شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان … الشعبة الخامسة: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقَدَرَ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مِنْ اللَّهِ عزّ وجل
- المؤمن لا يجزع عند المصيبة ولا تبطره النعمة ففي حال البلاء يصبر وحال الرخاء يشكر
- العمل والكسب والسعي واتخاذ الأسباب الموصلة للغايات كل هذا لا ينافي القضاء والقدر وإنما هو داخل فيه
- الألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة فلذلك يجب ألا يُعدل عنها نفيًا ولا إثباتًا لئلا يُثبَتَ معنى فاسد أو يُنفَى معنى صحيح
إن معرفة شعب الإيمان وفقهها مطلب لكل مؤمن عاقل عالي الهمة، يبتغي الوصول إلى الرشد والهداية والعلو في درجات الدنيا والآخرة، وقد جاء النص عليها في الحديث المشهور المعروف؛ حيث ذُكر فيه الأفضل منها والأدنى، وشعبة جليلة وهي الحياء، وحرصًا على معرفة تفاصيلها وأفرادها؛ فقد صنف العلماء قديما مصنفات في تعدادها وإحصائها، كالحليمي والبيهقي، ولكن لما كانت مصنفاتهم طويلة موسعة، عزف كثير من المسلمين عن قراءتها، ومن هنا جاءت فكرة الاختصار والتجريد، وهذا ما قام به القزويني في اختصار شعب الإيمان للحافظ البيهقي؛ لذلك شرحتها بأسلوب سهل مختصر مدعّم بالنصوص والنقول التي تزيد الأصل زينة وبهجة وجمالا.
- الشعبة الخامسة من شعب الإيمان هي الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقَدَرَ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ مِنْ اللَّهِ -عزوجل- لِقَوْلِهِ -تعالى-: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟!، قال: فحج آدم موسى». وبالإسناد المذكور أنشدنا الإمام أبوبكر البيهقي قال: أنشدني أبو الفوارس جنيد بن أحمد الطبري:
العبد ذو ضَجَرٍ والرب ذو قَدَرٍ
والدهر ذو دُوَلٍ والرزق مقسومُ
والخير أجمع فيما اختار خالقنا
وفي اختيار سواه اللّوم والشُّومُ
الشرح:
قوله: «الإيمان بأن القدر خيره وشره من الله -عزوجل-»: وهو ركن من أركان أعمال القلب يزول الإيمان بزواله، فالإيمان بالقدر: أن يعتقد المؤمن أن كل شيء في هذا الكون مخلوق بقدر -يعني بصفة وزمن-، فلا يقع شيء في هذا الكون -سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا-؛ إلا وهو بقضاء الله وقدره، والإيمان بالقدر: (هو التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأنه الفعّال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا مَحيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، وأنه خالق أفعال العباد والطاعات والمعاصي، ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم، وجعلهم مختارين لأفعالهم، غير مجبورين عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم وإرادتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. الإيمان بالقدر خيره وشره
والإيمان بالقدر خيره وشره من الله -تبارك وتعالى-؛ أحد الأركان الستة التي يدور عليها فلك الإيمان، كما دل عليه حديث جبريل وغيره، وكما دلت عليه الآيات الصريحة من كتاب الله -تعالى-، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملةً وتفصيلًا: فقد كَتَبَ في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه، بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. ونحو ذلك... فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكره اليوم قليل. قوله: لقوله -تعالى-: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)، قال أبو جعفر: القول في تأويل قوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}. يعني -جل ثناؤه- بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}، قل يا محمد، لهؤلاء القائلين: إذا أصابتهم حسنة: {هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ}، وإذا أصابتهم سيئة: {هَذِهِ مِنْ عِندِكَ}: كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة، قال الحافظ ابن كثير: فقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}، أي: الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي: الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري. فحج آدم موسى
قوله: ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟، قال: فحج آدم موسى». - قوله: (احتج) أي تحاجَّ وتناظر.
- قوله: (خَيَّبْتَنَا): أي أوقعتنا في الخيبة وهي الحرمان.
- قوله: (وأخرجتنا من الجنة): وهي دار الجزاء في الآخرة وهي مخلوقة قبل آدم.
قوله: (وخط لك بيده): وهي على ظاهرها بأن الله -تعالى- خط له بيده، ولله -تعالى- يد حقيقية تليق بجلاله ولا تشبه يد المخلوق. صفات الله -تعالى- الخبرية
ولا يقال عن هذه الصفات -أي صفات الله تعالى الخبرية- إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب ألا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفيًا ولا إثباتًا، لئلا يُثبَتَ معنى فاسد أو يُنفَى معنى صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمُحق والمُبطل، (وكان مكحول، والزهري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، يقولون فيها وفي أمثالها: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله -تعالى- ورسوله). قوله: (على أمر قدره الله)، ويروى قدر الله بدون الضمير، وهي رواية السرخسي والمستملي، والمراد بالتقدير هنا الكتابة في اللوح المحفوظ، أو في صحف التوراة، وإلا فتقدير الله أزلي. المراد بقوله: أربعين سنة
- قوله: (بأربعين سنة) قال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله -تعالى-: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، إلى نفخ الروح في آدم، وقيل: ابتداء المدة؛ وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم، وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة، وقد جاء في (الحديث): «إنّ الله قدّر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»ا.هـ
- قوله: (فحجَّ آدم موسى) حجَّ غيره: غلبه بالدليل والبرهان.
- قوله: (وبالإسناد المذكور): يقصد السند الذي ذكره في مقدمة الكتاب، والذي ينتهي إلى الإمام أبي بكر البيهقي.
- قوله: (أنشدنا) أنشد الشعر: قرأه.
الإمام أبو بكر البيهقي قال: أنشدني أبو الفوارس جنيد بن أحمد الطبري. - قوله: (العبد ذو ضجر) يعني أن العبد قليل الرضى يتضجر من الأمور ويَمَلُّ كثيرًا. قوله: (والرب ذو قدر) فكل ما في هذا الكون بقدر الله وبعلمه.
- قوله: (والدهر ذو دول) فيه إشارة لقول الله -تعالى-: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)، ومن الحكم في ذلك؛ أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى, لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة، فإنها خالصة للذين آمنوا. قوله: (والرزق مقسوم) فيه إشارة لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه».
معنى الخير فيما اختار الله
- قوله: (والخير أجمع فيما اختار خالقنا... وفي اختيار سواه اللوم والشوم) فيه إشارة لقول الله -تعالى-: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)، ومعنى الخير فيما اختار الله: أن قضاء الله وقدره كله خير وكله حكمة، وليس فيه شر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والشرّ ليس إليك» فقضاء الله ﻷ على ثلاثة أنواع؛ فهناك قضاء في اللوح المحفوظ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس: 12)، وقضاءٌ حَوْلِيٌّ: بمعنى يكون في السنة مرة، وهو في ليلة القدر التي وصفها الله -تعالى- بأنها سلام إلى مطلع الفجر: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر: 5)، وقضاء يومي: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29)، والمعنى: كل يوم له تدبير وتقدير خاص من الرزق والموت والولادة... إلخ.
ويقول العلامة السعدي -رحمه الله تعالى-: في الآية السابقة، «هذه الآيات عامة مطردة في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة؛ أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحبها النفوس -لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة-؛ فهي شر بلا شك. وأما أحوال الدنيا، فليس الأمر مطردًا، ولكن الغالب على العبد المؤمن أنه إذا أحب أمرًا من الأمور -فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه-؛ أنه خير له، فالأوفق له في ذلك، أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله -تعالى- أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه، كما قال -تعالى-: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 232)، فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم». الإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور
يقول الشيخ العلامة ابن عثيمين: «والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور: - الأول: أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، دليل ذلك: عموم الأدلة مثل قول الله -تعالى-: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282)، وخصوص العلم بالغيب، وقد قال موسى -عليه الصلاة والسلام-: {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (طه: 52)، أي: لا يجهل ولا ينسى ما علم.
- ثانيًا: الإيمان بأن الله -تعالى- كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، قال الله ﻷ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس: 12).
- ثالثًا: أن تؤمن بأن كل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله -تعالى-، فلا يخرج شيء عن مشيئته أبدًا، ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فأي شيء يحدث فهو بمشيئة الله، قال الله ﻷ: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير).
- رابعًا: الخلق: ومعناه: الإيمان بأن الله خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله -تعالى- لكل شيء، قال -تعالى-: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(الفرقان: 2).
فوائد الإيمان بالقضاء والقدر وأثره على المسلم
(1) تحقيق هدوء النفس واطمئنان القلب. (2) المؤمن لا يجزع عند المصيبة، ولا تبطره النعمة، ففي حال البلاء يصبر، وحال الرخاء يشكر. (3) القدر سر من الأسرار لا يجوز الخوض فيه، كل هذا فيما لا علم للمرء فيه مخافة أن تزل به القدم. (4) العمل، والكسب، والسعي، واتخاذ الأسباب الموصلة للغايات؛ كل هذا لا ينافي القضاء والقدر، وإنما هو داخل فيه لقول عمر - رضي الله عنه - جوابًا لأبي عبيدة بن الجراح: (نَعَمْ, نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ). (5) التوكل الذي أمر الله -تعالى- به يكون بعد اتخاذ الأسباب، وهذا يؤيده حديث خروج أهل اليمن للحج، وهم على غير زاد، فلما سئلوا قالوا: نحن متوكلون، فنزلت الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة: 197).
اعداد: د. عبدالرحمن الجيران