مكارم الأخلاق (11) إصلاح ذات البين
فصل الصيف في الكويت الأشد على وجه الأرض، ويمتد لأكثر من أربعة شهور، من منتصف مايو إلى سبتمبر! ويسمى فصل الصيف عندنا (القيظ)، ولم أجد أصلا لهذه الكلمة، أما الأقسى في هذه الفترة فهي (جمرة القيظ)، وتمتد من نهاية يوليو إلى الأسبوع الثالث من أغسطس! مع هذه الأجواء الملتهبة، تتعكر النفسيات، وتكثر المشكلات بمختلف أنواعها.
كنت وصاحبي نتريض في أحد مراكز التسوق صباحا قبل أن يبدأ النشاط التجاري للمحلات ويزدحم (المول)؛ لأنه ملاذ الكثيرين في الصيف وإن لم تكن لهم حاجة في السوق! - هل نجحت في الإصلاح بين (أبى خالد) و(أبى محمد)؟! - (أبو محمد) يستجيب، وأبو خالد يتعنت، ولكن لا زلت آمل أن تصفى القلوب وتصدق النيات حتى تتم الألفة بينهما.
- المحزن أنهما من رواد المسجد الذين لا تفوتهم صلاة، الآن كل واحد منهما يصلي في مسجد مختلف.
- إن المرء عندما يقرأ أحاديث السعي في الإصلاح بين الناس لا يملك إلا أن يجتهد في هذا (العمل العظيم)؛ بل الله -عز وجل- أمر المسلمين أن يصلحوا بين المتخاصمين؛ فقال -عز وجل-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال:1).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم»، أي لا مساغ للناس سوى التقوى والإصلاح؛ فالمؤمن مطالب قدر جهده أن يصلح بين المتخاصمين سواء كانوا جيرانا، أو أقارب، أو أزواجا، أو أبناء.
هذه سمة عامة بين المسلمين، وهي السعي في الإصلاح بين الناس؛ فهي عبادة عظيمة، إن صدقت النية. في الحديث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن إفساد ذات البين الحالقة» (صحيح الترغيب)، وفي رواية: «لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» (صحيح لغيره).
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: «ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى، قال - صلى الله عليه وسلم -: صل بين الناس إذا تفاسدوا، وقرب بينهم إذا تباعدوا» (صحيح الترغيب)، وفي رواية: «ألا أدلك على عمل يرضاه الله ورسوله؟ قال: بلى، فذكره».
- جزاك الله خيرا على سعيك، دعني أشاركك الأجر، وأجمع بينهما في بيتي في الأيام المقبلة، ولكن دعنا نمهد لذلك، فنخبر أبا محمد أن أبا خالد نادم على ما قال: ونخبر أبا خالد أن أبا محمد يذكره بخير، حتى نلين القلوب وتذهب البغضاء. - ذكرتني بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن أم كلثوم بنت عقبة امرأة عبدالرحمن بن عوف وأخت عثمان بن عفان لأمه -رضي الله عنهم- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، أو يقول خيرا » (صحيح الأدب المفرد).
(فينمى)، نقل الحديث بين الناس وبلغه، ومنه النميمة التي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- الأحاديث في الإصلاح بين الناس كثيرة، ويتأكد الإصلاح كلما كانت العلاقة أقرب، كالإصلاح بين الأب وابنه والزوج والزوجة، والأخ وأخيه، والجار وجاره، وهكذا.
- بل وآيات الكتاب تدعو إلى الإصلاح وتنهى عن الإفساد كما في قوله -تعالى-: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:١١٤).
أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح ، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بأنواعه.
ثم استثنى -تعالى- فقال: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» الحديث.
{أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر؛ وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر، وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي. {أَوْ إِصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ} والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشرع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} وقال -تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية.
وقال -تعالى-: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
وكمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}؛ فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله -تعالى- ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ ليحصل له بذلك الأجر العظيم؛ وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا؛ لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل.
اعداد: د. أمير الحداد