الأسئلة
إذا شهد أربعة على المرأة بالزنا فهل لزوجها أن يلاعنها؟
السؤال إذا وجد الشهود فهل للزوج أن يلاعنها أو يكتفى بشهادة الشهود وتستحق الرجم؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذه مسألة خلافية، فمن أهل العلم من يقول: من عنده بينة فإنه لا يلاعن، وإنما يقيم البينة ولا لعان، وحينئذ لا يثبت اللعان بالشهود.
ومن أهل العلم من قال: هو مخير لاحتمال أن تكون البينة كاذبة؛ لأنه قد يشهد شهود ويكون عندهم خطأ أو يكون عندهم كذب وتزوير والعياذ بالله! ويريدون إلحاق الضرر بالمرأة، قالوا: فالأفضل: أنه يلاعن حتى يمكنها من أن تدفع عن نفسها الضرر، وعلى كل حال، فكلا القولين له وجه، لكن الأحوال تختلف، فإذا كان يعلم أنها زانية وعنده شهود فالأفضل والأكمل سترها بشرط ألا يكون هناك حمل يلتحق به، فإذا كان هناك حمل ولا يمكنه أن يدفع هذا الحمل إلا باللعان فقد فصلنا فيه القول في أول باب اللعان، وبينا متى يجب عليه أن يلاعن، ومتى يجوز، ومتى يحرم.
فعلى كل حال إذا كان عنده بينة، وعلم أنها زانية، وحصل منه قذف لها، واشتكت؛ فحينئذ الأولى والأحرى أن يقيم عليها البينة، حتى لا يكون هناك تلاعب بحدود الله فتشهد بالباطل، وإذا لم تكن عنده بينة ولم يكن هناك شكوى منها وأراد الستر عليها ولا ضرر عليه فالأفضل والأكمل أن يستر عليها؛ لأن الشريعة نصوصها مطبقة على مشروعية الستر وأفضلية الستر، حتى إن ماعزا رضي الله عنه لما اعترف بالزنا ندبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر على نفسه، وهذه من الرحمة التي بعث بها سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.
اندراج الحد الأدنى تحت الحد الأعلى في العقوبات
السؤال أشكل علي قول المصنف: [سقط عنه الحد والتعزير] ، فما هو التعزير المقصود هنا؟
الجواب هو في مسألة إذا جمع بين نفي الولد وبين التهمة بالزنا، فحينئذ يسقط عنه حد القذف بالزنا، ونفي الولد في غير اللعان يوجب التعزير، فيسقط تعزيره باللعان.
الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ينفي الولد والمرأة تشهد أن الولد ولده، فإذا كان هناك اشتراك بين ما يوجب الحد والتعزير، سقط عنه الحد فيما يوجب الحد، وسقط عنه التعزير فيما يوجب التعزير.
ومن العلماء من يقول: إذا لاعن سقط عنه الحد، لكن يبقى التعزير فيعزر، فمسألة اندراج التعزير تحت سقوط الحد قد تقدمت معنا في مسألة الاندراج، فإن الاندراج يقع في العبادات مثل من يصلي راتبة الظهر فتندرج تحتها تحية المسجد، ومن يطوف طواف الإفاضة وينوي تحتها الوداع، ويقع أيضا في العقوبات، فيندرج الحد الأدنى تحت الأعلى، وقد أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذلك -كما حكاه غير واحد من العلماء رحمهم الله- أنه لو زنى وهو محصن، وسرق، وقتل؛ فإنه يقام عليه حد القتل قصاصا، ويندرج تحته حد الزنا؛ لأنه اجتمع حق الله عز وجل وحق المخلوق، فلابد أن يقتل مرة واحدة، فإننا لو رجمناه بقي حق القصاص، ولو قتلناه قصاصا بقي حق الزنا، فقال: يقام عليه حد القصاص ويندرج تحته باقي العقوبات، وحتى إن بعضهم يقول: لا يقام عليه حد السرقة الذي هو الأخف، ومذهب بعض العلماء أنه تقام عليه الحدود الممكنة، تندرج الحدود التي لا يتعذر جمعها، والله تعالى أعلم.
السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء
السؤال ما هو ضابط العمر بالنسبة للتي توصف بأنها صغيرة؟
الجواب السن الذي تتأهل فيه المرأة للوطء هو التسع سنوات، وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف المناطق، لكن في الغالب تسع سنوات، وقد تقدم معنا هذا في كتاب الحيض، وبينا أن المرأة تتأهل لهذا بوجود الحيض فيها، وقد تكون ضعيفة البنية، لكن هذا بالنسبة إلى الغالب، خاصة في المناطق الحارة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: أعجب من رأيت في الحيض نساء تهامة، فإني وجدت جدة وعمرها إحدى وعشرون سنة، أي: أنها تزوجت وعمرها تسع سنوات، وحملت ووضعت حملها في العاشرة، ثم هذا الحمل بلغ تسع سنين، فأصبح عمر الأم تسع عشرة سنة، ثم حملت البنت ثم وضعت، فأصبح عمر الأم إحدى وعشرين سنة، لكن هذا لما كان النساء في زمان البركة، ويأكلن أكلا طيبا، أما اليوم -والله المستعان- ضعفت البنية، الآن لو تزوج بنتا عمرها ثمان سنوات، تقوم الدنيا ولا تقعد، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها -يعني عقد عليها- وهي بنت ست سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنين! فالمرأة تتأهل للحيض، وتتأهل للوطء، وعمرها تسع سنوات، والله تعالى أعلم.
حكم بول وروث الجلالة
السؤال إذا كان يحرم أكل لحم الجلالة، فهل معنى ذلك أن بولها وروثها نجس؟
الجواب مسألة الاغتذاء بالنجاسة؛ فيها خلاف وتفصيل عند العلماء رحمهم الله، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه نهى عن أكل الجلالة حتى تحبس، وهذا يقتضي أنها تضررت بما أكلته، وإذا كانت تأكل النجس فقد أثر فيها، وينبغي فهم العلل من النصوص بما فيها من دلائل، فإذا كانت جلالة تأكل النجاسات فهي نجسة، وإن كانت تأكل القاذورات فهي مستخبثة، فيكون التحريم إما للنجاسة وإما للاستخباث، ولذلك طائر الرخم، وهو الطائر المعروف الذي يأكل الجيف ويغتذي بها لا يؤكل، مع أنه ليس من ذوات المخالب كالنسر والباز والباشق والشاهين وغيرها من الطيور الجارحة، قالوا: إنما حرم طائر الرخم لخبث مأكله، ودليل ذلك قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157] .
والجلالة لها صورتان: بهيمة الأنعام أو الدواجن كالدجاج التي تتغذى على النجاسة أو التي تتغذى على القاذورات.
فتتغذى بالنجاسة مثل أن تطعم الدماء، فبعض الدجاج تطعم الدم الذي يكون مسفوحا، فيجفف ثم تطعم، فهي متغذية بالنجاسة، وحكمها حكم الجلالة، أو تتغذى بالقاذورات مثل أن تطلق البهيمة كالبقر فتأتي إلى الزبائل وتأكل منها -أكرمكم الله-، فلا يشرب من حليبها، ولا يطعم من لحمها، حتى تحبس؛ فإذا حبست وأطعمت طعاما طيبا حل أكلها وذبحها، وحل أيضا الاغتذاء بلبنها، وبعضهم يرى حبسها أسبوعا حتى تطيب.
فالمنع من أكل الجلالة لأمرين: إن كانت تأكل النجاسة فللنجس، وإن كانت تأكل القاذورات فللقذر، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الوتر والضحى والإشراق للمسافر
السؤال هل للمسافر أن يصلي صلاة الوتر والضحى والإشراق؟
الجواب السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك الوتر حضرا ولا سفرا، ولذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه كان عليه الصلاة والسلام يوتر على بعيره، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أوتر على بعيره فسئل عن ذلك -كما في الصحيحين- فقال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته) ، فأوتر على بعيره إلى غير القبلة في السفر، فالسنة ألا يترك المسافر الوتر لا حضرا ولا سفرا.
وأما بالنسبة للضحى ففيه خلاف، وظاهر السنة أن صلاة الضحى تترك، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما) ، ومن أهل العلم من قال: تصلى الضحى في السفر لحديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح ضحى فصلى في بيتها ثماني ركعات، فمن أهل العلم من قال: إنها ركعات الضحى، ولذلك يرى بعض أهل العلم أن أوسط الكمال في الضحى ثمان ركعات، وأعلاها اثنتا عشرة ركعة، والصحيح أن هذه الثمان الركعات هي ركعات الفتح، صلاها عليه الصلاة والسلام شكرا لله عز وجل في اليوم الذي أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده لا شريك له، فصلى لله شكرا، ولذلك ما صلى كذلك إلا يوم الفتح، وصلاها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه يوم فتح إيوان كسرى، فهذا هو الصحيح أن الثمان الركعات التي صلاها عليه الصلاة والسلام في بيت أم هانئ إنما هي صلاة الفتح شكرا لله عز وجل على نعمة الفتح.
وصلاة الضحى الأشبه أنه لا يصليها المسافر، ولكن إذا أراد أن يصليها من باب الخروج من الخلاف فلا بأس وفيه وجه من السنة، والصحيح والأقوى أنها لا تصلى إلا حضرا.
وأما بالنسبة لركعتي الإشراق، فالإشراق عام، فلو أنه سافر إلى جدة أو سافر إلى مكة أو سافر إلى المدينة فصلى الفجر في جماعة، ثم قال: أريد الخير، فانتظر حتى طلعت عليه الشمس في مصلاه وهو يذكر الله، ويقعد في نفس المصلى يذكر الله عز وجل، ولا ينام ولا يتحدث في أمور محرمة، ولا يتحول عن مكانه، ثم يصلي ركعتين بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، ولا يشكل على هذا ما ورد عن الصحابة -كما في الصحيح من حديث جابر - أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر ويتحلقون عليه؛ لأن هذا ليس له علاقة بمسألة ركعتي الإشراق؛ لأن الإنسان مخير بين أن يجلس في مكانه فيصيب ركعتي الإشراق، وبين أن يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من طلب العلم، وطلب العلم أفضل من العبادة، ولذلك لو تعارض الجلوس إلى الإشراق مع حلقة علم، فإن نفع العلم متعد فهو مقدم على العبادة القاصرة، بل لو مضى إلى ذلك المجلس وفي نيته أنه لولا المجلس ولجلس إلى الإشراق وصلى، فإن الله يكتب له الأجرين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والله تعالى أعلم.
الأفضل في حق ولد تجاه والد كبير السن متقاعد
السؤال والدي كبير في السن، وقد تقاعد من عمله، وهو ممن يحب العمل، فهل من البر البحث له عن عمل أم أحثه على الانشغال بالعبادة؟
الجواب ابحث له عن عمل إذا كان عنده قدرة وطاقة ويحب أن يعمل، فالتمس رضاه بعد رضا الله عز وجل، وإذا كان يمكنك أن تقوم على معيشته أو راتبه يكفيه فيتفرغ للعبادة فهو أفضل، فمن تفرغ لربه كفاه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه وآخرته، وهكذا كان كبار السن من أهل الإسلام يلزمون بيوت الله عز وجل، ويعكفون على العبادة لعل الله أن يختم لهم بخاتمة الخير، والمؤمن إذا شاب شعره، ورق عظمه انتظر مجيء النذير من ربه، وانتظر الأجل الذي قدره له مولاه، فيستكثر من الأعمال الصالحة، ولربما ينكسر قلبه، ويخشى الله سبحانه وتعالى، فيتوب توبة نصوحا يغفر الله له بها ذنوب العمر كلها، وكم من رجل مسيء خطاء كثير الذنوب أسرف على نفسه، فوقف في آخر عمره على باب الله عز وجل يرجو رحمته فانكسر لله قلبه، واطمأن بذكر الله فؤاده، وسأل الله وتعالى أن يعفو عما سلف من الذنوب والعصيان، ولربما كان ابن سبعين أو ابن تسعين أو ابن مائة أو أكثر من ذلك وصدق مع الله فصدق الله معه، فمحا الله عنه ذنوب عمره كلها، والله يفرح بتوبة التائبين، ويحب من عبده أن يقبل عليه وهو أرحم الراحمين، هو أغنى ما يكون عن عباده، والعباد أفقر ما يكونون إليه، فالمؤمن إذا شقي في هذه الدنيا وتعب في جني مالها لكي يعف نفسه ويعف أهله، فعلى أولاده إذا كبر سنه، ورق عظمه أن يتقوا الله فيه، وأن يرحموا كبر سنه، وأن يحاول الابن البار أن يقوم على أبيه في آخر عمره، وأن يتفانى وأن يضحي وأن يجلب له ما يسد رمقه، ويعينه على ذكر الله عز وجل، وكم من ابن بار فتحت له أبواب الخير بدعوات صالحات طيبات مباركات من أم برها أو أب أكرمه في آخر عمره، فكفاه مئونة الدنيا، وكتب الله له بذلك سعادة الدنيا والآخرة، فيوصى الابن أن يبحث أول شيء عن سداد حاجة والده، إذا كان الوالد بحاجة وعندك القدرة على أن تسد حاجته وتضحي له فحينئذ تقطعه عن الدنيا وتقول له: يا أبت! تفرغ لآخرتك واستجمع قلبك لربك، وكفى ما مضى، وجزاك الله عني وعن إخوتي وأهلك كل خير، لم تقصر في شيء فجزاك الله كل خير، والآن سأقوم على أمرك، وأسعى في جلب الرزق إليك، فادع الله أن يعينني، فتسعى والله سبحانه وتعالى لا يخيبك، وكم من عبد يرزق بفضل الله ثم بفضل والديه، ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يسعى على أخيه وهو عبد صالح قال عليه الصلاة والسلام: (لعله يرزق بسببه) ، يعني: الأخ الغني فتح الله له أبواب الغنى والرزق بسبب قيامه على أخيه، وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى يرحم بها عباده.
على كل حال، إذا كان الوالد بحاجة إلى الراحة فالأفضل أن تقوم عليه، وإذا كنت تستطيع أن تكفيه هذا الهم وتقول له: اجلس في البيت وأنا أقوم عليك ولا يتأذى بذلك ولا يتضرر فافعل رحمك الله، واحتسب الأجر عند الله، وإن من أعظم الطاعات وأجلها زلفى عند الله -بعد توحيده والإيمان به وعبادته- بر الوالدين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولك ولكل مسلم التوفيق لذلك، والله تعالى أعلم.
إذا نوى المسافر الإتمام ثم تبين أن الإمام مسافر
السؤال مسافر ظن إمامه مقيما فنوى الإتمام، ثم تبين أن الإمام مسافر، فهل يلزم بالإتمام؟
الجواب من دخل وفي نيته أن يتم لزمه الإتمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما لكل امرئ ما نوى) ، فإذا نويت الإتمام وجبت عليك الأربع.
ودائما على الشخص أن يحتاط إذا شك في الإمام: هل هو مقيم أو مسافر أن ينوي القصر، فإذا نويت القصر وكان الإمام مسافرا فلا إشكال، تسلم معه، وإذا نويت القصر وكان مقيما أحدثت الإتمام؛ لأنه يجوز الزيادة على النقص، فلا بأس أن تدخل بنية القصر ثم يتبين أن إمامك مقيم فتنوي الإتمام، فلا حرج عليك في ذلك ولا بأس، والله تعالى أعلم.
إذا سافر بعد الأذان فهل يصليها قصرا أم يتمها؟
السؤال أذن الفرض وأنا مقيم ثم شرعت في السفر بعد الأذان مباشرة، فإذا أردت الصلاة وأنا في الطريق فهل أتم أم أقصر؟
الجواب إذا خرجت من آخر عمران المدينة وبيوتها وأذن عليك الأذان بعد خروجك فأنت مسافر، وتقصر صلاتك إذا كانت رباعية، وأما إذا أذن الأذان قبل خروجك -ولو بخطوة واحدة- من المدينة فإنه يجب عليك أن تتم الصلاة؛ لأنه توجه عليك النداء بأربع ركعات، ووجبت عليك وأنت مقيم، فلا يجوز إسقاط الأربع؛ لأنها ثبتت في ذمتك، وبناء على ذلك يجب عليك الإتمام ما دام قد أذن عليك أذان الظهر أو العصر أو العشاء قبل أن تخرج من آخر العمران، أما إذا خرجت وأذن عليك بعد خروجك فلا إشكال، والله تعالى أعلم.
التخفيف في الركعتين الأخيرتين يشمل التخفيف في جميع الأركان
السؤال هل من السنة في الرباعية تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الأخيرتين؟ وهل التخفيف في جميع الأركان؟
الجواب الظاهر من السنة أن التخفيف في جميع الأركان، ولكن التخفيف نسبي، فثبت عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه -وكان أميرا لـ عمر على الكوفة- وكان رضي الله عنه وأرضاه من أحرص الناس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل الذي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي) ، هذا الصحابي الجليل الذي غبر قدمه في سبيل الله عز وجل، وأبلى في الإسلام بلاء عظيما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، ومع هذا كله آذاه أهل الكوفة، وانظر كيف يبتلى الصالحون! فكل داعية وكل طالب علم وكل عبد صالح يتكلم فيه فلينظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك أنبياء الله عز وجل، فهذا الصحابي الجليل آذاه أهل الكوفة، وما زالوا يؤذونه حتى أرسلوا وفدا إلى عمر، وذكروا له عدة شكاوى: أول شيء أنه وضع بابا بينه وبين الناس، فجعل على قصره بابا لكي يحتجب عن الناس.
ثانيا: قال قائلهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، والشكوى الثالثة إنه لا يحسن أن يصلي بنا! قبحهم الله وقبح ما جاءوا به، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف:5] ، فزعموا أنه لا يحسن الصلاة، انظروا ماذا يقولون عن أحد الأجلاء الذي كان سابع سبعة في الإسلام؟ كان يقال له: سبع الإسلام، وقيل: سدس الإسلام، ومع هذا قالوا عنه: ما يحسن الصلاة! شرعت الصلاة فرآها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو أن أمهاتهم لم تلدهم، ما كانوا يفقهون من دين الله شيئا، وهو يجاهد ويجالد رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتون ويقولون: ما يحسن أن يصلي! -وهذا في الصحيح-، فأرسل عمر محمد بن مسلمة، فوجد الباب كما ذكروا فأحرق الباب، وكان قد قال له عمر: إن وجدت له بابا كما زعموا فأحرقه ثم لا تلبث حتى تأتيني به، فلما جاء وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام الوفد وقال أحدهم: أما وقد سألتنا عن سعد فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يمشي في السرية، ولا يحسن أن يصلي بنا الصلاة، فقال رضي الله عنه: أما الباب فإن الناس الذين في السوق قد شوشوا علي أثناء الخصومات؛ لأنه كان يقضي بين الناس، فكان إذا جلس يريد أن يسمع الخصوم، علت أصوات الناس في السوق، فلا يستطيع أن يسمع الخصوم، فاتخذ هذا الباب حتى يحجب عنه أصوات الناس في السوق، ويستطيع أن يقيم شرع الله عز وجل، انظروا كيف تفهم الأمور على العكس تماما؟! فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا ولهذا فكل من أظلم قلبه -والعياذ بالله- ساءت ظنونه في خلق الله عز وجل، ولكن المؤمن التقي الورع دائما يلتمس المخارج، فهذا رده على الشكوى الأولى.
وأما رده على الشكوى الأخرى فقال: إنهم يتهموني أني لا أحسن أن أصلي بهم مثال صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! ما كنت آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطول في الأوليين، وأحذف في الأخريين، فجاء بالسنة رضي الله عنه، وصدق وبر، ومن عاداه لقمه الحجر، حتى إنه رضي الله عنه قال: اللهم! إن كنت تعلم أنه كاذب فيما يقول، فأطل عمره، وأذهب بصره، وعرضه للفتن، فعمر فوق المائة سنة، وسقط حاجباه، وهو يتغزل بالنساء وعمره فوق المائة، تقول له المرأة: يا هذا! اتق الله، فيقول: أصابتني دعوة الرجل الصالح، نسأل الله السلامة والعافية! فالشاهد في قوله: ما كنت آلو -يعني أقصر- أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطول في الأوليين، في الأخريين، وهذا يدل على أنه كان يستعجل ويخفف فيهما، والذي عليه العمل أن يكون قيامه في الأخيرتين أخف من قيامه في الأوليين، وأن يكون ركوعه وسجوده أخف، لكن مع مراعاة التعادل في الأركان.
واختلف العلماء رحمهم الله: هل الأولى والثانية من الأوليين بقدر واحد أو تخفف الثانية دون الأولى؟ والذي اختاره بعض العلماء أن ما ورد من الأحاديث بالمساواة في الأولى والثانية فسببه أن الأولى ينسب لها التطويل بالقراءة، لكن ما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية يعادل الذي قرأه في الأولى، وطالت الأولى بدعاء الاستفتاح، وحينئذ تكون روايات الإطالة في الأولى على الثانية محمولة على وجود دعاء الاستفتاح، والتطويل ليس في القراءة، وإنما هو لوجود دعاء الاستفتاح.
وقال بعض العلماء: أنه يطول في قرأءة الأولى، ويقصر في قراءة الثانية.
ثم في الثالثة والرابعة وجهان أيضا لأصحاب الشافعي رحمهم الله، منهم من قال: يقرأ في الثالثة والرابعة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فيقرأ: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] في الثالثة، و {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في الرابعة، وهذا يعني أن هناك فرقا نسبيا، وعلى كل حال فالسنة تخفيف الأخيرة عن الأولى، والله تعالى أعلم.
حكم رفض المستأجر إتمام عقد الإجارة
السؤال لو أن المستأجر رفض وأبى أن يتم الإجارة بعد التزام جزء من العين المؤجرة، وبقي جزء آخر صالح الانتفاع فما الحكم في ذلك؟
الجواب الحكم أنه يلزم بإتمام عقد الإجارة، فجمهور السلف والخلف على أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يعني إذا ثبت بين طرفين إجارة شرعية فإنه إذا صح العقد وثبت يجب على الطرفين أن يتما العقد، فإذا انهدمت بعض العمارة، وبقي بعضها على وجه يمكن الانتفاع به، فقال المستأجر: أنا أريد أن أبقى في هذا الجزء ولا ضرر على المالك، فإنه يلزم شرعا بإتمام العقد لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] ، والإجارة عقد، وأمر الله بالوفاء بالعقد، فلزم المؤجر أن يتم العقد لصاحبه، ولا يجوز له في هذه الحالة أن يمتنع؛ لأن امتناعه ليس من حقه وإن كانت العين ملكا له، فالمنفعة ملك للمستأجر حتى يتم مدة الإجارة، وينتهي عقدها، ومن هنا يرتفع الأمر إلى القاضي، فيلزمه القاضي بإتمام العقد لما ذكرناه، والله تعالى أعلم.
وسائل معينة للتخلص من داء الشح
السؤال أجد في نفسي داء يكاد أن يهلكني، فلقد كنت فقيرا ثم أغناني الله من فضله بالمال، والآن أجد في نفسي شحا وبخلا في الإنفاق في سبيل الله، ويحزنني ما يفوتني من المال، فكيف أتخلص من هذا الداء؟
الجواب من أعظم النقم التي يبتلي الله عز وجل بها عبده أن يقفل في وجهه أبواب الخير، ومن أعظم أبواب الخير على الإطلاق باب النفع في الدين مثل العلم، وباب النفع في الدنيا مثل الإنفاق لستر العورات وتفريج الكربات وبذل الجاه والشفاعة لمن يحتاج، فإذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا فتح به أبواب الخير، وفتح له أبواب الخير، فيسر له تعليم الناس، ودلالتهم على الخير، ولم يشح بعلمه إذا كان طالب علم، وتمنى أن الناس كلهم علماء، وإذا كان خطيبا أو إماما أو معلما تمنى أن لو ينزع بيده العلم من قلبه لكي يضعه في غيره مع مساواته فيما هو فيه، من حبه للخير للناس، فهذا ولي الله المؤمن، الذي طهر الله قلبه وسلمه، وهو بخير المنازل عند الله؛ لأن الله أعطاه حكمة فعمل بها وعلمها للناس.
وكذلك إذا أعطاه الله المال، سلطه على هلكته بالحق، وإذا أراد الله بعبده شرا، قسا قلبه، وعزب عنه رشده، فأخذ ينظر لنفسه، وكأنه يستوجب على ربه أنه مالك للمال، وكأن المال قد أتاه بحوله وقوته، فنسي نعمة الله، وبطر بما آتاه الله، وكفر بفضل الله، فعندها لا يأمن من استدراج الله وعقوبته، ولذلك الرجل الأعمى حينما أعطاه الله أمنيته فأذهب الله عنه العمى، وأوتي المال، فأعطي واديا من الغنم وكثر غنمه، جاءه الملك في صورته التي كان عليها، وقال له: أنا ابن سبيل منقطع، فقال له: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيرا فأغناني الله، والله! لا أمنعك اليوم من مالي شيئا؛ لأنه يحس أن المال ليس بيده، وأن المال مال الله، ويحس أن النعمة جاءته من الله، فأخذ يلتمس رضا الله بأي وجه من الوجوه، فقال: دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله! لا أمنعك من مالي شيئا، إيمان كامل وتسليم كامل، وهذا كله لا يكون إلا بفضل الله ثم بحياة القلوب، فعلى العبد دائما أن يفكر: كيف يعامل الله؟ الدنيا فانية زائلة لا محالة، يا هذا! إذا أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله أمرك وأصلح حالك، فأما ما سألت عنه من داء الشح فأقول: أولا: أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن تكثر من الدعاء، فإنه والله! لا يمكن أن ينجيك مما ابتليت به إلا الله وحده لا شريك له، فتدعو الله في الأسحار، وتقوم في جوف الليل، وتبكي وتتضرع إلى ربك قائلا: اللهم! أصلح لي قلبي، اللهم! إني أعوذ بك من فتنة هذا المال، اللهم! اجعله لي عونا على طاعتك، اللهم! بارك لي في مالي، اللهم! اجعل ما رزقتنيه عونا لي على طاعتك ومحبتك ومرضاتك، يالله! سهل لي الخير، ونحو ذلك من الدعوات التي تسأل فيها ربك ما يرضيه عنك.
ثانيا: أن تكثر من الأسباب التي تعينك على الجود والسخاء، ومن أعظمها قصر الأمل في الدنيا، وعظم الرجاء في الآخرة، يا هذا! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، وأكلت فأفنيت، وتصدقت فأبقيت، ليس لك من هذا المال إلا ما قدمته لآخرتك وابتغيت به ما عند ربك، فاعلم علم اليقين أن هذا المال لا يمكن أن يكون نعمة حقيقية إلا إذا كان في يدك لا في قلبك، ومن الأسباب التي تعينك على إنفاق المال أن تتذكر كيف كنت، وأن تعلم علما يقينيا لا شك فيه ولا مرية أن الله قادر في طرفة عين أن يجعلك فقيرا، فكم من إنسان أصبح غنيا فأمسى فقيرا! ولربما يكون الإنسان ثريا وفي طرفة عين يكون فقيرا، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، ويقال: إنها حدثت مع الوليد بن عبد الملك، والمشهور أنها عن الوليد، فجاء رجل إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله، فدخل عليه وهو كفيف البصر، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أغنى قومي، وكان عندي من المال ما لا يعد ولا يحصى من إبل وغنم، وكان عندي من العبيد والموالي ما لا يحصى كثرة، وكانت لي ضيع -يعني بساتين- ففوجئت في ليلة من الليالي بمطر غزير فجاء السيل فلم يبق من ذلك شيئا، ما أبقى له مالا ولا ولدا ولا أهلا، اجترفهم السيل عن بكرة أبيهم، قال: فرقيت على شجرة فسلمت ونجوت بفضل الله عز وجل، وما زال يبكي عليهم حتى فقد بصره، ففقد أهله وفقد ماله وفقد بصره، وكان في أعز الغنى، فلا يأمن أحد مكر الله عز وجل، ومكر الله يحل على القوم الفاسقين، ويحل على الظالمين، ويحل على المعتدين.
وقد يكون الإنسان في نعمة ورغد من العيش ويبسط الله له النعمة، فيأتيه الرجل في ظلمة ليل أو ضياء نهار، ويقول له: إني في كربة وفي حاجة وفي ضائقة وهو صادق، والله! لو كان عنده شعوره لعلم أن هذا الرجل ابتلاء من الله قبل أن يكون رجلا محتاجا، أي شخص يقف عليك وعندك قدرة على أن تعطيه من الدين أو الدنيا فاعلم أنه ابتلاء من الله، قبل أن يكون رجلا محتاجا، إلا أن يكون كذابا فهذا أمر آخر.
فعلى كل حال؛ على الإنسان أن يستجمع الأسباب التي ذكرناها، ومن أعظم الأسباب أنه لا يأمن مكر الله، فقد يؤخذ منه المال في طرفة عين، والله على كل شيء قدير، وهذا أمر لا يعجز الله في الأمم فضلا عن الأفراد، فكم من قرية أمست ظالمة فما أصبح لها أثر، وكم من قرية أصبحت ظالمة فأمست وهي بحال بئيس {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا الأشخاص ولا القرية {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود:102] ما قال: الأفراد ولا قال: القرية، وإن كان ذكر لنا مثل القرية إذا جاءها بأسه بياتا، فإذا جاء بأس الله بياتا أو جاء صباحا فهذه سنة الله، أما إذا جاء للأخذ والقدرة الإلهية المتعلقة بصفاته سبحانه وتعالى فقال: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} [هود:102] ، وهذا تعظيم لصفات الله متعلق بالتوحيد، فلما جاء عند الصفة وهي الأخذ جاء بصيغة الجمع {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} [هود:102] ، جملة وهي ظالمة حالية، أي: والحال أنها ظالمة {إن أخذه أليم شديد} [هود:102] ، فالإنسان الذي يشح بماله عليه أن يعلم علم اليقين أن لله سطوات، وأن لله أخذات، وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي كل من أعطاه النعمة، ولذلك قيل لقارون: {أحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} [القصص:77] ، فلما عتا وطغى وتمرد على الله جل وعلا، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، فهو في الأرض يتزلزل فيها إلى يوم القيامة {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} [القصص:81] ، فلا أحد يستطيع أن ينصر العبد إذا أخذه الله عز وجل، فعلى الإنسان أن ينتبه، فهذا المال امتحان من الله.
ومما يعين على ترك الشح، وعدم الاغترار بالمال؛ كثرة ذكر الآخرة، فالذي يعلم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يأخذه بين عشية وضحاها، فإنه يزهد في الدنيا وتهون عليه الدنيا، ولذلك انظر إذا حضر الأجل إلى الشخص فإنه يتمنى لو تصدق بماله كله؛ لأنه تهون عليه الدنيا كلها، ويزول عنه غروره.
ومن الأمور التي أوصيك بها والتي تعينك على ترك الشح أن تنظر إلى الأسباب التي ولدت الشح في قلبك؛ من وجود القرناء، ومنافسة القرناء، والجلوس مع الأثرياء، وكثرة الحديث في الدنيا، فإن هذا مما يورث الشح، ومن جالس قوما تأثر بأخلاقهم، فجالس الأخيار والصلحاء والأتقياء والفضلاء وابتغ ما عند الله سبحانه وتعالى، واسأل عن عورات المسلمين فاسترها لعل الله أن يسترك، واسأل عن كرباتهم فنفسها لعل الله أن ينفس كربتك، والتمس مرضات الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهبنا من الدنيا وزينتها عونا على طاعته ومحبته ومرضاته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.