اعتبار النفقة الواجبة في حال التنازع
قال رحمه الله: [ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع] .
(يعتبر الحاكم ذلك) أي: تقدير النفقات، وتقدير الكسوة (بحالهما عند التنازع) كما ذكرنا أن الحنابلة قد يجمعون، ويقولون: ينظر إلى حالهما فيخرج الوسط، فإذا تخاصم الزوجان فقالت المرأة: ما أنفق علي إلا نفقة قليلة، وقال الرجل: أنفقت عليها نفقة مثلي، فينظر القاضي الوسط بينهما ويحكم، فلو أنفق عليها ألفا، والوسط ألف وخمسمائة، قال له: أكمل الخمسمائة، ويلزمه بإتمام الخمسمائة التي هي وسط بين النفقتين.
(عند التنازع) إذا قلنا: العبرة بحالهما معا -كما هو مذهب الحنابلة- يرد
السؤال قد تكون المرأة تطالب بنفقة مثلها، فيقصر الزوج شهورا، ثم تشتكي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وقد تغير الحال وتغيرت الأوضاع، فقد تكون الأرزاق في حال الشكوى غالية، وتكون في حال المظلمة كاسدة، فهل ننظر حال شكواها أو حال ظلمها، وهل تقدر النفقة بحال الشكوى أو بحال المظلمة؟ فاختار جمع من العلماء: أن التقدير يكون بحال الشكوى، ويكون هذا نوعا من الإسقاط، فتتحمل المرأة هذا الحال ربحا وخسارة، فإذا كان هناك ربح فلها، أو كانت خسارة فعليها، فالعبرة بالحال عند الشكوى.
ومن أهل العلم من نظر إلى أنه ينظر إلى استحقاق النفقة من حيث هي، فلو كانت النفقة مثل أن يعطيها فيما يكلف ثلاثة آلاف ريال، فإن غلت الأشياء حال الشكوى حتى أصبحت سبعة آلاف وهو الضعف، فإننا نطالبه بالضعف؛ لأن العبرة بحال الشكوى لا بحال المال.
فاعتبر المصنف رحمه الله بحال الشكوى؛ لدلالة حديث هند: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فلم يردها إلى ما مضى، بل جعل الحكم مستأنفا، قالوا: وهذا يدل على أن العبرة بالحال عند الشكوى. ما يفرض للموسرة تحت الموسر
قال رحمه الله: [فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها] .
هناك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكونا غنيين موسرين، هي من أسرة غنية وهو من أسرة غنية.
الصورة الثانية: أن يكونا من أسرتين فقيرتين أو متوسطتي الحال، فحينئذ يتفق حالهما بما دون اليسر ودون الغنى.
الصورة الثالثة: أن يختلفا فتكون هي غنية وهو من أسرة فقيرة أو العكس، فإذا اتفقا في الغنى ألزمناه بنفقة الغني، وإذا اتفقا في العسر والضيق والفقر ألزمناه بنفقة الفقير، وإذا اختلفا نظرنا إلى الوسط بين غناها وفقره، وفقرها وغناه، فإذا كان الغنى ثلاثة آلاف والفقر ألفا فالوسط يكون ألفين، فيفرض لها حدود نفقة الألفين.
قال رحمه الله: [من أرفع خبز البلد] .
إذا نظر إلى الغنى واليسر فإنه يختلف، فالغنى طبقات، فإن كانت من أغنى الغنى نظر إلى أرفعه، وأوسطه وأدناه، كل شيء له قدر: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] ، فهم يقولون: إذا قدر بغناهما أو بفقرهما نظر إلى الحال؛ لكن المصنف قال: ينظر إلى أرفع الحال في الغنى.
وفائدة المسألة: أنه إذا كان خبزها وطعامها بثلاثة آلاف في أرفع الغنى، وأوسط الغنى فلو كان الغنى يبدأ من الألف، وينتهي بثلاثة آلاف يكون أوسطه الألفان، فينظر إلى حالها في الوسط أو في دون الغنى أو أعلاه. الطعام اللازم للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [وأدمه] .
يعني: ما يؤتدم به مع الخبز، واختلف العلماء رحمهم الله في طعام المرأة: هل الزوج يجب عليه أن يعطي طعاما مقدرا محددا فنقول: عليه نصف صاع أو عليه صاع، أم أن النفقة لا تحدد، ونقول له: أنفق بما يسد جوعها بالمعروف؟ الصحيح الثاني.
استدل الذين قالوا: إنه يجب أن تقدر، بأن الله تعالى وصف الإنسان بكونه مطعما بأقل ما في الكفارات وهو ربع صاع أو نصف صاع على خلاف عندهم، فإذا نظر إلى كفارة الظهار فهي ربع صاع، وإذا نظر إلى كفارة الفدية في الحج فهي نصف صاع؛ ولذلك يختلف الضابط باختلاف هذين القدرين؛ فوصفت الشريعة من يعطي هذا القدر بكونه مطعما، قالوا: فيطعمها في كل يوم هذا القدر، فإذا أطعمها كل يوم هذا القدر فقد أطعم.
وجمهور العلماء على أنها لا تقدر وأن الأمر يرجع فيه للمعروف، فلا نقول: عليه ربع صاع ولا نصف صاع ولا صاع، وإنما يطعمها بما يتوافق مع عرفها وبيئتها، وهذا الثاني أقوى القولين: أنه لا يقدر بحد معين.
قال رحمه الله: [ولحما] .
كذلك الإدام واللحم، فمثلا: إذا نظر إلى أجود اللحم -مثلا- يكون لحم الغنم، وأجود الغنم الضأن ثم الماعز، ثم بعد ذلك نفس الضأن على مراتب، فقد يأخذ الغني من جدي الضأن، والغني الأوسط يأخذ من أوسطه وطبقة الغنى المطلقة يأخذون بأعلاه، فيلزم بحاله.
أيضا لحم الدجاج، فلحم الدجاج هو من رزق الله عز وجل، لكنه معروف بكثرة الأمراض الموجودة فيه وكثرة الأضرار، وعدم ملائمته لصحة الإنسان في كثير من الأحوال، خاصة إذا كان يعلف بالفضلات أو كان مما لا يعتنى بطعامه، فلا شك أن فيه إضرارا بالولد، خاصة إذا كان في بيئة لا يحسنون إطعامه، وهكذا بقية الدواجن، إذا كان علفها يضر، فهذا لا يصرف نفقة ولا يلتفت إليه؛ لأننا قررنا أنه ينبغي على الزوج في نفقته على زوجته، والوالد في نفقته على ولده أن يتقي الله فيما يطعم.
فإذا ثبت أن طعامهم من أجود اللحم أطعمهم من الضأن، وإذا كان من أوسطه كلحم الإبل أطعمهم من لحم الإبل، وإذا كان من أقله وهو لحم الدجاج والداجن كالحمام ونحوها أطعمهم من الأقل، وقد يكون بعض هذه اللحوم أفضل من بعض، فقد تكون بيئة تفضل لحم الإبل ويكون أفضل ما يكون، وقد تكون هناك بيئة تفضل لحم الطيور وتكون أعز، وقد تفضل -مثلا- نوعا من أنواع الطيور، وقد تكون بيئة تفضل الأسماك، فيطعمهم من أجود الأسماك وأوسطها على حسب حالهم، فينظر إلى طعام مثلها من هذا الشيء إن كان في الإدام أو اللحم وما يؤتدم به.
فلو أنه أراد أن يطعمها فأطعمها الخبز دون أن يطعمها ما يؤتدم به فإنه قد قصر، مثلا: زوج عنده زوجة وأولاد، يطعمهم أرزا بدون ما يؤتدم به، أو وضع الرز مع إدام بدون لحم، فهذا لا شك أنه يضر بالبدن؛ لأنه يحتاج إلى لحم يكون به قوام البدن وقوة البدن، فجرى العرف عندنا أن يكون الإدام بلحم، لكن لو قال: ما أضع فيه لحما ولست مطالبا بشيء من هذا، نقول في هذه الحالة: إنه أجحف وأنقصهم عما جرى العرف أن مثله يطعم به.
على كل حال: إن كان اللحم من بهيمة الأنعام أطعم من بهيمة الأنعام، فإن كان من أجوده في عرفه فالواجب الأجود، وإن كان من أوسطه فالواجب الأوسط، وإن كان من أقله فالواجب الأقل، ولا يحرم الرجل أولاده، ويقول: أنا والله أريد أن آكل من الأشياء العادية وما أريد أن أعود ولدي على الترف، هذا ليس بصحيح ولا بسليم، فمعنى أنك لا تعودهم على الترف أي: لا تبالغ في حقهم الذي لهم، أما أن تعطيهم قدر الكفاية فهذا ليس من الترف، بل هذا قيام بالواجب، وليس للإنسان فيه منة على ولده؛ لأنه واجب عليه في الأصل.
فيفرق في هذه القضية، فبعضهم يقول: أنا أريد أن أربيهم على شظف العيش وعلى الخشونة، والمنبغي أن يثق كل إنسان أن التربية ليست تربية الأكل ولا الملبس، التربية تربية الروح، فيغرس في قلبه تقوى الله عز وجل، والزوج والوالد الذي يكون قدوة في قوله وفعله ويغرس في أولاده المعاني الطيبة الكريمة، يكون قد قام بحق ولده على أتم الوجوه وأكملها، أما أن يجعل ذلك عن طريق الطعام والشراب، فهذا قد يكون في بعض الظروف، وبقدر، وفي أحوال خاصة، لكن أن يكون هو الشيء المطرد فلا؛ لأن هذا يجحف كثيرا بالأولاد ويجحف بالزوجة.
فالزوجة تتضرر بين أخواتها وقريناتها وأهلها وذويها ومجتمعها، فإنها تتضرر إذا منعت حقها، ويدخل الشيطان في إفساد الزوجة على زوجها، فيجب أن يطعمها الخبز والإدام واللحم بالمعروف، وفي هذه الثلاث مع خبز يؤكل وإدام يؤتدم به ذلك الخبز؛ لأنهم في القديم كانوا يأكلون الخبز والإدام، وكان البر في القديم يعصد أو يصنع على أرغفة، فإذا صنع -عصد- كالعصيدة ونحوها لا بد له من إدام، وهذا الإدام يكون قويا نافعا باللحم، فذكر المصنف هذا، ولا زالت بيئات المسلمين إلى يومنا موجودا فيها هذا الشيء، حتى في زماننا نجد الأرز أشبه بالخبز، ونجد له ما يؤتدم به، ونجد قوة في هذا الذي يؤتدم به إما أن يكون مع الرز أو يكون مع الإدام مثل اللحم، فهذه أشياء ذكرها المصنف رحمه الله وهي موجودة في أعراف المسلمين، وتكون قواما لهم في أقواتهم.
قال رحمه الله: [عادة الموسرين بمحلهما] .
عادة الموسرين؛ لقوله تعالى: {بالمعروف} [البقرة:236] ، والقاعدة: أن العادة محكمة، والمرجع في هذا إلى بيئتها وفي حق أمثالها من النساء.
فلو كان الأغنياء في المدينة التي هو فيها يأكلون اللحم، وفي مدينة أخرى أهلها وذووها يأكلون نوعا هو أجود وأرفع من هذا النوع الموجود في بيئته، فإننا لا نطالبه بما في المدينة الأخرى، إنما نطالبه بما هو موجود في قريته أو مسكنه أو مكان عمله الذي انتقل إليه، فينظر أجود الطعام فيه، إلا إذا كان فيه ضرر أو كان مضرا بصحتها، فهذا شيء آخر. الكسوة اللازمة للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها من حرير وغيره] .
بعد ما بين الطعام انتقل إلى الكسوة، فينظر إلى كسوة مثلها في بيئتها والمحل الذي هي فيه، فإذا كانت المرأة الغنية تلبس -مثلا- في حدود (3000) ، والوسط في حدود (2000) ، والفقيرة في حدود (1000) ، فالأعلى (3000) والأدنى (1000) والوسط (2000) ، ففي هذه الحالة إن كان من الأغنياء أنفق كسوة الأغنياء بثلاثة آلاف، وإن كان من الفقراء أنفق كسوة الفقراء بالألف، وإذا كان فقيرا فأنفق بالألف والخمسمائة أو أنفق بالألفين دون أن يكون هناك ضرر، وقصد فيما بينه وبين الله عز وجل إدخال السرور على أهله، وجبر خاطرها، واحتساب الأجر عند الله، فهو داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) ، فهذا من الخيرية، شريطة أن لا يكون هناك شيء يفسدها أو يضرها في دينها، أو يتسبب في الفتنة لها، مثل الألبسة والأكسية التي فيها محاكاة للكفار أو تعين الكفار على المسلمين أو نحو ذلك، فهذه تتقى، وينبغي أن لا يعينها على ذلك، وأن لا يفتح على نفسه باب الفتنة بكسوتها بهذا النوع من الألبسة. الأثاث اللازم للزوجة على زوجها
قال رحمه الله: [وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة] .
هذا بالنسبة لأثاث الزوجة، فهناك طعامها ولباسها وأثاثها، فلها أثاث بالمعروف، وإذا تزوج امرأة فالواجب أن يؤثث بيته بما يتفق مع حاله هو، ويكون هذا الأثاث بما ترتفق به في منامها فقال رحمه الله: [وللنوم فراش] .
أي: فراش يكون فراش النوم بحاله هو، غنى وفقرا وما بينهما، فإذا كان غنيا يأتي بفراش الغني، وإذا كان فقيرا يأت بفراش الفقير، ولا بد من وجود الفراش.
[ولحاف] أي: لحاف الفراش لا بد منه.
[وإزار] أي: وإزار تأتزر به، [ومخدة] : والعرف في ذلك محتكم إليه، وفي القديم كانت هذه الأشياء بالبركة، وكان الناس في عافية من الفتن التي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كشف الله له عما يكون من الفتن، فأخبر عن عظيم ما يكون في الأمة، فالرجل في القديم لا يجد إلا القليل معه، ومع ذلك تجد المرأة سامعة مطيعة في بيتها تكتفي بالقليل، وهذا القليل خرجت منه من الذرية ومن الأمة من نفع وقاد الأمة علما وعملا، وصلاحا وتقوى، مما يدل على أن المظاهر ليست هي كل شيء، فهذه الأمة قادت العالم من المحيط إلى المحيط، وكانت على أقل ما يكون الحال من اليسر والرضا والقناعة، وما كانت أمورها تسير إلا بالرضا عن الله جل وعلا، وهؤلاء أئمة الإسلام يذكرون ما كان عليه بيوت المسلمين.
وأما اليوم فكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: تجده شبعان ريان جالسا على أريكته قل أن يذكر الله جل جلاله، نسأل الله السلامة والعافية، ولربما تجده شبعان ريان جالسا على أريكته يستهزئ بالإسلام وبأهل الإسلام وبأهل الاستقامة، فشاه وجهه وخرس لسانه، لا يحمد النعمة ولا يعرف ما هو فيه من الخير الذي أعطاه الله عز وجل؛ لأن الله نزع البركة منه، وكل هذا بسبب عدم الشكر.
وعلى كل حال: فهذه أمور ذكرها العلماء على أساس أقل ما يجزئ، وفي زماننا أثاث البيت يكون بما هو مناسب للعرف، فهناك غرف للنوم تكون للغني وتكون للفقير وتكون للمتوسط، فإن كان حاله حال غنى جعل أثاث بيته أثاث الغني، ويتقي الله عز وجل في زوجته؛ لأنها تزوجت كما زوجت أخواتها وقريباتها، وهذا يضرها إذا كان أثاث بيتها على النقص مع قدرة زوجها على أن ينفق عليها نفقة الأغنياء، وهكذا بالنسبة لما يكون به هذا الأثاث من الفراش.
وأما الشيء الزائد عن الأصول مما فيه بذخ وفيه إسراف، مثل السيارات التي تشترى، والألوف التي توضع في المظاهر الشكلية التي لا قيمة لها ولا نفع لها، فهذه ساقطة أي: ليست محسوبة، وليس بملزم بعرف يعارض الشرع، وهذه الأشياء ليس فيها فائدة، فعندما يشتري عربية وفيها ثلاثة أو أربعة صحون توضع فقط عند الباب، ماذا تفيد غير المظهر والشكل؟! فتنفق أربعة آلاف أو خمسة آلاف تغني ما لا يقل عن خمسين أو مائة بيت من ضعفاء المسلمين وفقرائهم، كلها تذهب في هذا الشيء الذي لا معنى فيه، نحن ما نقول بالعرف إلا بأمور: أولا: أن يكون هذا العرف غير معارض للشرع، فلو قال قائل: هذا جرى به العرف، نقول: نعم، لكن شرط الاحتكام إلى العرف في مثل قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228] ، في الأمر بالنفقة بالمعروف، وأمره عليه الصلاة والسلام بالمعروف شرطه أن لا يتضمن مخالفة شرعية، فلما يشتري شيئا بالمائة والمائتين والثلاثمائة والأربعمائة والخمسمائة على أنه صورة وزينة في البيت لا ينفع ولا يفيد فإنه إسراف، والإسراف مخالف للشرع، فحينئذ لا يعتبر عرفا مؤثرا، ولذلك يقولون: إن العادة لا تكون محتكما إليها إلا إذا وافقت الشرع أو كانت على المباحات، أي: الأشياء المباحة التي لا تضاد الشرع، قالوا: وليس بالمفيد جري العيد لخلف أمر المبدئ المعيد (فليس بالمفيد جري العيد) يعني: جريان العادة (لخلف أمر المبدئ المعيد) يعني: بخلاف الشرع، ومن هنا قالوا: لو جرى العرف بالمخالفة للشرع من إسبال ثوب، أو جرى العرف بزينة للنساء تكون للرجال أو نحو ذلك من المحرمات، لا يكون عرفا مؤثرا، فإذا: الشرط ألا يعارض الشرع.
ثانيا: أن يكون هذا العرف مطردا، فلا يكون لبعض الناس دون بعض، فإذا نلزمه بفراش وأثاث البيت على حاله من الغنى والفقر فيما يكون في حدود الشرع، دون أن يكون مرتكبا لمحظور ومنتهكا لحد أو حرمة من حرمات الله عز وجل.
قال رحمه الله: [وللجلوس حصير جيد وزلي] .
فراش البيت في القديم كان الحصير، والحصير كان من سعف النخل، وأيضا يكون من الجريد، وفي بعض الأحيان تكون الخيوط مع السعف، هذا ما كان في الأعراف في القديم، وكانت هذه الأشياء يصنعها المسلمون وينتفع بها المسلمون ويبيعها المسلمون ويشتريها المسلمون، فأموالهم تؤخذ منهم وتدفع إليهم، وكان أعداء الإسلام يشترون من المسلمين، وما كان المسلمون بحاجة إليهم، ولذلك لما كان المسلمون هم الذين يسدون حاجاتهم كانوا في خير ونعمة، وأموالهم كانت لهم، وقل أن تجد أحدا عاطلا عن العمل، وقل أن تجد أحدا لا يجد كفايته؛ لأن الله وضع لهم البركة، فتجد الخير والبركة، حتى أن الرجل يصنع من سعف النخل فراش بيته، ويصنع سقف بيته من جريد النخل ومن جذوع النخل، ويصنع منه سفرة طعامه، ويصنع منه الكرسي الذي يجلس عليه، ويصنع منه المروحة التي يروح بها، وهذا من البركة التي وضعها الله عز وجل للمسلمين.
ولا يظن أحد أننا نتكلم عن خيالات، ونحن نتكلم بهذا لما أصبح البعض يظن أنه منقصة وهو كمال، ويظن أن هذا مذمة وهو شرف وليس بعيب أبدا، هذه الأمة التي كانت في أوج عزها وعظمتها هكذا كانت، كانت بمبادئها، لكن منذ أن لهث المسلمون وراء الأعداء أصابتهم الذلة التي لا يمكن أن ينزعها الله عنهم إلا إذا رجعوا إلى دينهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، فيضع الله لهم البركة في عمرهم كله.
فالنفقة والكسوة والحصير والفراش يرجع فيه إلى العرف، فإذا كان العرف سائدا وجاريا بالغنى، أن يفرشها من الفراش الجيد فنقول له: يجب عليه جيد الفراش، وإذا كان هناك ما يسمى بالموكيت أو الفراش المفصل فنقول: أفرشها منه، ولكن إذا كان غنيا فمن الأجود، وإن كان فقيرا فمن الأقل، ويقاس على هذا بقية ما يكون من لوازم البيت وأثاثه.
قال رحمه الله: [وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد] .
كذلك مثلما تقدم، ذاك في أعلاه وهذا في أدناه، قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] ، فلا يطالب بأن ينفق نفقة الغني وهو فقير، والمصنف رحمة الله عليه نظر إلى أن المرأة لها حق أن تقدر النفقة بحالها، ونحن بينا أن المرأة لا يلتفت إليها وإنما يلتفت إلى الرجل والعبرة بحال الرجل، وبناء على ذلك: إن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء من مثله وإن كان فقيرا فعكس ذلك.
قال رحمه الله: [وأدم يلائمها] .
كما تقدم.
قال رحمه الله: [وما يلبس مثلها ويجلس عليه] .
(ما يجلس عليه) الذي هو الأثاث الذي تقدم في الحصير.
قال رحمه الله: [وللمتوسطة مع المتوسط] .
ينظر إلى الاثنين، إذا كان متوسطا أو كان غنيا أو فقيرا، ولذلك ذكر الموسرة تحت الموسر، وللفقيرة مع الفقير، وللمتوسطة مع المتوسط، أما إذا كان كما ذكرنا أن العبرة بحال الرجل، فحينئذ ينظر إلى حاله غنى وفقرا ثم إذا كان وسطا فتقدر نفقته بنفقة الوسط.
قال رحمه الله: [وللمتوسطة والغنية مع الفقير، وعكسها، ما بين ذلك عرفا] .
هنا خالف الحنابلة رحمهم الله ما ذكرناه راجحا من مذهب الشافعية، فقالوا: إنه ينظر للغني مع الفقير، والفقيرة مع الغني إلى الوسط بين الغنى والفقر، وقلنا: الصحيح أن العبرة بحال الرجل لا بحال المرأة، فلا تأثير للمرأة في النفقة.
الأسئلة
كيفية إنفاق من له زوجتان إحداهما لها أولاد دون الأخرى
السؤال إذا كان للزوج أكثر من زوجة، وبعضهن لديها أولاد والأخرى ليس لديها ولد، هل يجب على الزوج أن يساوي في عطيته أو ينظر إلى ذات الولد من زوجاته؟
الجواب هذا السؤال متعلق بحق القسمة بين الزوجات والعدل بين الزوجات، فإذا كانت الزوجة عندها أولاد زاد في نفقتها بنفقة أولادها، مثلا: عنده زوجتان: واحدة من الاثنتين ليس عندها أولاد والثانية عندها ولدان، فرضنا أن رأس كل واحدة في نفقتها -مثلا- في حدود خمسمائة ريال، والأولاد كل واحد منهم يكلف مائتين، فهذه عندها ولدان، معنى ذلك أنها تستحق أربعمائة ريال، لكل واحد مائتان، والأربعمائة مع الخمسمائة التي هي رأس لها تصير تسعمائة ريال، فيعطيها تسعمائة ريال، خمسمائة مستحقة لها وأربعمائة لولديها، والتي لا ولد لها يعطيها فقط خمسمائة نفقة الرأس ولا يلزمه أن يزيد؛ لأنه ليس عندها موجب للزيادة، فالأصل أن ذات الولد تعطى نفقة ولدها؛ لأن هذا ليس لها هي وإنما لولدها، وهذا لا يضر بالعدل والقسم بين الزوجات، والله تعالى أعلم.
إنفاق الرجل على أهل زوجته
السؤال هل للزوجة أن تطالب بنفقة أهلها وإطعامهم إذا لم يكن هناك من يعول أهلها؟
الجواب هي تطالبه تكرما وتفضلا وإحسانا منه إليهم وصلة للرحم، عل الله أن يخلف عليه ويبارك في ماله، وكم من زوج موفق كان دخوله على أهل زوجته خيرا وبركة، فتجده لا يقصر في الإحسان إلى رحمه، ولا يقصر في النفقة، ولا يقصر في الجاه، وإذا وجد منهم حاجة سدها أو خلة قام بها، ينظر هل يحتاجون إلى جاهه وشرفه، فيقوم بذلك ما يستطيع، فيكون نعم الرحم لرحمه.
وهذا من توفيق الله للعبد أن يعيش مرضيا عنه بين والديه، مرضيا عنه بين قرابته، مرضيا عنه بين عشيرته، مرضيا عنه بين رحمه، تسأل أقرب الناس عنه فلا يذكرونه إلا بخير، ويقولون: نعم الرجل، حافظ للرحم وصول لهم.
وما استقامت أمور الأمة إلا بهذه المكرمات والفضائل، فتجد الرجل ينظر إلى مقام المحسنين ولا ينظر إلى مقام الإجزاء فقط.
نقول: إنه ليس بواجب عليك الإنفاق عليهم، وليس من حقها أن تلزمك بهذا، ولكنها فتحت عليك باب رحمة، إن أردت أن يرحمك الله وإن أردت الخير والبركة فاحتسب، وإنه والله مما يقرح القلوب أن تجد الرجل قوي الهمة ينظر إلى الفقراء يمينا وشمالا، ويلهث في سد حوائجهم ولا ينتبه لأقرب الناس منه، تجده يفيض الله عليه المال فإذا جاء ينظر إلى الغريب ولو كان عنده كفاية يقول: هذا مسكين، وإذا نظر إلى قريبه دقق في كل شيء، فلو وجد عند قريبه أقل المال ظن أن قريبه غني فيصرف عنه كل خير منه، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية.
ومن توفيق الله للعبد وتسديده وإلهامه الرشد أن يبدأ بأقرب الناس منه؛ ولذلك يقعد الشيطان للإنسان بالمرصاد، وانظر إلى أي مسألة فيها إحسان إلى أقربائك تجد الشيطان يدخل عليك من المداخل التي لا يعلمها إلا الله، فتارة يقول لك: لا تعطهم، إنك إذا أعطيتهم أفسدتهم، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم تسلطوا عليك ثم غدا يأتونك وهكذا، وتارة يقول لك: إذا أعطيتهم يذهبون ويخبرون الوالد والوالدة، والوالد والوالدة يغضبون عليك، ويصير الشيطان فقيها لا يريد لك غضب الوالدين!! وهو لا يريد الخير للعبد بل يريد أن يسلبه الخير، ولكن الموفق السعيد يقول: أنا أعطي وأما العواقب فعلى الله، أنا أعطي وأرجو من الله رحمته فيجد أن تلك الوساوس تزول، وبمجرد ما يعطي يجد في قرارة قلبه عاجل البركة والخير، وهذا مجرب.
فليس هناك أشياء وجدناها أكثر نفعا وأسرع وأحسن عاقبة من صلة الرحم، وهي من أسرع الأشياء بركة على الإنسان، سواء من الإخوان أو الأخوات أو أولاد الأسرة من أولاد الأخوات والأعمام والعمات، كأولاد العم وأولاد العمة وأولاد الخال وأولاد الخالة، فالمسارعة إليهم وقضاء حوائجهم، تجد دونه من الفتن والمحن ما الله به عليم، ولكن ما أن تضع قدمك على أول الطريق إلا نفحتك من رحمات الله ما لم يخطر لك على بال؛ لأنه قال: (فمن وصلها وصلته) ، فتحصل بركة العمر، وبركة الرزق، فينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، ويزاد له في عمره، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجرب.
فمن نعم الله عز وجل على العبد، أن يحرص على أهل الزوجة، فإذا جاءت الزوجة واشتكت أن أقربائها أصابهم شيء، وتأثرت، فيقول لها: أبشري وأرجو من الله أن يجملني معك، حقك وحق أهلك علي عظيم، والشيطان يقول: لا تقل هذا الكلام؛ لأنك إذا قلت هذا الكلام تحدث مشكلة، ربما تذهب وتقول للوالدين، وإذا قلت هذا الكلام سوف تخربهم عليك، وغدا سيأتونك ويفتحون لك باب عطاء وكذا.
وقد كان مسطح يتكلم في عائشة يتهمها بالزنا، وهو قائم بعد الله على أبي بكر في صدقاته ونفقاته.
ومنذ أن تكلم أقسم أبو بكر أن لا يعطيه، فينزل القرآن من فوق سبع سماوات في رجل افترى الفرية وقذف عائشة، وليس هناك أعظم بعد الدين من العرض، وهذا الأمر ليس بالسهل في ثاني رجل في هذه الأمة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى} [النور:22] ، نهاهم أن يحلفوا امتناعا عن الفضل والإحسان للقريب من فوق سبع سماوات، مع أنهم آذوه أذية عظيمة، وقطع الرحم الذي بينه وبين أبي بكر بقذفه لابنته وفراش النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ناحية دينية: كونها فراشا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ناحية الرحم والقرابة: كونها بنت ابن خالته وقريبه، ومع هذه الإساءة كلها أمر القرآن بالإحسان إليه: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور:22] ، كأنه باب مغفرة، فلا تفوت على نفسك يا أبا بكر.
فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها ورجع إلى الخير الذي كان، إن لم يكن قد زاده عما كان فيه من خيره، فالواجب على الإنسان أن لا يفوت مثل هذا، ومن المكرمات لأناس أن الله عز وجل فتح عليهم فجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من جعله الله عز وجل يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله يقول: (ومن الناس) ، أي: وليس كل الناس: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} [البقرة:207] .
فيجرب الإنسان حينما تأتيه زوجته في ضائقة لأبيها أو أمها، فإذا بلغته الضائقة قامت له الدنيا وقعدت كأنه أبوه وكأنها أمه، وقال لها: أبشري بكل خير، وأرجو من الله أن يجملني معك، ثم قام وسد الخلة حتى ولو يتحمل، وكم في قصص السلف من المواقف الجليلة والحوادث الغريبة في الإحسان للرحم، وما عادت لصاحبها إلا بكل خير في دينه ودنياه وآخرته، بل منهم من تأتيه الإساءة من الرحم فيقابلها بالإحسان ويقف موقف الذليل، وهذا كله إحسان لأخته أو رحمه.
أحد الأخيار كان له زوج لأخته، فضرب أخته ذات يوم وطردها من البيت، وكان هو المخطئ -وهذا يحدثني به الرجل- وكان الرجل الذي هو أخ لهذه الزوجة حافظا للقرآن من أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من أصدقاء الوالد ومن الناس الذين قل وجودهم في هذا الزمان، وكان من أكرم الناس وأسمحهم نفسا فيما علمت منه، أحسبه ولا أزكيه على الله في بره للناس، حتى أنه كان يفطر في رمضان ولا يخرج من المسجد حتى يملأ سيارته من الفقراء والضعفاء، ولا يمكن أن يفطر في رمضان أو يتغدى أو يتعشى في أيام عادية إلا بضيف، وهذا مما عرف عنه واشتهر.
هذا الرجل يحدثني صهره بعد موته -الذي هو الزوج- يقول: أهنتها وضربتها وأخرجتها من البيت -وكان رجلا عصبيا- يقول: ففوجئت وأنا جالس في محلي بعد صلاة الظهر في عز الظهيرة، إذا به قد هجم علي، وأنا أحترمه كثيرا، لكن طاش عقلي من شدة الغضب، قال: فدخل علي وقبل خشمي على عادته وعادة الجماعة -يقولون: هذه كبيرة عندنا- يقول: أنا المخطئ وأنا المسيء، فإذا به يقبل خشمي، ويقول لي: أسألك أن تعفو عن فلانة، يقول: والله ما تمالكت نفسي بالبكاء، شيء لا يمكن أن يتخيل! الرجل ينزل نفسه هذه المنزلة، وهذا الرجل له مكانة، ومن أعيان المدينة الذين لهم قوة ولهم مكانة كبيرة، ومع ذلك يأتي صهره هذا الذي هو بائع في دكان ضعيف الحال، لكنه كان بعيدا عنه: فإذا به يأتي في عز الظهيرة وليس بمجرد ما جاءت أخته تشتكي جاء يقول له: ماذا فعلت بها؟ أو أرسل له رجلا من أجل أن يتفاهم معه، أو اتصل به، بل جاء يغبر قدميه إكراما لأخته، وإكراما لوالديه؛ لأن الوالد إذا مات، فمن بر الوالدين أن تحفظ وترعى الأخت، وترعى فلذة كبده، ترعاها في شئونها وحالها، وتعلم أن هذا يصلح حالها ويصلح به، يقول: والله منذ تلك الحادثة لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجهه، ويقول: إذا حضرت معه في مناسبة خجلت خجلا عظيما، قتلني بسر الحياء.
قال: ما أظن أن يبدر هذا ذكاء منه أبدا، لكني أعرف أن هذا جاء من طيبته ومن سلامة صدره ومن حرصه على الرحم، فليس هو بمتكلف، فقتلني بهذا الموقف.
فأصبحت تستأسد علي في بعض الأحيان حتى لو كانت مخطئة يقول: في القديم ربما كنت أضربها، وضربتها أكثر من مرة وآذيتها، يقول: لكن تلك المرة لما كانت الأمور شديدة ضربتها بقوة فاشتكت، يقول: فمن بعدها ما رفعت يدي عليها، وأصبحت في هذا الموقف، ولا شك أن الإنسان الموفق موفق، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الخير وأن ييسره لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.