عرض مشاركة واحدة
  #618  
قديم 17-10-2025, 11:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,805
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب اللعان)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (467)

صـــــ(1) إلى صــ(29)



شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [1]
لقد شرع الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تعتد بعد طلاقها أو وفاة زوجها لحكم عظيمة وجليلة منها الحفاظ على الأنساب، وكذلك إعطاء الفرصة للزوجين إذا كان يريدان الرجعة في حال الطلاق الرجعي، وكذلك حفظ العهد والود الذي بين الزوجين.
مشروعية العدة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب العدد] .
(العد) في لغة العرب: الحساب والإحصاء، فإذا أحصى الشيء، قالوا: عده.
ولما كان هذا النوع مما أوجب الله عز وجل فيه الحساب والاعتداد سمي بهذا الاسم؛ لأن المرأة تعد أيام عدتها، وكذلك تحسب وتحصي أيام أقرائها، وهذا الباب المراد به في اصطلاح العلماء: تربص المرأة في أجل مخصوص لانقضاء آثار النكاح.
فالعدة تقوم على تربص المرأة الأجل المسمى الذي بينه الله عز وجل في كتابه، وثبتت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم لانقضاء آثار النكاح.
وهذا الباب في الحقيقة مترتب على كتاب الطلاق؛ لأن الأصل في العدة أنها تترتب على الطلاق، إلا أنها قد تكون في الفرقة من خلع أو فسخ، وكذلك تقع في الوطء إذا كان وطء شبهة، وتقع في الوطء الحرام على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى، ونظرا لتعلقها بالأبواب المتقدمة من الطلاق والخلع واللعان، ناسب أن يذكرها المصنف -رحمه الله- بعد بيانه لتلك الأبواب.
والأصل في لزوم العدة ووجوبها: كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، فبين سبحانه وتعالى شرعية العدة، وأنها تكون للمطلقة ثلاثة قروء، وكذلك بين سبحانه العدة وشرعيتها بطريق المفهوم في الخطاب في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، فبين سبحانه وتعالى أنه إذا وقع الطلاق قبل الدخول فليس هناك عدة تحتسب، ومفهوم ذلك: أنه إذا وقع الطلاق بعد الدخول فإنه تجب العدة وتثبت.
وقال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] ، فبين سبحانه وتعالى عدة الآيسة من المحيض، وهي: المرأة الكبيرة، وبين عدة الصغيرة التي لم تحض، وبين عدة الحامل، وهذا يدل على مشروعية العدة.
كذلك أيضا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدة، حيث أمر بها فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وأرضاها حينما طلقها زوجها، فقال لها: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم) ، فهذا يدل على شرعية العدة.
وكذلك أيضا ثبتت النصوص في الكتاب والسنة بعدة الوفاة، فأمر الله عز وجل المرأة التي توفي عنها زوجها بالعدة والحداد؛ فقال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة:234] ، فأمر الله بعدة الوفاة وهي الحداد، وكذلك أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) كذلك -أيضا- قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تبقى مدة الحداد وهي عدة الوفاة.
فمن مجموع هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجمع العلماء سلفا وخلفا على مشروعية العدة، وهذه العدة تتنوع وتختلف لكن الأصل العام أنها مشروعة.
الحكمة من مشروعية العدة
وفي شرعية الله سبحانه وتعالى لهذه العدة حكم عظيمة، والله لا يأمر إلا بكل خير ولا ينهى إلا عما فيه شر، والله يعلم ونحن لا نعلم، وله الحكم البالغة سبحانه وتعالى، وتمت كلمته صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
حفظ الأنساب
فمن الحكم: أن العدة تحفظ الأنساب، وعن طريقها لا يختلط ماء الأزواج في الأرحام، وقد فضل الله عز وجل بني آدم وأهل التكليف بالتشريع بأن لا يساووا البهائم، فالمرأة إذا طلقت بقيت مدة العدة تستبرئ لرحمها، وتتبين من الحمل، فإن وجد الحمل بقيت حتى تضعه، وإن كانت غير حامل فحينئذ لا إشكال.
فالمقصود: أنه عن طريق العدة تحفظ أنساب الناس فلا يختلط الماء.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره) فلو لم تكن هناك العدة لوطئ الرجل المرأة، وربما علقت منه فحملت وكان في بداية الحمل لا يتبين حملها، ثم طلقها فوطئها الثاني فاختلط ماء الأول بالثاني، وفي هذا من الشر العظيم والبلاء الكبير ما الله به عليم.
وفاء الزوجة لزوجها
وكذلك أيضا فالعدة: وفاء من الزوجة لزوجها، فإن المرأة إذا توفي عنها زوجها واعتدت في بيت الزوجية تذكرت فضل زوجها، ولذلك تعتد في نفس البيت الذي جاءها فيه الخبر، فتتذكر ما بينها وبينه، فتترحم عليه، وإن عرفت منه خطيئة أو زلة سامحته واستغفرت له، واسترحمت له، وفي هذا من الخير ما الله به عليم.
العدة تعين على مراجعة الزوج لزوجته
كذلك في هذه العدة حكمة عظيمة من جهة الطلاق: فإنها تعين على مراجعة كل من الزوجين نفسه، فإن المرأة إذا طلقت واعتدت فإنها تعتد في بيت الزوجية في الطلقة الأولى، وفي هذه الحالة في الطلاق الرجعي تبقى في بيت الزوجية، فيراها الزوج وتراه في البيت الذي بينهما فيه من الذكريات ما يحرك قلبه ويحرك قلبها، فربما كان هناك أمل بين الزوجين أن يرجعا لبعضهما، وأن يصلحا ذات بينهما، لم يدخل الغريب فيفسد ما بين الزوجين، ولذلك كثير من المشكلات الزوجية تتفاقم وتتعاظم حينما يدخل الغريب بين الزوجين، فأمرت المرأة المعتدة بالعدة والبقاء أثناء العدة في بيت الزوجية، قال تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} [الطلاق:1] ، فقال: (بيوتهن) ونسب البيوت إلى الزوجة، وكأنه بمثابة تأكيد على أنه لا يحل إخراجها، وكأنها مالكة لهذا البيت، ومن كان مالكا لبيته لا يخرج منه، ولذلك كثيرا ما كان أيام السلف ومن مضى ممن كان يطبق هذه السنة، قل أن تجد رجلا يطلق زوجته الطلقة الأولى إلا ويرجع إليها ويصلح ما بينه وبينها؛ لأن أباها وأخاها لا يخرجانها ولا يتدخل أحد بينهما تنفيذا لشرع الله، والتزاما بدين الله، ولما غير الناس هذه السنة فاتت هذه الحكمة العظيمة، وأصبح الأمر أشد خطرا وأعظم ضررا، حتى إن المسألة تكون من أيسر ما تكون، فإذا طلقها زوجها وخرجت من بيت الزوجية اشتعلت نار الفتنة، حتى إن المرأة تحن وتئن وتتألم وتتوسل وتتضرع بالكلمات المؤلمة الجارحة للقلوب، لكي ترجع إلى زوجها، فلا تجد أذنا صاغية، وبعض الزوجات يرغبن في الرجوع إلى أزواجهن، ولكن يقف أبوها أو أخوها أو أمها ويتبرأ منها إن خرجت أو رجعت، فيقع الوالد في المنكر العظيم في إفساد الزوجة على زوجها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) والسبب في ذلك قائم على الإعراض عن شرع الله عز وجل، والهجران لهذه السنة التي فيها هذه الحكمة العظيمة وهي: بقاء المرأة مدة العدة في بيت الزوجية، فمن الحكم المستفادة من العدة: أن الله سبحانه وتعالى يجعل كلا من الزوجين في فسحة محدودة لكي يراجع نفسه، فإذا أرادت المرأة أن ترجع وهي المخطئة، فإن الزوج يتأخر ويصر قليلا حتى تتأدب، وإذا أراد الرجل أن يرجع وهو المخطئ فإن المرأة تتأخر بعض الشيء، فيؤدب كل منهما الآخر، ومن هنا قال الله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق:1] لكن متى؟ إذا طبقت السنة، والتزم بشرع الله عز وجل.
وبالمناسبة: ينبغي على الخطباء وطلاب العلم والأئمة أن ينبهوا الناس على هذه السنة التي أضاعها كثير إلا من رحم الله، وهي: العدة أو الاعتداد في بيت الزوجية بعد الطلاق؛ لأن الله عز وجل نهى عن إخراج النساء من بيوتهن، وقال: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1] .
التعبد لله عز وجل
كذلك أيضا: في العدة تعبد وتقرب لله عز وجل.
زيادة ثواب المرأة
ومن حكمها: أنها تزيد ثواب المرأة وأجرها، وهذا مما جعله الله للنساء خاصة، فالمرأة تعتد في بيت الزوجية أربعة أشهر وعشرا، وتعتد عدة الطلاق ثلاثة قروء في بيت الزوجية وهي تتقرب إلى الله عز وجل، وترجو ثوابه وتمتثل أمره سبحانه، فيزاد أجرها، وترفع درجتها، وفي هذا تحصيل لمصلحة الآخرة وصلاح أمر الدين بامتثال أمر الله عز وجل ودينه شرعه.
أنواع العدد
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب العدد] .
جمعها -رحمه الله- لاختلاف أنواعها، فهناك عدة الطلاق، وقد تكون عدة الطلاق من طلاق رجعي أو طلاق بائن، وكذلك أيضا هناك عدة الوفاة، وعدة القروء، وعدة الأشهر، وعدة وضع الحمل، فنظرا لهذا التعدد جمعها رحمه الله.
كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعدد الزوجات.
شروط لزوم العدة
قال رحمه الله تعالى: [تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجا خلا بها] .
(تلزم العدة).
أي: تجب.
والشيء اللازم هو الواجب على الإنسان، وكأنه التصق به فلم ينفك عنه، فلا يبرأ إلا بفعله والقيام به.
(تلزم العدة كل امرأة) الأصل في لزومها قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة:228] وهذا خبر بمعنى الإنشاء: أي: عليهن أن يتربصن هذه المدة التي هي مدة العدة.
كذلك مما يدل على لزوم العدة: قوله عليه الصلاة والسلام: (امكثي) هذا أمر، وقوله عليه الصلاة والسلام لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي) وهذا أمر، والقاعدة: (أن الأمر يقتضي الوجوب حتى يصرفه صارف) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العدة واجبة ولازمة في حق الزوجة من حيث الأصل.
اشتراط المفارقة الزوجية للزوم العدة
قوله: (فارقت زوجا) العدة لا تكون إلا من فراق، وأصل الفراق: البين والانقطاع عن الشيء، يقال: فارق المكان إذا ابتعد عنه وبان منه، والفراق يكون إما بطلاق وإما بخلع أو بالفسخ سواء كان بعيب أو بلعان كما تقدم معنا في أحوال فسخ عقد النكاح.
(تلزم العدة): أي: تجب.
(على كل امرأة فارقها زوجها).
أي: بان منها زوجها، ويوصف الطلاق بكونه فراقا -وقد تقدم معنا- لأنه رفع لقيد النكاح، قال تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [النساء:130] ، وقال: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق:2] ، فالطلاق فراق، وكل امرأة فارقها زوجها تلزمها العدة؛ لأنها مرتبة على الزوجية وأثر من آثار إنحلال هذا العقد.
(تلزم العدة) (ال) في العدة: للمعهود شرعا (كل) من ألفاظ العموم.
(فارقت زوجا) أو فارقها زوجها، والفرقة مثل ما ذكرنا: بطلاق أو فسخ أو بوفاة.
(فارقت زوجا) من حيث الأصل لابد أن يكون الزواج صحيحا، وعقدا شرعيا صحيحا، وقد تلزم العدة إذا كان النكاح فيه شبهة، كشخص نكح نكاحا يظنه صحيحا فبان فاسدا، وكذلك إذا كان النكاح فاسدا فيه تأويل، كأن يكون فيه خلاف بين العلماء وعمل بأحد القولين وكان قولا مرجوحا، وكذلك تلزم العدة في الوطء المحرم الذي هو وطء الزنا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والمصنف -رحمه الله- ينبه على العدة من حيث الأصل، وبناء على ذلك فهناك ارتباط بين العدة والزوجية؛ لأن الأصل في العدة ألا تكون إلا على الزوجية، ومن هنا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] إذا: العدة تثبت وتنفى -في الأصل- بعد قيام عقد الزوجية لأنها مترتبة عليه، ولذلك يعتبرها العلماء من الأمور المبنية على النكاح.
اشتراط الخلوة بين الزوجين لثبوت العدة
قال المصنف رحمه الله: [خلا بها مطاوعة] .
(خلا بها) لما قال: (خلا) معناه: أن الذي عقد على زوجته ولم يخل بها فلا عدة له عليها؛ لأن الله قال في آية الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} [الأحزاب:49] ، يعني: عقدتم على المؤمنات: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] ، ومن هنا أخذ العلماء أن من الحكم المستفادة من شرعية العدة: براءة الرحم، فهنا أسقط الله عز وجل العدة لأنه لم يحصل بين الزوجين مسيس أو خلوة على خلاف بين العلماء، وبعض العلماء يقول: من خلا بامرأة ومكن من وطئها -بحيث كان بإمكانه أن يطأها بالشروط التي سيذكرها المصنف- ثم طلقها ولم يطأها، فالخلوة على هذا الوجه تمكين، والتمكين ينزل منزلة الفعل؛ لأن من مكن من فعل الشيء كأنه فعله، ولذلك يلزم بعاقبته، وتترتب على هذه الخلوة: العدة، كما لو أن أجيرا استأجرته ليعمل عندك يوما، فجاء وجلس عندك مستجيبا بحيث لو أمرته بأي أمر ينفذه، فلم تأمره بشيء حتى مضى اليوم، وهو مكنك من نفسه فثبت له الحق، فهذا التمكين ينزل منزلة الفعل للشيء، ومن هنا لما مكنت المرأة نفسها لزوجها أن يطأها وكل الأمور ميسرة له وبإمكانه أن يطأ ولا تحول بينه وبين ذلك لا هي ولا أهلها فإنه ينزل منزلة من أصاب ومن فعل، فتثبت العدة، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، وقال الشافعية والمالكية والظاهرية رحمة الله على الجميع: لا يمكن أن يحكم بالعدة إلا إذا وقع جماع، أي: لا يكفي التمكين، بل لا بد من وقوع الجماع، واستدلوا عليه بظاهر قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن} [الأحزاب:49] ، وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل أسقط العدة إذا لم يحصل بينهما مسيس، والمسيس: المراد به الجماع، فدل على أن الخلوة لا تأخذ حكم الجماع؛ لأنه لم يقع مسيس، فصار كل من اختلى بامرأة وأمكنه وطؤها ولم يطأها داخلا في هذه الآية الكريمة، فلا عدة على زوجته، وفي الحقيقة من حيث الدليل أن مذهبهم أرجح؛ لأن ظاهر الآية قوي: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب:49] ، وقع الطلاق: {من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] ما قال: من قبل أن تدخلوا عليهن.
ولذلك الدخول شيء والمقصود من الدخول شيء آخر، فالمذهب الذي يقول باشتراط الإصابة قوي جدا من حيث الدليل، ولذلك رجحه غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم، فلا يكفي مجرد أن يخلو بها، بل لا بد من أن يحصل المسيس بينهما، والمسيس يكنى به عن الجماع.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله يكني) .
اشتراط المطاوعة في الخلوة بين الزوجين للزوم العدة
[مطاوعة] .
إذا قالوا: إن الخلوة تنزل منزلة المسيس فلا بد أن ينبهوا على أمور تكون بسببها الخلوة مؤثرة، فلو خلا بها إكراها دون مطاوعة منها، فعندهم لا يثبت لهذه الخلوة الحكم الشرعي، ولا يترتب عليها لزوم العدة.

اشتراط علم الزوج بالمرأة أثناء الخلوة بين الزوجين للزوم العدة
قال رحمه الله: [مع علمه بها] .
هذا شرط ثان.
إذا: تكون مطاوعة غير مكرهة، فإذا أكرهها وأدخلها بالقوة وخلا بها على وجه يمكنه أن يطأها ثم لم يطأها وكان بالقوة -قالوا:- لا يأخذ حكما؛ لأن الإكراه يسقط به الحكم، وتسقط هذه الخلوة ولا تأثير لها.
والشرط الثاني: علمه بها، فقد يختلي الزوج بالزوجة وهو لا يعلم أنها معه فلا يكفي ذلك في إيجاب العدة، مثل: أن يكون كفيف البصر وتدخل عليه زوجته في مكان يمكنه أن يجامعها ويصيبها، قالوا: فإذا لم يخبر بأنها زوجته ولم يعلم بها فإن الخلوة حينئذ لا تنفع ولا تثبت بها العدة.
اشتراط قدرة الزوج على الوطء للزوم العدة
قال رحمه الله: [وقدرته على وطئها] .
وقدرة الزوج على وطء زوجته، فلو كان غير قادر على وطئها، كأن يكون -مثلا- بحالة لا يمكنه أن يطأها كالنائم أو مثل ما ذكر بعضهم: السكران.
وكان بعض مشايخنا يقول: هذا لا يمكنه؛ لأنه يحتاج إلى شيء من التهيؤ والقصد، وإن كان بعضهم يجعل مسألة السكران في حكم الشرط السابق، وهو: علمه بها؛ لأن السكران لا يعلم، والله يقول: {حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] .
قال رحمه الله: [ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حسا أو شرعا] .
(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو كانت هذه الخلوة مع وجود ما يمنع في أحدهما أو فيهما، والمانع إما أن يكون حسيا أو أن يكون شرعيا، فالمانع الحسي: مثل أن يكون مجبوبا، وقد تقدمت معنا العيوب ومنها: الجب، وهو: قطع الذكر، وهو إما أن يكون جبا كاملا كقطع الذكر بكامله مع الخصيتين، فهذا لا يرتبون عليه العدة؛ لأنه إذا كان جبا كاملا بأن قطع الذكر مع الخصيتين فلا يتأتى منه حمل؛ لأنه لا يتأتى منه جماع، ولو كان الجب ببعض الذكر بحيث يمكنه أن يطأ بما بقي أو ببعضه على وجه يمكنه أن ينزل -لأن الخصيتين باقية- فيمكن أن يحصل الحمل، فلو جامعها مع كونه مجبوبا فربما أنزل المني فحملت من هذا المني فتحتاج إلى العدة للاستبراء، ومن هنا فرقوا بين الجب الكامل والجب غير الكامل.
أي: أن يكون مقطوع الذكر ومقطوع الخصيتين أو لا يكون مقطوع الخصيتين، فهذا المانع الحسي في الرجل، والمانع الحسي في المرأة: كأن تكون رتقاء، وقد بينا عيوب النكاح التي تكون في النساء وفصلنا فيها، كأن يوجد فيها عيب يمنع من وطئها، كأن تكون ضيقة الفرج وهذا عيب يمنع من وطئها؛ فإنه حينئذ لا يحكم بثبوت العدة.
فهذا هو المانع الحسي الذي لا تثبت به العدة سواء كان العيب في الرجل أو في المرأة أو فيهما معا، كأن يكون مجبوبا أو كانت رتقاء.
كذلك لو كان المانع الذي يمنع من الوطء شرعيا كالحيض، والنفاس، والاعتكاف، والإحرام.
كرجل اختلى بامرأة حائض ثم طلقها، فلا يمنع من ثبوت العدة في حقها، فهذا مانع شرعي لكن تثبت العدة مع وجود هذا المانع الشرعي، ومن الموانع الشرعية: أن يكون محرما وتكون هي محرمه أو أحدهما محرما فخلا بها فلا يمنع من ثبوت العدة، فإنه لو خلا بها وثمة مانع شرعي في أحدهما أو فيهما معا فلا يمنع من ثبوت العدة؛ لأنه ربما -والعياذ بالله- انتهك حدود الله ووطئها، وهذا فيه حفظ للحقوق؛ لأن المرأة لو لم تثبت لها العدة على هذا الوجه، فربما حملت وكتمت حملها، وربما توفي عنها وتتهم بالحرام مع أنه قد أصابها، فعلى كل حال: هذا المانع لا يمنع من العدة.
مقصود المصنف -رحمه الله- أن يقول: إذا وجدت الخلوة ولو مع وجود ما يمنعه حسا أو يمنعها حسا أو مع وجود ما يمنعه شرعا أو ما يمنعها شرعا من الوطء لزمت العدة، فما دام حصل الاختلاء على وجه يمكن فيه أن يطأها فالعدة ثابتة، هذا مراد المصنف، وبناء على ذلك فلو سألك سائل، فقال: لو تزوج رجل امرأة ثم بعد زواجه منها اختلى بها خلوة يمكنه أن يطأها في هذه الخلوة، لكن فيه أو فيها أو فيهما مانع حسي أو شرعي: فهل تثبت العدة؟ تقول: نعم، فوجود هذا المانع لا يمنع من كونه يحصل مسيس -مثلما ذكرنا- كأن يكون مجبوبا يتأتى الحمل من مائه، أو يكون محرما أو معتكفا، أو تكون هي حائضة أو نفساء، فهذا كله لا يمنع من ثبوت العدة.
(حسا أو شرعا) يعني: سواء كان المانع حسيا أو شرعيا.
لزوم العدة بالوطء والوفاة
قال رحمه الله: [أو وطئها أو مات عنها] .
الوطء يحصل به المسيس الذي هو منصوص الآية، والخلوة على الوجه الذي ذكره بالشروط التي ذكرها تثبت بها العدة، وبناء على ذلك ذكر لنا ضربين: الضرب الأول: ما يتعلق بالخلوة المنزلة منزلة الإصابة.
والضرب الثاني: الإصابة الحقيقية التي هي الوطء.
وقد أجمع العلماء على -الضرب الثاني- أنه لو خلا بها واعترفت واعترف أنه وطئها تثبت بذلك العدة؛ لأنه مفهوم قوله تعالى: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] ، فهذا طلقها من بعد ما مسها، ولأنه هو الأصل في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة} [البقرة:228] .
(أو مات عنها) فتلزمها عدة الوفاة؛ لأنه سيأتي -إن شاء الله- عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرا، وهذه العدة كانت في الجاهلية، والحداد كان موجودا في الجاهلية ولذلك ما كان موجودا في الجاهلية من العادات والشرائع انقسم في شرع الله عز وجل إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم ألغاه الشرع وأبطله: كنكاح الشغار.
الثاني: قسم أثبته وأبقاه وحث عليه كأن يكون من مكارم الأخلاق ومن حسن العادات، كحلف الفضول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في دار عبد الله بن جدعان حلف ما أحب لو أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت) ، فهذا يدل على إقرار شيء جاهلي لكنه يتفق مع الإسلام؛ لأن هذا الحلف كان لنصرة المظلوم ومنع الظالم من الظلم، وهذا يتفق مع الشرع.
الثالث: قسم هذبه الإسلام، يعني: أبقى منه شيئا وألغى منه شيئا، فقد يبقي الشيء في الأصل ويمنع من صفات معينة فيه، وقد يبقي الشيء بأصله، ويحدد له أجلا معينا.
مثل: الحداد، فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تدخل في أضيق وأظلم وأسوأ مكان من البيت -والعياذ بالله- ثم تمكث سنة كاملة، لا تمتشط ولا تدهن، ولا تغتسل وتصبح في حالة مزرية -والعياذ بالله- من العنت الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فإذا أتمت السنة افتضت ببعرة -والعياذ بالله- في فرجها وهذا أشنع وأقذع، فجاء الإسلام فأمر في أول الأمر بالسنة حولا كاملا: {متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة:240] ، ثم نسخ وخفف الله ذلك بأربعة أشهر وعشرا فجعلها عدة الوفاة، فأبقى الأصل الذي هو حداد المرأة على زوجها، ولكنه هذبه وخففه فجعله أربعة أشهر وعشرا.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]