دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال
وكما دل دليل النقل دل دليل العقل على تحريم الخمر، قال العلماء: إنها تورث الأضرار الدينية والدنيوية، وقد جاءت الشريعة بحفظ: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، وهي الضرورات الخمس، فمنها: العقل، ولذلك قالوا: إن النصوص كلها دالة على أن الشريعة تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد، والخمر فيها أعظم المفاسد، ففيها مفاسد الدين، فهي تؤثر في دين الإنسان واستقامته وطاعته لله عز وجل، وقد بين الله عز وجل هذه المفسدة الدينية بقوله: {رجس من عمل الشيطان} [المائدة:90] ، وقال: {يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة:91] ، فنص على أن فيها أضرارا دينية، وليست الأضرار على الفرد فقط، بل حتى على المجتمع {يوقع بينكم العداوة والبغضاء} ، إذا: الضرر الديني موجود فيها.
وأما الضرر الدنيوي فقد تكلم الأطباء في هذا بما يشفي ويكفي، وعلى كل عاقل عنده من الوقت والسعة أن يقرأ بعض البحوث المفيدة التي تكلمت عن أضرار المسكرات والمخدرات، حتى يحصن بذلك نفسه فيزداد يقينا بحكم الله عز وجل بالتحريم، وأيضا ينفع بها غيره؛ إذا وعظه وذكره وزجره عن هذا الداء الخبيث.
ومما يدل على أضراره الدنيوية عظيم أثرها على الجسد، ومن هنا نص عليه الصلاة والسلام على ذلك: (فلما دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقد نقعت النبيذ حتى قذف بالزبد، فقال: ما هذا؟ قالت رضي الله عنها: إن فلانة تشتكي بطنها، فدفعه عليه الصلاة والسلام برجله حتى انكسر الإناء وسال النبيذ على الأرض وقال: إنها داء) ، أي: ليست بدواء، وجاء هذا أيضا في حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أن ينقع الخمر دواء للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بدواء ولكنها داء) ، فهي داء على البدن، وأثبت الطب هذا الأمر، وإن كان ثابتا من قبل عند المسلمين، ولا يحتاجون إلى أحد يثبته بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت التقارير الطبية أنها تؤثر -والعياذ بالله- على القلب، وأنها من أسباب الجلطات والسكتات القلبية والعياذ بالله، وأنها تؤثر على الدماغ، وتحدث أمراضا مستعصية -والعياذ بالله- في التفكير والتركيز والذهن، وكذلك تؤثر على الكبد والبنكرياس وغيرها من أجهزة الإنسان، حتى إنها تؤثر على نسله وذريته والعياذ بالله فهي تؤثر في النسل، وبعضهم يظن أن الخمر تقوي الرغبة الجنسية وكذب الأطباء ذلك، وقالوا: السبب في هذا أن الإنسان في فطرته عنده حياء وخجل، وأمور الشهوة محل الخجل والحياء، فإذا شرب الخمر انقطعت هذه الحواجز وأصبح كالبهيمة، فهو يحس أن هذا قوة في الشهوة، وأنه أصبح فحلا، والأمر بالعكس، فإن هذا تدمير -والعياذ بالله- للحواجز التي تكبح جماح الشهوة، وتخرج عن حدودها، وكل شيء في الجسد إذا خرج عن حدوده فعواقبه وخيمة، ونهايته أليمة، فالخمر تؤثر في كل شيء حتى في النسل والتركيز، وغير ذلك مما ذكره الأطباء والحكماء.
وبالمناسبة؛ في المؤتمر المشهور العالمي الأول للمسكرات والمخدرات بحوث قيمة ذكرها بعض أطباء المسلمين، وتكلموا كلاما جيدا في الدراسات، ففيه بحوث موثقة طبيا عن الأضرار الموجودة في الخمر، والعواقب التي ينتهي إليها شارب الخمر والعياذ بالله.
إضافة إلى الأضرار المادية، ولذلك تجد الدول التي ينتشر فيها شرب الخمر تكثر فيها حوادث السيارات، وتكثر فيها حوادث الجرائم والعنف والقتل والاعتداء، إلى غير ذلك من المصائب التي جعلها الله عز وجل لكل من عصاه، والمعيشة الضنكة التي وعدها الله عز وجل لكل من تنكب عن سبيله، وخرج عن شرعه ودينه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا بعصمته، وأن يحفظنا بحفظه.
كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويتفاخرون بشربها، وكان بعضهم يظن أنها ترفعه، فإذا شربها ظن أنه أصبح في أعلى المجد، وأصاب من الحظ أوفره وأعظمه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدة له قبل الإسلام: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والدلاء إلى أن قال: فنشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء فقال: فنشربها فتتركنا ملوكا، فيحس أنه أصبح كأن الدنيا كلها تحته، وقال شاعر: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: هو إذا شربها ظن أنه أصبح كسرى (رب الخورنق والسدير) وإذا صحا وجد أنه عند البعير والغنم التي يملكها، فهذا من بلاء الخمر، فكانوا في الجاهلية يشربونها، وكان عقلاء الناس لا يشربونها حتى في الجاهلية، وأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لم يشربوا الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وهذه من عظيم نعم الله عز وجل، أن يصون الإنسان نفسه عن هذا الداء والبلاء، فكان أبو بكر رضي الله عنه يعافها في الجاهلية، كيف وهو في صحبة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أشد الناس حياء، ورأى أن الخمر تنزع الحياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) ، فالخمر تتدمر الحياء، وتجعل الإنسان صفيق الوجه والعياذ بالله! بعيدا عن المكارم والأمور المحمودة، وتغنى عقلاء الجاهلية بتركها؛ لما فيها من السوء والأذى، ولذلك عاصم بن قيس الشاعر المشهور شرب الخمر، ودخلت عليه إحدى بناته في أمر من الأمور فغمز عكنتها وهو شارب للخمر، لا يعي، فلما أفاق ندم ندما شديدا وأقسم على نفسه -وهو في الجاهلية- ألا يشرب الخمر أبدا، لا في صحة ولا في مرض، يعني: لا للتداوي ولا غيرها، مع أنهم كان يقال لهم: إنها دواء. تدرج الشرع في تحريم الخمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
من نعم الله عز وجل أنه حرم الخمر، ولكن الله لطف بعباده، فكانت النفوس متعلقة بالخمر، وهي فتنة وشهوة، فالله عز وجل من حكمته -وهو الحكيم العليم- أن تدرج في تحريم هذا الداء والبلاء، وهذا يدل على عظم شرها، وسلطانها على النفوس.
وأول ما نزل في الخمر قوله عز وجل: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} [النحل:67] ، وهذه الآية الكريمة في سورة النحل بين الله عز وجل فيها أن ثمرة النخيل والأعناب يتخذ منها السكر والرزق الحسن، فبعض الصحابة كف عن الخمر بهذه الآية، وفهموا أن الله يلمح وينبه، على أن الخمر ليست بمحمودة،؛ لأن الله قال: {تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} ، فجعل هذه الثمرات رزقا حسنا، وجعل ضد الرزق الحسن الخمر، ومن هنا فهم بعض الصحابة أن هناك تنبيها، حتى إن عمر رضي الله عنه كان دائما يقول وهي حلال: (اللهم! بين لنا في الخمر) ، أحس من هذه الآية أن الله عز وجل يدعو إلى أمر ما.
ثم نزلت الآية الثانية: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219] أي: ما يكون منهما من الشر والبلاء، وإلى الآن ما جاء بيان ما يقع من الأضرار والبلاء؛ وهذا يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يفسره إلا إنسان عنده علم وفهم، فإن الإثم معروف أنه ضد النفع، والخطيئة والسيئة ضد الحسنة، وهذا يقتضي أن شاربها يأثم، مع أن الآية لم تقتض تأثيما، وإنما المراد: (وإثمهما) أي: ما يكون منهما من الأضرار والتبعات أعظم من النفع الموجود، والدليل على أن الإثم هنا ليس المراد به السيئة: وجود المقابلة: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة:219] ، وهذه أساليب الكتاب والسنة ما تحتاج إلى النظر في المقابلات، وهذا من صوارف الألفاظ عن ظاهرها، ولذلك يحتاج كل أحد يتعامل مع النصوص أن يفهم ألفاظ الشرع وكيفية دلالاتها.
ثم نزلت الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43] ، فبين سبحانه وتعالى أنه حرم على المؤمنين شرب الخمر عند قربان وقت الصلاة، وأول الصلوات الخمس صلاة الظهر كما هو معلوم، فهي الصلاة الأولى؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح من ليلة الإسراء، وصلاة الظهر وقت للكسب والمعيشة، ولذلك ما كانوا يستطيعون شرب الخمر في هذا الوقت إلا إنسان خامل أو إنسان ليس عنده عمل، ففي هذه الوقت أكثر المجتمع ينهمك في الكسب.
ولماذا جعلت صلاة الضحى لها الفضل العظيم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) ؟ لأنها وقت غفلة، وهي وقت انشغال الناس في البيع والشراء والدنيا، فلا يشربون الخمر في هذا الوقت؛ لأنهم مشتغلون بالكسب، فما يأتي الظهر إلا وهو متعب منهك يريد أن يرتاح في الظهيرة من عناء النهار، وبعد الظهر لا يستطيع أن يشربها فوقت العصر قريب فيمتنع من شربها، فإذا صلى العصر فإنه لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت المغرب، ثم إذا صلى المغرب لا يستطيع أن يشرب لقرب وقت العشاء، فأوقاتها متقاربة جدا، فامتنعوا من شربها في النهار إلى صلاة العشاء، فإذا صلى العشاء فإنه يكون مجهدا منهكا أكثر من إنهاكه في الظهر، وحينئذ أيهما أفضل عنده: الشراب وطعامه أو نومه؟ قال بعض العلماء: إذا ازدحم الطعام والشراب والنوم فإن النوم يسبق الطعام والشراب؛ لأن النوم لذته وسلطانه أقوى من سلطان الجوع والعطش، فإنه ربما ربط على بطنه فصبر، ولكن الناعس ما يستطيع رد النوم، حتى أنه ربما يدهم عليه النوم وهو يقود سيارته، فما يستطيع أن يدفع عن نفسه وروحه الهلاك والموت من شدة سلطان النوم على النفس، فإذا صلوا العشاء فإنهم يحتاجون إلى النوم ويقدمونه على شهوة السكر.
ومن هنا ضاق الأمر، حتى إذا شرب الخمر في هذا الوقت فإنه لا يجد لها لذة ولا طعما؛ لأنه يريد أن يرتاح ويريد أن ينام فيصلي الفجر فيعود إلى حاله الأول، فصار هذا تدريجا فكف أقوام عن شربهم في هذا الوقت.
ثم إن الله عز وجل تدارك الأمة بلطفه فحرم الخمر تحريما باتا، وسلب الخمر ما فيها من منافع بقوله: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] ، وجاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم -وحسنه بعض العلماء- (إن الله سلب الخمر ما فيها من المنافع) ، فأصبحت بلاء وداء وشرا، ولا منفعة فيها ولا خير.
فهذا التدريج في التحريم يدل على تأثير هذا الداء والبلاء على النفوس، وإذا كانت الخمر الموجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لها هذا التأثير، فإن في العصور المتأخرة والعياذ بالله! فتح على الناس شر عظيم، وبلاء وخيم، وذلك بأنواع المخدرات التي استشرت وتنوعت واختلفت، وزينها الشيطان للناس والعياذ بالله! فوقعوا في بلاء لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى. المخدرات واستخدام البنج في العمليات الجراحية
المخدرات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن موجودة في عصر الخلفاء الراشدين، ولم تكن موجودة في القرون المفضلة، كان يوجد (البانجو والشيكران) وهذا نبت معروف، يؤثر على العقل، ولذلك الإبل لو أكلت (الشكيران والبانجو) تهيم وتصبح سكرانة، لكن هل للإبل عقل حتى نقول: إنها فقدت عقلها؟ فهي تهيم، ولو تحمل عليها أي شيء، تمشي، لأنها تفقد التحكم، وهي ليس لها عقل، ولكن لها هداية من الله: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فهدى الإبل لكي تخدم الإنسان وتقوم على مصالحه، فإذا أكلت هذا النبت تهيم وتصبح بدون وعي فلا تتحكم في نفسها، وتتحكم في عواطفها، فالشيكران والبنج كان موجودا، وذكره العلماء المتقدمون رحمهم الله في علاج قطع الأعضاء، كما قيل لـ عروة بن الزبير: ألا نسقيك خمرا؟ وذلك عند قطع رجله، فأبى رحمه الله برحمته الواسعة، وقيل: إنهم عرضوا عليه البنج كما ذكر الإمام أبو نعيم الحافظ في الحلية، فامتنع، وأمرهم أن يقطعوها وهو يذكر الله، قال الزهري: فوالله! ما تغير وجهه يعني: ما تغير من قوة الإيمان، وهكذا الذين يذكرون الله عز وجل بقلوب حاضرة تستشعر عظمة الله عز وجل، حتى إنها تقطع منه الرجل ولا يشعر، وقد وقع هذا لبعض الشهداء، فإنه كان في إحدى المعارك فانفجر به لغم، فقطع رجله وسقط كالمغشي عليه، ثم أفاق فجاءوا يحملونه وهو لا يشعر بقطع رجله، وهو معاق تماما، فحملوه وهو يضحك ويتحدث معهم، ويقول: والله! إني بخير أشعر بسعادة، ويحدثهم في طاعة الله وذكره عز وجل، ورجله مقطوعة ينزف منها الدم، ومكث ما بين ثلاث دقائق إلى خمس دقائق، وهو يقول لهم: أحس بانشراح وسعادة عجيبة! يقولون له: ألا تشعر بألم؟ يقول: لا، أبدا! إنما أحس بشيء بسيط مثل دبيب النمل عند ركبتي؛ لأن ساقه مبتورة تماما، حتى فاضت روحه إلى الله رحمه الله برحمته الواسعة.
فالشاهد من هذا، أن الإنسان إذا كان قوي الإيمان يذكر ربه، وهو حاضر القلب؛ لا يحتاج إلى مثل هذه الأشياء، حتى إن الوالد رحمة الله عليه حصل له حادث -وهذا نذكره لأجل الاعتبار- فانقشع جلد رأسه إلى آخر الدماغ، فجاءوا به إلى المستشفى وهو ينزف، فأرادوا أن يخيطوها، يقول من حضر: قيل له: نعطيك المخدر؟ قال: لا، فبدءوا بخياطة جلده بدون مخدر، يقول الشاهد: والله! إنه يتلو القرآن، والله! لم يتألم، ولا تغير وجهه، وهو صابر متجلد، وحدثنا الطبيب الذي أشرف على علاجه فقال: كان الحادث بعد الظهر، وأتيته عند صلاة العصر، فخيطت له الأماكن، حتى إن الممرض الذي يقوم عليه سقط مغشيا عليه، نفس الممرض الذي يداويه ما تحمل هذا الشيء، صار يعيش مع المريض بآلامه أكثر مما يتألم المريض، فسقط مغشيا عليه، ثم إنه قام رحمة الله عليه فتوضأ لصلاة العصر، وهذه القصة حكاها لي الدكتور، وحكاها لي الوالد نفسه رحمة الله عليه، وكان يحكي لي فضل الطاعة وفضل ذكر الله، وفضل القرآن، وكان سني صغيرا في تلك الفترة، كنت في العاشرة أو الحادية عشرة تقريبا، فلما جئناه بعد العصر وهو في المستشفى جلس على سريره، فقال: سمعت الأذان فقمت أتوضأ، فجاء الدكتور يبحث عنه وما وجده على سريره، وهذا الخبر يحكيه لي نفس الطبيب، وما يصدق أن إنسانا فيه هذه الإصابة يقوم من مقامه قال: فوجدته يتوضأ، فقلت له: يا شيخ! والله! لولا الله ثم فضل القرآن الذي في صدرك ما تفعل هذا الفعل؛ لأنه جلس ينزف ما لا يقل عن ربع ساعة قبل أن يصل إلى المستشفى.
فالشاهد من هذا، أن السلف رحمهم الله كانوا يستخدمون هذه الأدوية من البنج ونحوه، حتى كان القرن السادس الهجري وأوائل السابع فوجدت المخدرات، وأول ما وجد منها الحشيشة، وهذا الحشيش نبت جلب إلى المسلمين حينما جاء جنكيز خان، بالتتار إلى بلاد الإسلام، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال رحمه الله: فجلبوا معهم هذه الحشيشة الملعونة، فتعاطاها فساق المسلمين، واستمرءوها حتى أصبحت داء بين المسلمين، وما كان المسلمون يعرفون هذه المخدرات ولا يتعاطونها، ثم توسع الأمر في أواخر القرن التاسع الهجري وأوائل العاشر، فجاء الأفيون ونبت الخشخاش وغيرها من المخدرات النباتية، ثم في القرن الحادي عشر وجدت المخدرات المصنعة والمركبة كيماويا، وفتح على الناس من باب البلاء والشر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) ، والأصل أن هذه المخدرات محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) ، وبين أن العبرة والعلة هي الإسكار وذهاب الإدراك والشعور وتغطية العقل.
وفي المخدرات من تغطية العقل والشعور ما يعدل الخمر أو قد يفوقه، ولذلك بين شيخ الإسلام ابن تيمية عندما ذكر أدلة تحريم الحشيشة أنها أشد تحريما من الخمر، وفيها أضرار أشد من الخمر من وجوه، والخمر أشد منها من وجوه أخر، وقال: إنه يصعب فطام الإنسان عن الحشيشة، وهذا من دقة فهم علمائنا المتقدمين رحمهم الله، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قرأ الطب، وعرف معلومات من الطب أفاد بها أثناء فتاويه رحمة الله عليه، ولما تكلم عن الحشيشة ذكر أنها تضر الكبد، وأنها تحدث ما يسمونه بتشمع الكبد ونحوه من الأضرار، وهذا لا يعرفه إلا الأطباء في زمانه، ولكنه رحمه الله كان يلم بهذه الأشياء، ويرجع إلى أهل الخبرة في معرفتها وتقريرها.
فدليل تحريم المخدرات: أولا: عموم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام) ، وهذا شامل لكل شيء يسكر العقل، ويؤثر فيه.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كل مسكر ومفتر) ، والمخدرات فيها المعنيان، فهي تسكر وتفتر والعياذ بالله! وتؤثر في العقل والإدراك.
ثالثا: أن الأضرار الموجودة في المخدرات كالخمر أو أشد من الخمر من وجوه، وحينئذ يجتمع دليل النقل والعقل على تحريم المخدرات، وسنتكلم إن شاء الله على بقية المسائل والأحكام المتعلقة بهذه الجملة في الدرس القادم إن شاء الله.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعافينا من هذا الداء ومن كل بلاء، وأن يرفع عن المسلمين هذا الداء، وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.
الأسئلة
الفرق بين الدخان والمواد الكيماوية التي تشرب وتؤكل وتستنشق
السؤال هل ما يعرف بالدخان يعتبر من المسكرات أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذا السؤال يحتمل أمرين: يحتمل أن السائل يسأل عن بعض المواد التي تستنشق، وتؤثر في العقل.
ويحتمل أنه يقصد الدخان المعروف أنه يأخذ حكم الخمر، ما أظن واحدا عنده عقل يجعل الدخان مثل الخمر، ينبغي على الإنسان أن يكون واقعيا، وخاصة إذا تحدثنا عن الأحكام الشرعية أن نتكلم بعقل وببيان، الدخان شيء, والخمر شيء آخر، والدخان بلاء ومصيبة، ولا يمكن أبدا أن يأخذ حكم الخمر، ولا يمكن أبدا أن نقول: إن من شرب الدخان كأنه شرب الخمر، ما يجوز هذا، هذا قول على الله بغير علم، وافتراء وكذب.
الدخان محرم لأضراره للموجودة فيه، ولو أن طعاما وشرابا تضمن ضررا وإهلاكا للصحة كما يتضمنه الدخان لحرمناه كما حرمنا الدخان، ولكن الدخان لا يؤثر في العقل ولا يذهب الشعور، ليس هناك أحد يتعاطى الدخان فيصبح كالسكران أو كالمخمور، فالله تعالى يقول: {لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8] ، لا بد من العدل، والعدل أن تقول الصواب والحق، فالخمر شيء والدخان شيء آخر، هذا إذا كان مراده أن يجعل الدخان مثل الخمر.
والخمر كبيرة والدخان ليس بكبيرة يعني: شرب السيجارة الواحدة ليس بكبيرة بحد ذاتها، لكن المداومة عليه تنقله من كونها صغيرة إلى كبيرة، ووجود الأضرار بالدخان في نفسه، وأهله، وولده، لا تقع بسيجارة واحدة يشربها.
ومن هنا ينبغي التفصيل والبيان، فالخمر شيء والدخان شيء آخر.
وإذا كان المراد الأمر الأول الذي ذكرناه وهو: أنه يسأل عن الأمور التي تؤثر تأثير الخمر، ولكنها عن طريق الشم والتدخين ثم تستنشق كما في بعض المواد المخدرة، فهذا لا إشكال أننا لا نفرق في المخدرات بين المشموم وبين المحقون بالحقن وبين المشروب وبين المأكول، كل هذا يأخذ حكم المخدرات في التحريم، والأصل يقتضي عدم جوازه؛ لأن العلة واحدة وهي وجود التأثير على العقل والإدراك، والله تعالى أعلم. حكم من فاته بعض التكبيرات في صلاة الجنازة
السؤال رجل فاتته من صلاة الجنازة تكبيرة، ثم سلم مع الإمام، فماذا يلزمه أثابكم الله؟
الجواب هذا فيه تفصيل من فاتته تكبيرات من صلاة الجنازة ولم يمكنه أن يقضي، فإنه يكبر عدد ما فاته من التكبيرات ثم يسلم.
فمثلا: لو فاتته تكبيرتان، فبعد أن يسلم إذا سلم الإمام يقول: الله أكبر، الله أكبر، ويسلم.
أن الجنازة تترك بعد تسليم الإمام ولا ترفع مباشرة حتى يتمكن الإنسان من القضاء فإنه يقضي كما نص على ذلك جمهور الأئمة رحمهم الله، فيفصل في مسألة القضاء في صلاة الجنازة بين الجنازة التي ترفع مباشرة والجنائز التي تؤخر، فإن كانت ترفع مباشرة فإنه يوالي بين التكبير، وفي هذه الحالة يسقط عنه قراءة ما فاته وصلاته صحيحة.
أما لو سلم مع الإمام مباشرة، وهو يعلم أن هناك تكبيرات قد فاتته عامدا متعمدا ولم يقض هذه التكبيرات فصلاته باطلة؛ لأنه لا بد من الإتيان بهذه التكبيرات، وهي لازمة في الصلاة، ومن تركها متعمدا وهو يعلم أنه واجب عليه قضاؤها فصلاته باطلة، والله تعالى أعلم.
حكم من أدى مناسك العمرة وترك السعي بين الصفا والمروة
السؤال ماذا يجب على رجل أحرم بالعمرة ثم طاف بالبيت وعاد إلى داره دون أن يسعى بين الصفا والمروة، ظنا منه بأن العمرة تقتصر على الطواف فقط، أثابكم الله؟
الجواب الجهل ليس بعذر، الجهل عذر في مسائل محدودة، ولأشخاص معينين، وفي فتاوى معينة، أما أن يأتي إنسان إلى بيت الله الحرام، والعلماء موجودون، والكتب موجودة، والأشرطة موجودة، ويمكنه أن يعرف ما هو الواجب عليه في عمرته أو على الأقل يسأل المرشدين الموجودين، ثم يأتي ويقول: والله! أنا كنت أظن أن العمرة طواف، هذا ليس بعذر، هذا تلاعب وتقصير وإهمال، ومن قصر يتحمل مسئولية تقصيره، ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أقواما أقدامهم تلوح بعد الوضوء، ولم ينتبهوا للأعقاب التي في أقدامهم، فلم يغسلوها فقال: (ويل للأعقاب من النار) ، فأخبرهم عن هذا الوعيد مع أنهم ما علموا، وهم من الصحابة، وتوعدهم بهذا الويل: (ويل للأعقاب من النار) ، فويل لأصحابها من عذاب الله وعقوبته، لماذا؟ لأنهم أهملوا وقصروا في تفقد القدمين، فالله أمرهم بغسلها كاملة، وكان المنبغي أن يحتاطوا وأن يتنبهوا للفرض الذي أوجب الله عليهم.
فهؤلاء الذين يؤدون مناسك العمرة والحج وأحكام العبادات دون أن يسألوا أهل العلم، ثم يأتون ويقولون: والله ما ندري، والله ما نعلم، هذا ليس بعذر لهم، هذا إهمال وتفريط، ويتحمل المهمل تفريطه.
أما السعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركان العمرة، كما هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وقالت عائشة رضي الله عنها: (لعمري لا أتم الله حج وعمرة من لم يسع بين الصفا والمروة) .
إذا: لا بد عليه أن يرجع، وهناك وجهان للعلماء: فبعضهم يقول: لا يصح السعي إذا وقع الفاصل بينه وبين الطواف في العمرة، وهذا ما يسمونه بشرط الموالاة وعدم الفصل، فعلى هذا القول يلزمه أن يعيد الطواف، فيطوف ثم يسعى أي: لا يسعى إلا بعد طوافه، وهذا أحوط، فيرجع فيطوف ثم يسعى بين الصفا والمروة، والله تعالى أعلم.
دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب
السؤال أخي يتعاطى الخمر، ومع ذلك لا يصلي، وهو متزوج وله أولاد، وهو في غالب وقته كذلك، وأنا أريد أن أدعوه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، وأن أدعو له وأن أضاحكه؛ لأنه مع ذلك لين القلب، أثابكم الله؟
الجواب نسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، ويتوب علينا وعليه وعلى المسلمين أجمعين، وأن يرفع عن كل مبتلى بلاءه.
أخي في الله! أولا: عليك بمناصحته، وواجب عليك أن تسعى في نجاة أخيك من النار، وهذا فرض عليك، والدعوة للأقارب أعظم وآكد من دعوة الغريب، دعوة القريب أعظم وجوبا من دعوة الغريب.
ثانيا: تحرص على بذل الأسباب التي تؤثر في أخيك، وأنت تعرف النقاط التي هي نقاط ضعف فيه، فتوجد له من يؤثر عليه فيها، فتغتنم الفرص إذا -لا قدر الله- أصيب بمصيبة، فتذكره ذكرته بالله عز وجل، وإذا حدث عنده سرور ذكرته بنعمة الله، فتحاول أن تؤثر عليه، وتأخذ بالأسباب التي يكون لها وقع كبير في نفسيته وفي قلبه لعل الله أن يهديه.
ثالثا: عليك -أخي في الله- أن تحذر مجاراة أهل المعاصي في معاصيهم، خاصة إذا نظروا إليك على أنك على خير وبر، فإذا كانت مؤاكلتك ومشاربتك ومباسطتك له تزيده جرأة على حدود الله، واستخفافا بمحارم الله فإياك إياك! لا يختمن الله على قلبك، خاصة إذا كان جلوسك معه أثناء المنكر، أو أثناء شربه للخمر، إلا أن تعظه وتذكره بالله عز وجل، فالأكل والشرب مع أهل المعاصي حال معاصيهم مشدد فيه؛ ولذلك جعل الله عز وجل من جارى أهل المعصية في معاصيهم -دون أن ينصحهم، ودون أن يعذر إلى الله فيهم حكمه حكمهم: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} [النساء:140] ، يعني: لو جاء شخص ووجد شخصا يستهزئ بالدين أو بالعلماء أو بالصالحين فلا يجوز له أن يجلس معه.
افرض يوما من الأيام أنك في مناسبة، وجاء أحد يستهزئ ويتكلم في الدين، أو يستهزئ بالعلماء، فقام له واحد في وسط الغداء فقال له: اتق الله! لا تتكلم في العلماء، أمسك لسانك أو اخرج، سيقولون لك في اليوم الأول: متشدد! اليوم الثاني: متشدد! اليوم الثالث: يمسكون هذا الذي يتكلم ويقولون له: احذر! لا تتكلم في الدين، ولا تؤذي من جلس، على الأقل حتى يجاملون أهل الحق.
فإذا سكت الإنسان عن معصية الله محاباة لقريبه أو غيره؛ فإن هذا يعين أهل الباطل على باطلهم، ولا يمكن أن تقام حجة الله على العباد بهذا التخاذل، فينبغي عليك أن تنصحه.
وهناك أمر أخير ننبه عليه: إذا أردت أن تكلمه أو تبين له الحق فإياك ثم إياك! أن يتسلط الشيطان على قلبك فتكون موعظتك من أجل العاطفة لا من أجل الله عز وجل! ولذلك كثيرا ما تضعف دعوة الأقارب؛ لأن الإنسان يأتي بها من منطلق العاطفة، فيقول: فضحتنا، نكست رءوسنا أمام الناس، الناس يقولون: أخوك يفعل إذا أصبح الإنسان يدعو لهذه الأشياء فهي ليست لله، وإنما هي حمية للنفس.
وعلى هذا عليك أن تحرص على الإخلاص، وإرادة وجه الله عز وجل وطلب الخلاص، وأن تتفكر أنك إن أخذت بحجز أحدهم عن نار الله عز وجل عظمت مثوبتك، وجل ثوابك عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فإذا كان قريبا كان الأمر أعظم، وإذا كان قريبا كان الجزاء من الله أجل، فتحرص على أن تعامل الله سبحانه وتعالى، وعلى أنك تنصحه لله وتذكره بالله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى كل خير وهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.