التحريم بلبن الموطوءة بعقد فاسد أو باطل
قال رحمه الله: [أو بعقد فاسد أو باطل] وهكذا إذا كان بعقد فاسد، مثل: أن تتزوج امرأة بدون ولي، فهذا النكاح -عند الجمهور- محكوم بفساده.
قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) .
والفاسد والباطل لا فرق بينهما عند الجمهور في المعاملات، فحكمنا ببطلان النكاح وفساده، فإن حصل من هذا النكاح لبن، فرضعه رضيع، فإن هذا الرضاع يثبت له ما يثبت من الوطء الصحيح في عقد نكاح صحيح.
قال رحمه الله: [أو زنا] وهكذا -والعياذ بالله- لو زنا رجل بامرأة، فحملت ثم ثاب اللبن من هذا الوطء المحرم، وشربه صبي، فإنه تثبت له أحكام الرضاعة، ولكن في الأم دون الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) فلم يجعل للزاني شيئا في الزنا، ومن هنا قال طائفة من أهل العلم -واختاره الجمهور-: إنه لا ينسب الرضيع للأب من الزنا.
كالحال في النسب، ولذلك ينسب الولد إلى أمه في الزنا، ولا ينسب إلى أبيه، كذلك في الرضاع ينسب إلى أمه ولا ينسب إلى أبيه الزاني.
قال رحمه الله: (محرم) .
أي: لا فرق أن يكون هذا اللبن ثاب بوطء في نكاح صحيح أو بنكاح فاسد، أو وطء شبهة، فكل ذلك الحكم فيه سواء؛ لأنه لبن فتق الأمعاء وأنشز العظم وأنبت اللحم، وأعطاه الشرع هذا الحكم لوجود هذه الخاصية. صور لرضاع غير محرم أو مختلف فيه
قال رحمه الله: [وعكسه البهيمة] .
فلو أن اثنين شربا لبن شاة ما نقول: هذه أمه من الرضاعة، ولو أنهم أخذوا علبة حليب وشربوا منها فلا يثبت بهذا ما يثبت للرضاع -شرعا- من آدمية، لكن لو جفف لبن امرأة وصار مثل المسحوق، وشربه صبي ثبت حكم الرضاعة، لكن بالنسبة للبهائم لا يثبت، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
أحد المعاصرين من طلبة العلم لما سئل عن اثنين ارتضعا من شاة قال: هما أخوان من الرضاعة -أعوذ بالله من القول على الله بدون علم- ومن هذه الفتاوى.
حتى أن أحدهم أراد أن يدرس الفقه فجاء إلى كتاب القصر، فقيل له: المغرب تقصر أو لا تقصر؟ قال: هناك قولان، فقيل له: كيف نصليها ركعة ونصف؟ أيسجد أو لا يسجد، أو يقدم السجود؟! - نسأل الله السلامة ونعوذ بالله من الزلل والزيغ.
قال رحمه الله: [وغير حبلى] .
(وغير حبلى) بعض العلماء يشترط أن يكون اللبن قد ثاب من وطء، فإذا حصل اللبن من وطء حكم به، أما إذا كان لم يثب من وطء -وهذا يقع في بعض الأحيان أن المرأة تدر اللبن قبل الزواج أي: درت هذا اللبن من غير وطء-؛ فبعض العلماء يرى أن لبن البكر لا يحرم، والصحيح: أنه يحرم؛ لأن الطفل يغتذي به، وبعضهم يبني المنع منه على أنه نادر، والحكم للغالب لا للنادر، يقول: كلبن الرجل، والرجل لا يوجد له لبن، لكن قد يقع في بعض الأحيان أن يرتضع من رجل كما يقولون، وهي مسألة أندر من النادر، يقولون: لا يثبت، وقد يقع في الخنثى المشكل إذا تبين أنه ذكر، ثم ثاب منه لبن بسبب الهرمونات والاختلال في جسمه، ففي هذه الحالة يقولون: إنه إذا كانت المرأة صغيرة وثاب لبن فيها من غير وطء، أو من غير حمل، فيحكم بأنه رضاع مؤثر وهو ابن لهذه المرأة، وهذا هو أصح القولين: أنه لا يشترط وجود الحمل، لكن المصنف بين أنه عكس الأصل.
قال رحمه الله: [ولا موطوءة] .
ومثال غير الموطوءة: البكر، فإذا ثاب من ثدييها اللبن من غير وطء، ومن غير حمل، وكذلك تكون ثيبا خلوا، ومن بعد ذلك ثاب منها اللبن؛ قالوا: إن هذا ليس باللبن المعتاد على الصفة المعتادة، فيحكمون بأنه لا تأثير له؛ لأنه خرج عن الأصل المعتاد.
الأسئلة
كيفية حساب الرضعات الخمس إن كان اللبن في إناء أو كان اللبن قد تحول جبنا
السؤال كيف تثبت الخمس رضعات ويحصل تمامها، إذا كان شربا من الإناء أو أكلا إذا تحول جبنا؟
الجواب فأما بالنسبة للإناء فذكر بعض العلماء أن الإبانة عن الفم كالإبانة عن الثدي، أي: أنه إذا أخذ الإناء ثم أبانه عن فمه فهذه رضعة كاملة، وبناء على ذلك تحتسب خمس مرات أن يأخذ الإناء ويبينه؛ ثم يأخذ الإناء ويبينه؛ لأنه لا يبينه إلا بعد حصول الارتواء من أجل النفس، وبعض أهل العلم يرى أن الحكم يختلف في الشرب من الإناء عن الرضاع، ويرى أن العبرة بالمجالس، فلا بد أن يتكرر ذلك في خمسة مجالس، وأن كل مجلس يعتبر رضعة؛ لأن فيه اشتباها، والحقيقة أن المذهب الذي يقول: إن المعتبر هو الإبانة من الفم فيه قوة، فالشرب من الإناء ثم إبعاده هذا يعد رضعة، فإذا استتم كان في حكم الخمس رضعات المعلومة.
عدم اشتراط الرضا في ثبوت الرضاع المحرم
السؤال هل من شروط الرضاعة أن يكون الأب موافقا؟
الجواب لا يشترط في الرضاعة أن يكون الأب موافقا، ولذلك الحكم مترتب على وجود الرضاع؛ لأنه إذا شرب هذا اللبن، نبت لحمه ونشز عظمه، رضي أو لم يرض، وهذا يسمونه الحكم بالأسباب، فقد جعل الشرع الحكم هنا مرتبا على وجود سبب وهو الرضاع، سواء أذن صاحبه أو لم يأذن.
ولذلك في بعض الأحيان لا الأم ترضى ولا الأب، كأن تكون نائمة وهجم عليها صبي والتقم ثديها وهي نائمة أو ظنته ولدها، في هذه الحالة لا يكون هناك رضا -لا من الأب ولا من الأم-؛ وفي بعض الأحيان قد تحمله ولا تشعر إلا وقد أخذ ثديها ورضع بدون خيارها، فلا يشترط الرضا في الرضاع والعبرة في هذا الحكم بالسبب وهو وجود الرضاع، سواء كان هناك رضا أم لم يكن، والله أعلم.
معنى قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) من قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)
السؤال أشكل علينا قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] ما معنى قوله: (إلا ما قد سلف) ؟
الجواب ( إلا) استثناء موجب للعطف المشرك للحكم، وهذا معروف في لسان العرب، ولذلك يكون قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} [النساء:22] أي: ولا ما قد سلف، لا تستديموهن ولا تبقوهن.
أي: ما كان من الوطء بنكاح منكوحة أبيه، ومن بقيت معه بعد نزول الآية فعليه أن يفارقها، ويكون معنى قوله: {إلا ما قد سلف} أي: لا تستبقوهن، وقالوا في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} [النساء:92] ، أي: ولا خطأ، وذلك بتعاطي الأسباب الموجبة للتساهل حتى يحصل القتل.
وهذه اللغة استشهد بها الإمام ابن قدامة رحمة الله في هذه المسألة وفي مسألة بيع الكلب المعلم للصيد، في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد؛ لأن العرب كانت مشهورة بالصيد، فخاطب البيئة التي نزل فيها القرآن بما ألفت، فقوله: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فإذا كان كلب الصيد -للحاجة- لا يجوز فمن باب أولى تحريمه لغير الحاجة؛ لأنه قد يظن شخص أن الإذن به للصيد يبيح ويحل بيعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا كلب صيد) أي: ولا كلب صيد، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلاب وشراؤها، ولو كان مأذونا باتخاذها، فالعطف هنا للمأذون، واستشهد الإمام ابن قدامة بقول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان أي: والفرقدان، فهذا عطف موجب للتشريك في الحكم، وما ذكرناه ذكره بعض أئمة التفسير في الآية الكريمة.
وقيل في معناها -على وجه-: أي: عفوت فيما وقع منكم فيما قد سلف، فاستأنفوا الحكم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أسلمت على ما أسلفت من خير) وكما قال الله تعالى: {عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة:95] ، فيكون من باب التنبيه على أن النفوس تتحرج، حتى إن العرب في الجاهلية كانوا إذا توفي الرجل وخاف الابن على زوجة أبيه يرمي ثوبا عليها حتى لا يتزوجها غيره، ومعنى ذلك: أنه يريد أن ينكحها، فهذا من عادات الجاهلية، فيرمي ثوبه عليها، فتعلم أنه يريد نكاحها، فإذا نكحها مقتته العرب، وكانوا يمقتون هذا مع أنهم كانوا يفعلونه، إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة مستبشعة، وكما قال تعالى: {إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} [النساء:22] ، أي: أن نكاح زوجة الأب ممقوت، حتى في أعرافهم الجاهلية.
وعلى كل حال: الآية تدل على أحد أمرين: إما عطف موجب للتشريك في الحكم، كما ذكرنا، فلا إشكال، فيكون ما يستفاد منها: أنه لا تبقوا النكاح الذي كان في الجاهلية، ويجب أن تفارقوهن، فالآية الكريمة جمعت بين تحريم نكاح زوجة الأب ابتداء واستدامة؛ فابتداء لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء:22] ، واستدامة لقوله تعالى: {إلا ما قد سلف} [النساء:22] أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.
وأما الاحتمال الثاني: {إلا ما قد سلف} المراد به: استأنفوا الحكم، فما كان مما قد سلف فإن الله قد عفا عنه؛ لأن الله لم ينزل فيه شرعا؛ ولذلك أعذر فيه سبحانه وتعالى، وأسقط المؤاخذة.
والله تعالى أعلم.
الفرق بين العبد المدبر وأم الولد في الإجزاء في كفارة الظهار
السؤال في كفارة الظهار في الرقبة، يجزئ إخراج المدبر ولا تجزئ أم الولد، فما الفرق بينهما مع أن كل منهما يعتق بموت السيد؟
الجواب أم الولد عتقها لا إشكال فيه، لكن المدبر فيه خلاف وذكرنا هذا في مسائل التدبير أنه من حق السيد المدبر أن يرجع عن عتق المدبر، وبناء على ذلك: صار المدبر أضعف حالا من أم الولد، ومن هنا يجوز التفريق، فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر، فلا يمكن أن يسوى بينهما؛ فالمدبر يمكن أن يرجع عن تدبيره؛ لأن المدبر هو أن يعلق عتق عبده على موته، فيقولون: عتق عن دبر، ودبر الشيء: آخره، فكأنه إذا أدبر ومات عتق عليه عبده، فقيل له: المدبر؛ أي: الذي يعتق بعد وفاة سيده، وفي بعض الأحيان يقول: إذا مت فاعتقوا عبدي فلان، ثم يرجع عن هذا التدبير، قالوا: لأنه مثل الهبة، والهبة لا تملك إلا بالقبض، ولا تثبت إلا بعد ثبوت حكمها من حيث القبض، وهنا ما حصل الموت، فمن حقه أن يرجع، وعلى هذا قالوا: إنه يجوز، وحملوا عليه عتق الرجل الذي أوصى أن يعتق عبيده، وكان عليه دين فرد النبي صلى الله عليه وسلم وصيته، وهذه وصية عن دبر، أي: أوصى بعتق عبيده بعد موته، فهو كالتدبير، وهذا أصل لمن يقول بجواز الرجوع عن التدبير.
وعلى كل حال: الفرق بين المدبر وأم الولد واضح، وبناء على ذلك لا يرد الاعتراض؛ لأن الحكم يكون مساويا إذا كانا في منزلة واحدة ودرجة واحدة من القوة.
والله تعالى أعلم.
الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)
السؤال كيف يمكن الجمع بين حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ، وحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) .
الجواب لا تعارض بين الحديثين، والحمد لله؛ كلاهما خرج من مشكاة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) ، على رواية الرفع، المراد به: أن الإنسان إذا ألم بمعصية ثم ستره الله بستره، وذهب وتكلم جهارا بما ألم به، فقد هتك ستر الله، وهذا يقع من بعض أهل الضلال، والفسوق والفجور، يفعلون المعاصي، ثم يأتي إلى صديقه ويقول: فعلت وفعلت وحدث وحصل، فيتفاخر ويتباهى.
فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- سلب الله منه العافية؛ لأن من العافية أن يصرف الله عن عبده الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإذا أذنب وألم بخطيئة وستر الله عليه؛ عوفي في علانيته.
أما إذا أصبح يهتك ستر الله، ويأتي يفاخر ويباهي بذنبه ويقول: فعلت وفعلت، فهذا عافاه الله علانية فلم يرض عافية الله؛ فجمع بين بلاء السر وبلاء الظاهر والعلانية.
أما بالنسبة لحديث: (إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) .
فدل الحديث الأول على أن من ستر فهو معافى، فكيف يجمع بينه وبين هذا الحديث فيمن فعل المعصية في الخلوة؟ الجواب: أنه في حديث ثوبان رضي الله عنه: (أعرف أقواما من أمتي يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، لئلا نكون منهم ونحن لا ندري، قال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، إلا أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أي: أن عندهم استهتارا واستخفافا بالله عز وجل، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين أحسن أيما إحسان؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، (لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فهم في السر لا يرجون لله وقارا، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر، وعنده الندم والحرقة ويتألم، فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل؛ لأنه -في الأصل- معظم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته فينكسر لها، أما الآخر فيتسم بالوقاحة والجرأة على الله؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة.
من الناس من إذا خلا بالمعصية خلا بها جريئا على الله، ومنهم من يخلو بالمعصية وهو تحت قهر الشهوة وسلطان الشهوة، ولو أنه أمعن النظر وتريث، ربما غلب إيمانه شهوته وحال بينه وبين المعصية، لكن الشهوة أعمته، والشهوة قد تعمي وتصم، فلا يسمع نصيحة ولا يرعوي، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان، قال تعالى: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} [آل عمران:155] ، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان، فزلت قدم العبد، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم، وأنه كاره لها، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها، فهذا معظم لله عز وجل، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية، وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عير أحدا أو أنه عق والدا أو قطع رحمه، فحجب الله عنه رحمته، أو آذى عالما أو وقع في أذية ولي من أولياء الله؛ فآذنه الله بحرب، فأصبح حاله حال المخذول، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى بهذا الشيء، فيخذل عند التعرض للمعاصي.
ومحاربة الله للعبد على صفات، منها -والعياذ بالله- أن يأكل الربا فيأذن بحرب من الله عز وجل، فيأتي إلى المعاصي فيسلب التوفيق، ويأتي إلى المظالم فتجده في بعض الأحيان يقع في ظلم أخيه فيستغرب كيف وقع هذا؟! لأن الله خذله، ويكون الخذلان لأسباب: إما أنه عير مبتلى فعاقبه الله، أو أصابه غرور بطاعته فعاقبه الله ووكل إلى حوله، وأشياء أخرى كثيرة، {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216] ، فهذه الأمور لا ينظر الإنسان فيها إلى شخص معين، وإنما ينظر إلى أحوال الناس، فمن الناس من يكون عنده حسنات في الظاهر كأمثال الجبال، ولذلك تجد بعضهم إذا وقف مع الناس فهو ذلك الرجل اللين اللسان، الطيب الجنان، فإذا غاب عنهم حقد عليهم وسبهم وشتمهم، وربما يجلس في مجالس الخير والذكر، وكأنه واحد من أصحابهم، فإذا غاب عنهم أخذ يغتابهم ويذمهم ويلومهم، ولا يعظم الله ولا يرعوي عن حرمات المسلمين، فعنده جرأة -والعياذ بالله- على معصية الله، ولكن إذا وقع العبد في معصية وهو في قرارة قلبه يكره أن يقع في هذا الشيء ولو أنه أعطي التوفيق من الله تعالى بتعاطي الأسباب لما ابتلي بهذا، وإذا وقع في الذنب صحبه الندم والألم، فهذا ممن رجا رحمة الله عز وجل، ومن هذا الذي رجا رحمة الله وخيبه الله؟ وكيف يكون العبد تائبا إلا من ذنب? فهناك مراتب وأحوال ينبغي مراعاتها، ومنها: أنه لا ينبغي أن نأتي ونضع منزلة المحسن للمسيء، ومنزلة المسيء -الذي هو بالغ الإساءة- للمحسن، والمسيء ظاهرا وباطنا ليس كمن يسيء ظاهرا لا باطنا، فإذا جئت تنظر إلى معصية السر، فالذي يعصي في السر على مراتب: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف، فبعض العصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه فيها أحد يذهب الزاجر عنه، ويمارسها بكل تهكم وبكل وقاحة، وبكل سخرية ويقول كلمات، ويفعل أفعالا، ولربما نصحه الناصح، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ودينه وشرعه، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى وصام، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقارا -والعياذ بالله- فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة أو يفتن بفتنة يراها ويحس أن فيها بلاء وشقاء، ويقدم عليها، وقلبه يتمعر من داخله ويتألم من قرارة قلبه، ثم إذا أصاب المعصية ندم، ولذلك الشيطان تجده يلبس على بعض الأخيار، فتجد بعض الأخيار -وهو نادر- مبتلى بالعادة السرية، فيأتيه الشيطان ويقول له: أنت ممن يصدق عليهم: (إذا خلو بمحارم الله انتهكوها) ، فأنت منافق.
أبدا، هذا ليس بصحيح، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يفعل هذه المعاصي في السر، وعليه أن يتقي الله عز وجل في السر، حتى يتبوأ الدرجات العلى في الأولى والآخرة، لكن {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت:46] .
فالله لا يظلم العباد، ولا ينزل عبدا جريئا على حدود الله ومحارمه منزلة عبد يخاف الله ويرجو رحمته، ولذلك جاء في الأثر أن الله يوقف العالم بين يديه، أو يوقف الرجل الصالح بين يديه، فيقول: (عبدي! فعلت وفعلت حتى إذا رأى أنه هالك لا محالة قال: عبدي! قد كنت ترجو رحمتي؛ قد غفرت لك) ، أي: مع كل هذه الذنوب ومع هذه الإساءة ترجو رحمتي، وقد علمت منك أنك كنت مشفقا على نفسك وتخاف الله عز وجل، فإني لا أخيبك، وهذا شأنه وهو الكريم سبحانه وتعالى، وهو الذي يبتدئ بالإحسان ويتفضل بالنعم، ولا يستحق أحد ذلك؛ لأنه كله فضل الله وكرمه، لا منتهى لكرمه ولا منتهى لجوده، والحمد لله على حلمه، والحمد لله على كرمه وجوده وإحسانه ورحمته، وسع العباد جودا ورحمة وإحسانا وبرا، فهذا الحديث ليس على إطلاقه، وإنما المراد به من كانت عنده الجرأة -والعياذ بالله- والاستخفاف بحدود الله، ونسأل الله بعزته وجلاله كما أنعم علينا بنعمة الإسلام وتوحيده والإخلاص لوجهه، والخوف منه سبحانه، أن لا يسلبنا هذه النعمة، وأن لا ينقصنا منها، اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا بطاعتك، ولا تهنا بمعصيتك، وأنت أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم. حكم أمر الرجل لزوجته بالإفطار في صيام القضاء
السؤال هل يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تفطر وهي صائمة قضاء ما أفطرته في رمضان؟
الجواب يجوز للرجل أن يأمر زوجته أن تؤخر قضاء رمضان؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بينت في حديثها في الصحيح، أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فدل على أن القضاء موسع، فإذا أرادت أن تصوم في محرم، فمن حقه أن يقول: أخري الصيام إلى شعبان، لكن إذا صامت ودخلت في الصوم، فليس من حقه أن يأمرها بالفطر؛ لأنها إذا صامت فإنها مأمورة بالإتمام وتلزم بإتمام الصوم، ولا يجوز له أن يأمرها بالفطر؛ فالقضاء يحكي الأداء ويأخذ حكمه، فلا سبيل له لمنعها، والدليل على أنها لا تفطر في الفريضة قوله عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه) فدل على أن المفترض ليس أميرا لنفسه، وبناء على ذلك: لا تفطر لأمر الزوج إذا كانت في صيام الفريضة، أو صوم قضاء إذا دخلت فيه، أما أن يؤخرها ويقال لها: أخري القضاء، فذلك له، لأن القضاء موسع، والله تعالى أعلم.
حكم من أفطر قبل المغرب يظن أن الشمس قد غربت
السؤال ما حكم من أفطر في رمضان قبل المغرب يظن أن الشمس غربت؟
الجواب من أفطر قبل الغروب ظنا منه أن الشمس قد غربت سقط عنه الإثم ولزمه القضاء، لأن الشرع ألزمه بصوم يومه كاملا، فإذا أفطر شيئا من اليوم، فإنه يعذر لمكان الخطأ، ويلزم بالإتمام والقضاء، وقياس الخطأ على الأكل والشرب نسيانا قياس على الخاص، لأن ما جاء على خلاف الأصل فغيره عليه لا يقاس، والشرع استثنى الناسي، والنسيان سهو وغفلة من الشخص، وأما المخطئ فلديه نوع من التقصير؛ لأنه لو بذل الأسباب وتحرى لانكشف له الأمر جليا، وعليه: يفرق بين المخطئ والناسي من هذا الوجه؛ لأن العذر في الناسي أقوى منه في المخطئ، فالمخطئ لو تحرى وبذل أسباب التحري لأمكن عدم الوقوع في الخطأ، ومثال آخر للخطأ: رجل استيقظ من الليل وظن أنه لم يؤذن للفجر بعد، ثم أكل وشرب، وتبين أنه أكل وشرب بعد الفجر، فهذا لو تحرى وبذل الأسباب لانكشف له الأمر جليا، ولكن الناسي قد ذهل وزال عن عقله ذلك الشعور وليس عنده أي سبب يمكن أن يتعاطاه تلافيا للقصور والإخلال بحق الله عز وجل، ومن هنا فرق جمهور العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة وقالوا: إنه يلزمه القضاء، وقال عروة رحمه الله كما في صحيح البخاري حينما قيل لهم: هل صليتم ذلك اليوم؟ قالوا: وهل في القضاء شك، فالأصل يقتضي أنهم يصومون اليوم كاملا، وإذا حصل الخطأ، فإنه يسقط عنهم الإثم لقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} [الأحزاب:5] .
فأسقط الله الإثم، ولكن يلزمه ضمان، وكذلك في حقوق العباد، كما لو قتل خطأ أسقطنا عنه الإثم، لكن أوجبنا عليه الضمان، وهنا نسقط عنه في حق الله الإثم ونوجب عليه ضمان الصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فحق الله أحق وأولى، والله تعالى أعلم. حكم صلاة ركعتي العشاء وراء صلاة التراويح
السؤال هل يجوز أن أنوي في الركعتين الأوليين من صلاة التراويح أنها سنة العشاء؟
الجواب نعم؛ يجوز ذلك، إذا نوى بها سنة العشاء فإنه يتحقق مقصود الشرع، وحينئذ تجزئه عن راتبة العشاء، وإذا أخر راتبة العشاء إلى ما بعد وتره مع الإمام فلا بأس ولا حرج، ولكن الأفضل أن يصلي الراتبة بعد صلاة العشاء، ثم يقوم ويصلي القيام كاملا تاما مع الإمام، ويوتر معه، والله تعالى أعلم.
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)
السؤال ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك) وكيف يكون ذلك؟
الجواب هذا الحديث حديث عظيم، وتفسير هذه الجملة يحتاج إلى مجالس، ولكن جماعها كله في تقوى الله عز وجل، فليس هناك حافظ حفظ حدود الله عز وجل ومحارمه مثل المتقين، أما إذا أراد الله عز وجل أن يتم النعمة على الحافظين وأن يعلي لهم الدرجة، وأن يعظم لهم الأجر والمثوبة، فإنه ينقلهم إلى درجات الإحسان، فأعظم ما يكون الحفظ أن لا يرى الله عبده حيث نهاه، وأن لا يفقده حيث يحب أن يراه؛ لأن الحفظ استخدم في الشريعة في الأوامر وفي النواهي، {والحافظون لحدود الله} [التوبة:112] ، هذا بالنسبة للنواهي، {والذين هم على صلاتهم يحافظون} [المعارج:34] ، فحفظ أوامر الله عز وجل أن تأتي بها على أتم الوجوه وأكملها، ولا ترضى لنفسك أبدا أن تكون في الدون، مثلا: الصلاة؛ فبدل أن يأتي الإنسان أثناء الصلاة، يأتي على أتم الوجوه وأكملها قبل الأذان، وبدل أن يصلي في الصف الثاني فحفظه على أتم الوجوه وأكملها إذا كان في الصف الأول، وإذا صلى الصلاة بدل أن يخشع في ثلثها أو ربعها أو نصفها، خشع فيها كاملة.
وبدل أن تبكي عينه عند سماع الآيات، بكى عند تسبيح الله أيضا.
فإذا أراد الله أن يزيده من فضله، بكى حتى في سجوده وهو يدعو، فإذا أراد الله أن يزيده رزقه خشوع القلب والصلاة على أتم الوجوه وأكملها، حتى إنه منذ أن يكبر إلى أن يسلم وهو في ذكر لله عز وجل، وحضور القلب على أتم ما يكون ذكره، وهذه من مراتب الإحسان العلى، فتجده يكبر التكبيرة وهو يستشعر معنى قول: (الله أكبر) ، إما لكونه مظلوما مضطهدا، أو يكون غنيا قويا، يظن أن (الله أكبر) من كل شيء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو مظلوم تبددت جميع هموم الأرض وزالت، لأنه يعلم أن الله أكبر من كل شيء، لأن الذي يشوش في الصلاة هموم الإنسان وغمومه، إما سراء أو ضراء، فإذا قال: (الله أكبر) وهو في سراء علم كيف أن الله أغناه وهو فقير، وأعزه وهو ذليل، وأكرمه وهو مهين، ورفعه وهو وضيع، فيقول: (الله أكبر) من قرارة قلبه ومن صميم فؤاده، يعرف ما معنى هذه الكلمة، ولذا يقولها بصدق ويقين وإخلاص وحضور قلب، فإذا قال دعاء الاستفتاح، كل كلمة يستشعر معناها، فإن أراد أن يسبح ويثني على الله عز وجل، عرف كيف يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) وكذلك أيضا: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ، تذكر أنه مذنب وأنه فار إلى الله عز وجل، كذلك أيضا: إذا قرأ القرآن تدبر كل كلمة وكل حرف من كتاب الله عز وجل، ولا يزال في هذه النعمة حتى إن العبد يستفتح بكتاب الله عز وجل، ويتمنى أنه ما انتهى من التلاوة، وهذه المراتب يتفضل الله بها على عباده، فمستقل ومستكثر، ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين في قيام الليل، عندما يقوم الليل يبتدئ القيام وهو يريد أن يقرأ الجزء فإذا به يمضي إلى الجزئين والثلاثة إلى الأربعة، ووالله! ربما ختم العشرة -ثلث القرآن- ولربما وصل إلى نصف القرآن وهو لا يزال في الركعة الواحدة، ما وسعه الوقت لكتاب الله عز وجل، من لذة ما هو فيه، لكن سبحان من يتفضل على عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فهذا الشعور مرتبة عالية في الحفظ، حفظ حدود الله عز وجل، وإذا أراد أن يصلي وأراد أن يكون من الحافظين تخيل أنها آخر صلاة من عمره، وأحيانا ينتقل -متفكرا- إلى الآخرة فيتخيل أن الله سيحاسبه على كل كلمة وعلى كل حرف، وهو يعرف أين يقف؟ ومن يناجي؟ ومن يسأل؟ فإذا تليت عليه آيات الله وكان مأموما تدبر كل كلمة وكل حرف، لا يؤثر عليه الإمام ولا يؤثر عليه القارئ، وتراه غير محصور في القراءة والقراء، ولا بمسجد دون مسجد، أبدا؛ لأنه مع الله، حافظ لحدود الله، أينما كان، وحيثما كان، هذا بالنسبة للحقوق والواجبات في حق الله، وفي الحقوق والواجبات التي أمر الله فيما بيننا، فتجده في حق إخوانه المسلمين صالحين أو غيرهم، يحفظ حق المسلم على أتم الوجوه وأكملها، فهو يعلم أن الله عز وجل أمره أن يعطي لأخيه حقا فيعطيه على أتم الوجوه وأكملها دون منة، ويعلم أن هذا أخ له في الإسلام، فإذا لقيه لقيه بقلب صاف من الغل والحقد والشحناء والاحتقار، ولا يمكن أن يدخل في قرارة قلبه احتقارا لمسلم للونه، ولا لمنصبه ولا لجاهه أبدا؛ لأن الله أمره أن يحفظ هذا القلب، لئلا يدخل فيه شيء من عمل الشيطان أو كيده، فالجاهلية لا تجد منفذا إلى قلبه، هذا بالنسبة لما يكنه لأخيه المسلم في باطنه، وأما في ظاهره فالكلام الطيب والألفة، فتجده حينما ينعم الله عليه ويكون من الحافظين فلا تجده يعامل صغيرا أو كبيرا إلا وخرج من عنده وهو يشكره على ما يكون منه من حسن عمل، ولن تستطيع أن ترى أحدا يحفظ حدود الله في حقوق إخوانه المسلمين إلا مع الضعفاء.
أما الأقوياء فلسنا بصددهم- إذا أرادت أن تزن الرجل حقيقة فانظر إليه مع الغلمان وانظر إليه مع الخدم، وانظر إليه مع من هم تحته، ممن جعل الله عز وجل فضله عليهم، فمثلا: إذا كان عنده خادم، أو كانت المرأة عندها خادمة، فتجدها تتقي الله في هذه الخادمة، وتعطيها راتبها في وقته، ولا تؤخر راتبها ولا يمكن أبدا أن يحصل لهذه الخادمة مشكلة أو تضطر إلى معونة أو مساعدة إلا ساعدتها، حتى إن بعض الأخيار والصالحين -كما كان يذكر لنا بعض مشايخنا- يقول: والله! إنه ليأتيني الرجل الضعيف من ضعفاء المسلمين فيجعل الشيطان بيني وبينه من الحواجز والحوائل العديدة التي لا يعلمها إلا الله، كيف تعطي هذا وليس من جماعتك؟ ولا من قرابتك، ومع ذلك يكذب ويغش؟! فيأتيه الشيطان من كل حدب وصوب، قال: أتجاهل كل هذا وأتصور ما لو جاءني أعز وأقوى وأحب شخص، ماذا أفعل معه؟! فأرفع هذا الوضيع الضعيف، وأضعه منزلة ذلك الشخص المحبوب لدي، فأجلس أنصت إليه كأني أنصت لمن له علي حق، أو أخاف منه أو أرجو منه نعمة، فإذا بالأمور تختلف تماما، وعندها يشتري رحمة الله بتجاوزه وإرغام نفسه فيما يحبه الله، وصدق الله عز وجل في قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} [البقرة:207] ، يشري نفسه أي: يبيع نفسه، فهذا الذي حفظ حق الله عز وجل في عباده المؤمنين لا يمكن أن يكون إلا في مثل هذه المواقف، ولا شك أنه يتبع ذلك حقوق؛ فلا يرضى بغيبة ولا يرضى بنميمة، ولا يرضى بسب مسلم ولا بشتمه، ولا بأخذ حقه، وأما بالنسبة لمراعاة وحفظ حقوق الله في المحارم، فإنه يكون أعف الناس لسانا وأتقاهم جنانا، وأصونهم جوارح وأركانا، لا يمكن أبدا أن يقع في حرمة من حرمات الله، كلما أراد أن يتكلم تذكر أن الله سائله عن هذا الكلام، وكلما أراد أن يعمل شيئا تذكر أن الله سيسأله عن هذا العمل، ومن الأمور التي تساعد على ذلك: أن يتصور الإنسان دائما أنه في هذه اللحظة في لحده وقبره، ما الذي يتمناه؟ فإذا أردت أن تقدم على أي عمل، وأردت مرتبة الإحسان، فلتتصور رحمك الله أنك الآن ممدد في قبرك، فكيف تحتاج في قبرك إلى الحسد؟! حتى إن هذا الشعور إذا صحبك تتواضع للناس وتألف الناس، وتوطئ لهم الكنف، وتبذل لهم كل ما تستطيع، فإذا أراد الله أن يتم النعمة على العبد رزقه الإحسان في العمل وأتمها عليه بالإخلاص، فأصبح لا يتحدث ولا يتكلم بهذه النعمة ولا يباهي بها، بل يتمنى أنها سر بينه وبين الله، فإذا أراد الله عز وجل أن يزيده من فضله أخذه الشعور الذي يشعر معه أنه إذا أحسن إلى الناس أن الناس هم أصحاب الفضل عليه وليس هو صاحب الفضل عليهم، ولذلك تجد من الناس من يعطي ويحسن ولكن تذهب حسناته بالمن، ومنهم من يعطي ويحسن ومع ذلك يحس أن الذي جاءه بمسألته هو صاحب الفضل عليه، قال ابن عباس رضي الله عنه: (ثلاثة أرى أن لهم حقا علي: رجل نزلت به نازلة فجاءني من بين الناس) .
انظروا كيف هذا الكرم.
وكان ابن عباس من أكرم الناس، وليس بغريب على هذا العبد الصالح الذي تربى على يدي النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: (إذا جاءني الرجل في حاجة عددته صاحب الفضل) .
وهكذا الخطيب إذا خطب وأنصت له الناس، عد أن الناس هم أصحاب الفضل، وكذلك العالم إذا درس وأفتى وعلم ووجه.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الحافظين لحدوده وأن يحفظنا بخيره، وأن يتم علينا نعمته، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة السعداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.