأخت نوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تتحرى الحق والصواب، فليس من الصواب هذا الاعتقاد, والغلو في العبادة، أنها لا تعتبر نفسها في عبادة إلا إذا شعرت شعورا تاما كاملا، من هذا الذي يصلي صلاة تامة كاملة؟ من هذا الذي يصوم صياما تاما كاملا؟ لقد تولى الله جبر كسر عباده، وتكميل نقصهم، ورحمة ضعفهم، فعلى هذه الأمة من إماء الله أن تتقي الله في عبادتها لربها، وألا تشدد على نفسها، فإن هذا من الشيطان.
صومي وصلي فإن حضر قلبك في الصلاة ففضل من ربك عليك، وإن شغلت أو ضللت عن بعض الصلاة فلا تقطعيها، بل أتمي الصلاة، وإذا كنت في آخر الصلاة فتندمي على فوات ما فات من الخشوع، وبهذا تغيظين الشيطان، وتقهرين عدو الرحمن.
فإن العبد الصالح إذا حصل منه ذنب، أو حصلت له خطيئة، وقال: أنا لست من الصالحين! سأترك طلب العلم، ومجالس الصالحين، ويأتيه الشيطان ويقول له: كيف تجلس مع الأخيار وأنت تفعل وتفعل! هذا كله من تخذيل عدو الله قاتله الله، الشيطان الذي قعد بين العبد وبين ربه، والله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) .
فالعابد يبحث عن مرضاة الله عز وجل، فإذا حصل منه الهم أو التقصير ندم، والندم بعد المعصية وفوات الطاعة يبلغ العبد الأجر كاملا، وبهذا يصفع عدو الله على وجهه، ويقتله من الغيظ، حتى إنه لربما كرر هذا مرات فلا يعود الشيطان إليه، بل إنه يجده يرضخ، فعليها كلما وقعت في معصية أن تندم ندما صادقا وأن تشتكي إلى ربها.
إن من أسعد اللحظات وأجملها أن الإنسان إذا أصابته الهنة والزلة انكسر قلبه، وذلت رقبته، وفاضت بالدمع من خشية الله عيناه, وقال: رباه رباه! اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فيفرح الله بتوبته، وفرح الله بهذا الشعور، وبهذه الإنابة، وبهذا الإقبال، وينادي الله في ملائكة قدسه: (علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي) .
ما هذا الذي تريده المرأة؟ أتريد امرأة كاملة لا نقص فيها بالعبادة، لو أن امرأة أتمت عبادتها فماذا يحدث في الدنيا؟ لو أن كل مصل يصلي صلاة تامة كاملة، وكل من يصوم يكون صيامه تاما كاملا، والله لتغير وجه الأرض، لو كانت العبادة تامة كاملة لرحمنا الله عز وجل: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف:96] .
فكلنا تحت رحمة الله عز وجل، وكلنا تحت لطفه وبره وإحسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
يا أمة الله! عليك أن ترفقي بنفسك، وأن تتقي ربك، وألا تتركي الخير ولا تزهدي، بل إن تسلط الشيطان على المطيع بعد طاعته دليل على أن فيه خيرا، وأنه يلتمس منه مواطن الضعف، فاقتل عدو الله عز وجل بغيظه، وأصبه في مقتله بالتوبة الصادقة لله عز وجل، وإن الشيطان لا أحقر منه مع العبد عند ساعة التوبة، ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل إلا كانت ساعة حنق وغيظ على عدو الله إبليس، هذه الساعة المريرة المقاتلة حينما يجد العبد يفعل المعاصي ويذنب ثم يتوب إلى ربه، فيرجع كيوم ولدته أمه، بالتوبة الصادقة.
فابذلي كل الأسباب على ألا تعصي الله عز وجل، فإذا وقع منك شيء من المعصية أحسنت الظن بالله مباشرة، وأقبلت على الله وصدقت مع الله عز وجل، وأبشري من الله بكل خير: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} [الحجر:49] لكن: {وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر:50] .
لا بد من الجمع بين الرغبة والرهبة، فالرهبة لا تصل إلى درجة ترك الطاعات، فهذا خوف كاذب، وخشية كاذبة، الخشية الصادقة هي التي تحمل على كمال الطاعات، والخشية التي تحمل على حسن الظن بالله عز وجل مرفوقة بالرجاء بالله سبحانه وتعالى، فهي خشية صحيحة على منهج الكتاب والسنة: {يرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء:57] وهما جناحا السلامة للعبد.
لكن أن تكون سببا في ترك الطاعات والإعراض عن الله عز وجل، فهذا قنوط من رحمة الله والعياذ بالله، وسوء ظن بالله، ومن أحسن الظن بالله كان الله عند حسن ظنه، بل الله كريم وأكرم سبحانه وتعالى: {اقرأ وربك الأكرم} [العلق:3] سبحانه وتعالى, وصيغة أفعل (أكرم) تدل على بالغ الكرم منه سبحانه وتعالى.
فننصح هذه المرأة وننصح كل مسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يصدق الرجاء في الله عز وجل، ومن أحسن ظنه بربه رجي له الخير في دينه ودنياه وآخرته، والله تعالى أعلم.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.98 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]