الاستقامة.. وسُبل تحقيقها
- أول مراتب الاستقامة الثَّبَات على التوحيد والبراءة من الشرْك وأهله
- حقيقة الاستقامة لُزُوم الأَوامِر والنواهي بفعل الأمر وترك النهي أو إتيان الطاعات واجتِناب المعاصي
- من سبل تحقيق الاستقامة التوسُّط والاعتِدال وترْك التكلُّف والغلوِّ والتنطُّع في الاعتِقاد والعمل
- من سبل الثبات على الاستقامة الإقبال على القرآن الكريم قراءةً وتدبُّرًا وعملًا لأن القرآن يَهدِي للتي هي أقوم
أمَر الله -سبحانه وتعالى- نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من المؤمِنين بالاستِقامة على الدِّين، كما قال -تعالى-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112)، وقد قال عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم-: «شيَّبتني هودٌ وأخواتها»، كما بيَّن -سبحانه وتعالى- عاقِبةَ أهلِ الاستقامة بقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأحقاف).
درجات الاستقامة
- أولها: على التوحيد، والبراءة من الشرْك وأهله، وذلك عندما سُئِل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة قال: «ألَّا تُشْركَ بالله شيئًا»، أي: لزوم التوحيد الخالص.
- ثانيًا: لُزُوم الأَوامِر والنواهي بفعل الأمر وترك النهي، وهي إتيان الطاعات واجتِناب المعاصي، كما قال بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أن تستَقِيم على الأمر والنهي، ولا تَرُوغ روغان الثعلب»، وذلك بِلُزُوم الطاعات في كلِّ الأحوال حتى ينشَغِل الإنسانُ بما فيه النفْع والخيْر، ويترُك المَعاصِي والمحرَّمات، لتَحقِيق الثَّبات على طاعة الله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّ التذبذب وعدم الثَّبات من صِفات المنافقين، كما قال -تعالى-: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (النساء:143)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان»، رواه البخاري ومسلم. فجِماع الاستقامة هي إخلاص التوحيد لله -عزَّ وجلَّ-، وترْك النواهي والثَّبات على ذلك؛ فهي بجَمِيع أحوال الإنسان مِن أقوال وأعمال وثَبات.
الأمور التي تتضمنها الاستقامة
والاستِقامة تتضمَّن عِدَّة أمور كما بيَّنها ابن القيِّم رحمه الله في «مدارج السالكين» وهي: - إفراد المعبود بالإرادة مِن الأفعال والأقوال والنيَّات، وهو الإخلاص.
- وقوع الأعمال وحصولها وَفْق الأمر الشرعي لا البدعي، وهو متابعة السُّنَّة.
- العمل والاجتِهاد في الطاعة بقدْر وُسْعه، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها، فاتَّقوا الله ما استطعتُم.
- الاقتِصاد في العمَل بين الغلوِّ والتفريط (لا إفراط ولا تفريط).
- الوقوف مع ما يرسُمه الشرْع ويحدِّده، لا مع دَواعِي النفس وحظوظها، وفي حديث ثَوبان - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «واستَقِيموا ولن تُحْصُوا، واعلَمُوا أنَّ خير أعمالِكم الصلاة، ولا يُحافِظ على الوضوء إلا مؤمن»، رواه أحمد بإسنادٍ صحيح.
فمَن يُطِق السدادَ في كلِّ أحواله، وهي الاستِقامة التامَّة، فليُقاربْها بحسب طاقته، ولا يَنْزل عن تلك الدرجة، سَدِّدوا وقارِبُوا، قال بعض السلف -رحمهم الله-: «ما أمَر اللهُ بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا إلى تفريطٍ وإمَّا إلى مُجاوَزة»، وهي الإفراط، ولا يُبالِي بأيِّهما ظفَر (الزيادة أو النقصان)، أخرجه أحمد، وابن ماجه. وسائل تحقيق الاستقامة
(1) وجوب الإيمان بأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم- قد عرَّف الأمَّة بجميع أمور دينِهم، وما يحتاجُون إليه في الاعتِقاد والعمل، كما قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التوبة:115)، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: «تركتُكم على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك». (2) لُزُوم لوازم الإيمان بترْك الابتداع أو التقصير في السُّنُّة والتهاوُن والتفريط. (3) التوسُّط والاعتِدال، وترْك التكلُّف والغلوِّ والتنطُّع، في الاعتِقاد والعمل، والتوسُّط هو منهج سلفِنا الصالح وسلوكهم، قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة:143)، أي: خِيارًا عُدُولًا. أسباب الانحِراف عن الاستقامة
1 - رفقة السوء.
2 - ضعْف الإيمان، والبُعد عن الله، وترْك الصلاةِ ومجالسِ الذكْر.
3- الغلوُّ والتشديد على النفس حتى يملَّ فيترُكها وينحرف، قال - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الدِّين مَتِين فأَوغِلوا فيه برفْق»، (مسند الإمام أحمد)، وقال - صلى الله عليه وسلم-: «لا تكُن كالمُنْبَتِّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقَى».
4 - الفَراغ بشقَّيْه الرُّوحي والزمني كما قال الشاعر: إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيَّ مَفْسَدَهْ
5- اليأس والقُنُوط مِن رحمة الله عندَما يُسْرف الإنسانُ على نفسه، فيظن أنَّ الله لا يغفِر له، فيستمرُّ في ذنوبه ويُقَنِّطه الشيطانُ مِن رحمة الله، والله يقول: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53).
6 - بعض وسائل الإعلام المضلِّلة من : (إنترنت، وقنوات فضائية، وإذاعة، ومجلَّات وصحف).
7 - عدم وضوح الهدف في الحياة، وعدم تحديد الوجهة والغاية. وسائل الثَّبات على الاستقامة
1- الإقبال على القرآن الكريم قراءةً وتدبُّرًا وعملًا؛ لأن هذا القرآن يَهدِي للتي هي أقوم، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9).
2- التِزام شرعِ الله والإكثارُ من الأعمال الصالحة، قال -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم:27).
3- قراءَة سِيَرِ الأنبِياء وقصصهم وتدبُّرها، لمعرفة ثباتهم وصبرهم والتأسِّي بهم، لقوله -تعالى-: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود:120).
4- كثرة الدعاء بالثَّبات، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: «يا مُقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دِينِكَ».
5- كثْرة ذِكر الله -عزَّ وجلَّ- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال:45).
6 - اتِّباع السُّنَّة وهُدَى السلف -رحمهم الله-، وهو طريق أهل السُّنَّة والجماعة.
7- التربية الإسلامية الصحيحة للناشئة.
8- الإيمان الصادق والتصديق.
9- مُمارَسة الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
10- الالتِفاف حوْل العلماء وطلَبَة العِلم الشرعي، والحرص على الدروس وحلَق الذِّكْر.
11- الثقة بنصر الله للدِّين، والقَناعة التامَّة بأنَّه الحقُّ، والإيمان بوَعْد الله -عزَّ وجلَّ- مِن أنَّ العزَّة لهذا الدِّين وأهله.
12- معرفة حقيقة الباطل وأهله، وعدَم الاغتِرار به مهما بلَغ مِن الطُّغيان والظُّهور، قال -تعالى-: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} (آل عمران:196)، وقال -تعالى-: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد: 17).
13- الصبر، وعدَم الاستِعجال، واحتِساب الأَجْر، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} (العصر:3)، وقال -تعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)، وقال -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28).
14- الاستِشارة، وطلَب الموعظة والدُّعاء من الرجال الصالحين، وكذلك الاستِخارة في جميع الأمور.
15- معرفة الدنيا على حقيقتها، والتَّجافي عن دار الغرور، وتذكُّر الموت والآخرة.
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان