عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-10-2025, 11:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,935
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الفتح المبين من درر اليقين

وهو شرط لا إله إلا الله، فإذا أخبرك الله عن شيء، فلن تدخل في الإسلام إلا بهذا اليقين، أن يصدق المسلم تصديقًا كاملًا، يمحو التكذيب من القلب محوًا شاملًا؛ وكما قال عبدالله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطعُ
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقناتٌ أن ما قال واقعُ
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ


رجحان العمل وحصول الرضا باليقين:

واعلموا - علمني الله وإياكم - أن رجحان العمل ليس بكثرته، إنما هو بقدر يقين صاحبه بالله تعالى، فكلما ارتقى العبد في سلَّم اليقين ثقل عمله؛ قال بكر بن عبدالله المزني رحمه الله: "ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقـر في قلبه".

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامهم؟! ولَمثقال ذرة من بُر، من صاحب تقوى ويقين، أفضل وأرجح وأعظم، من أمثال الجبال عبادةً من المغترين"[6].

وصح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن الرَّوح والفرَج في اليقين والرضا، وإن الغم والحزن من الشك والسخط".

وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول: "اللهم هب لنا يقينًا بك حتى تهون علينا مصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا به".

اليقين في قدرة الله:
ومن مجالات اليقين: اليقين في قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه الذي أبدع هذا الكون على غير مثال سابق، ولقد تحدث القرآن الكريم في غير ما آية من آياته عن بيان قدرة الله تعالى.

إنها قدرة الله، إن من يحاول أن يصل بعقله إلى حدود قدرة الله، كمن يحاول أن يكلف نملة أن تنقل جبلًا من مكان إلى آخر، إن قدرة الله لا حدود لها: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، فلا تفكر بعقلك لتصل إلى منتهى قدرة الملِك، فإن قدرة الله لا تحُدها حدود، ولا يُعجز اللهَ شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الذي خلق السماء بغير عمد ترونها؟!

من الذي خلق الأرض، وشق فيها البحار والأنهار، وزينها بالأشجار؟!
من الذي خلق الإنسان بهذا الإبداع والجمال؟!

يدُ مَن التي امتدت إلى عينيك وأنفك وأذنك، فجعلت ماء الأذن مرًّا، وماء العين مالحًا، وماء الأنف حامضًا، وماء الفم حلوًا، وأصل هذا الماء واحد وهو رأسك، أيها الإنسان؟!

يد من التي امتدت إلى سنبلة القمح، فغلفتها بهذه الأغلفة الحصينة المكينة، وجعلت فوق كل حبة شوكة؛ لأن الله قد قدَّر أن تكون هذه الحبة طعامًا لك - أيها الإنسان - ولم يقدر أن تكون طعامًا للطيور أو غير ذلك؟!

يد من التي امتدت إلى كوز الذرة، فرصَّت على قولحته هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء، بهذا الإتقان والجمال والإبداع؟!

يد من التي نجَّت يوسف من غيابة الجب؟!
يد من التي نجَّت يونس من بطن الحوت؟!
يد من التي نجَّت الحبيب المصطفى ليلة الهجرة؟!

يد من التي نجَّت الخليل إبراهيم من وسط النيران؟! إنه الله: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر: 22، 23].

أرأيت الأرض في دورانها، كيف تمسكت بكل ثابت وسائب؟
أرأيت الشموس في أفلاكها، كيف تعلقت بنجم ثاقب؟
أرأيت الرياح كيف سُخرت، فمنها الكريم ومنها المعاقب؟
أرأيت الأرزاق كيف دُبرت، وهل في الطيور زارع أو كاسب؟
أرأيت الأنعام كيف ذُللت، فجادت بألبانها لكل حالب؟
أرأيت النحل كيف رشف رحيـق الزهور فأخرج الشفاء مشارب؟
سبحانك يا رب!
أرأيت النمل كيف خزن طعامه، وهل للنمل كاتب أو حاسب؟
أرأيت الفرخ كيف نقر بيضه، وخرج في الوقت المناسب؟
أرأيت العنكبوت كيف نسجت؟ وكم في الخيوط مصائد ومصائب!
أرأيت الوليد كيف التقم ثدي الأم، دون علم سابق أو تجارب؟
أرأيت الإنسان كيف ضحك؟ أرأيت كيف تثاءب؟
أرأيت نفسك نائمًا وقد ذهبت بك الأحلام مذاهب؟
إذا رأيت ذلك كله فاخشع، فلا نجاة لهارب، فسبحانك يا رب المشارق والمغارب!

الخطبة الثانية
أما بعد:
قصة صاحب القرية:
ومن صور اليقين ما قصه الله علينا في قصة الذي مر على القرية الخاوية؛ قال الله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ [البقرة: 259]، والقرية على الراجح هي قرية بيت المقدس، مر عليها العُزير بعدما دمرها بختنصر، وصارت خرابًا، فنظر إليها العزير يصفِّر فيها الهواء، لا سبب فيها من أسباب العمران، فقال: أنى يحيي الله هذه بعد موتها، فأماته الله جل وعلا مائة عام، ثم بعثه بعد مائة عام كاملة، وسأله الله جل وعلا عن طريق الملَك، قال: كم لبثت؟

فنظر العزير فوجد الشمس ما زالت مائلة إلى الغروب، فظن العزير أنها شمس اليوم الذي مات فيه، أو نام فيه، قال: لبثت يومًا أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام، ما الدليل؟!

انظر إلى وجهَي المقارنة؛ لأنه لا بد للمقارنة من وجهين؛ وجه ثابت، ووجه متغير، قال: انظر إلى الوجه الأول، انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه؛ أي لم يتغير لونه، ولا طعمه، ولا رائحته، بالله عليكم هل في الدنيا (ديب فريزر) يحفظ الطعام مائة سنة؟ الله أكبر، يحفظ الطعام مائة عام، انظر إلى الطعام والشراب ما تغير لا لونه، ولا طعمه، ولا ريحه، وما هي المقارنة المتغيرة يا رب؟ انظر إلى الحمار، أي حمار؟ الحمار صار عظامًا بالية، صار رميمًا، أكلته الأرض وبليَ، قال: انظر إليه، فنظر إلى الحمار، فوجد الله جل وعلا يحيي أمام عينه حماره مرةً أخرى، يأتي العظم إلى جوار العظمة التي سيُركب معها، وإذ به يرى الحمار يتحول إلى هيكل عظمي فقط، لا لحم، ولا عظم، ولا شعر، ولا روح، وإذ به بعد ذلك يرى الحمار يُكسى باللحم، ثم بعد ذلك بالشعر، ثم يأمر الله الملَك فأتى الملَك الحمار فنفخ في منخريه، فنهق الحمار بإذن الله جل وعلا، فصرخ العزير قائلًا: أعلم أن الله على كل شيء قدير.

قصة إبراهيم عليه السلام:
بعدها قال الله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]، إبراهيم ما شكَّ، أراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين.

قصة العاص بن وائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذهب العاص بن وائل - عليه من الله ما يستحق - إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظام بالية، أخذها في يديه، ووقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفتَّ العظام، فحولها إلى رميم وتراب، ثم قال: يا محمد، أتزعم أن الله يحيي هذه العظام بعدما صارت رميمًا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((نعم، يميتك ثم يبعثك، ثم يدخلك جهنم))؛ فأنزل الله قوله تعالى في آخر سورة يس: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 77 - 83].

وإذا تزاوج الصبر باليقين ولدت بينهما الإمامة في الدين؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذن الله لهم بذلك، وتقويته إياهم عليه.

فاليقين من قِسمة الله تعالى لخلقه؛ فالواجب على المسلم أن يسأل الله تعالى أن يرزقه من اليقين ما يبلغه به رضاه سبحانه وتعالى، كما كان حال إمام أهل اليقين سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وعن نافع، عن ابن عمر، أنه لم يكن يجلس مجلسًا كان عنده أحد، إلا قال: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، اللهم ارزقني من طاعتك ما تحول بيني وبين معصيتك، وارزقني من خشيتك ما تبلغني به رحمتك، وارزقني ‌من ‌اليقين ‌ما ‌تهوِّن ‌به عليَّ مصائب الدنيا، وبارك لي في سمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، اللهم وخذ بثأري ممن ظلمني، وانصرني على من عاداني، ولا تجعل الدنيا أكبر همي، ولا مبلغ علمي، اللهم ولا تسلط عليَّ من لا يرحمني))، فسُئل عنهن ابن عمر، فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم بهن مجلسه"[7].

لو أن لابن آدم من اليقين قدرَ ذرة، لَمشى على الماء:
عن بكر بن عبدالله المزني قال: "فقد الحواريون نبيهم، فانطلقوا يطلبونه، فإذا هو قد انطلق نحو البحر، وإذا هو يمشي على الماء، فقال له رجل منهم: يا نبي الله، أجيء إليك؟ قال: نعم، فذهب يرفع رجلًا ويضع أخرى، فإذا هو في الماء، فقال له عيسى: ناوِلني يدك يا قصير اليقين، فلو أن لابن آدم من اليقين قدرَ ذرة، لَمشى على الماء"[8].

حصون الإيمان: مَثَلُ الإيمان كبلدة لها خمسة حصون؛ قال الحجاوي في شرحه: "يُقال: مَثَلُ الإيمان كمثل بلدة لها خمسة حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجُر، والخامس من لبن، فما زال أهل الحصن متعاهدين حصن اللبن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن الثاني ثم الثالث، حتى تخرب الحصون كلها، فكذلك الإيمان في خمسة حصون: اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض، ثم السنن، ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب ويتعاهدها، فالشيطان لا يطمع فيه، وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن، ثم في الفرائض، ثم في الإخلاص، ثم في اليقين"[9].

الدعاء...

[1] تفسير السعدي (ج 1/ ص 40).

[2] أيسر التفاسير لأسعد حومد (ج 1/ ص 11).

[3] سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (ج 2/ ص 37).

[4] مدارج السالكين ج3، ص 413.

[5] أخرجه مسلم، ح 46.

[6] أخرجه أحمد في الزهد، ح 746.

[7] أخرجه الترمذي ح 3424، والنسائي في الكبرى ح 10234، والمنتقى من عمل اليوم والليلة (ج 1/ ص 14)، والزهد لابن المبارك ح 425، وقال الألباني: حسن؛ [انظر حديث رقم: 1268 في صحيح الجامع].

[8] تاريخ دمشق (ج 47/ ص 408).

[9] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (ج 1/ ص 46).







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.39%)]