إن الله يختار للإيمان من يشاء من عباده، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلحُّ على إسماع المشركين قراءته للقرآن في الحرم وفي الأسواق، وكلما التقى بهم أو سألوه شيئًا، ويجهد نفسه في دعوتهم إلى الإيمان بما كانوا يؤولونه محاولةً منه لإكراههم عليه؛ لذلك نهاه سبحانه وتعالى عن إجهاد نفسه من غير طائل؛ لأن طبيعة الإيمان لا تقبل أن يفرض على الناس، والاهتداء إليه من أمر الله ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وحكمتِه وإرادتِه واصطفائِه لخيار خلقه، لا سيما وحقيقته انعقادُ قلب المرء على الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإعلانُه ذلك بلسانه حرًّا مختارًا غير مكره، ثم امتثالُه لما يقتضيه من العمل بالأحكام العملية الشرعية الخمسة وجوبًا وندبًا وإباحةً وكراهةً وتحريمًا، وهو بذلك تصوُّر اعتقادي ينشأ بإذن الله في قلب المؤمن بدون إكراه يتبعه عمل بمقتضاه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وهو تعالى أعلم بالقلوب المؤهلة له، والقلوب منها ما يحتفظ بفطرته السليمة العاقلة المميزة، ومنها ما ختم عليها بما أتلفه أصحابها من فطرتهم، فاختلَّ تفكيرهم، وأظلمت نفوسهم، فلا تجهد نفسك يا محمد بأكثر مما لا تطيق وبما ليس بيدك، بلغهم آيات الله وحقائق الإيمان وأحكام الإسلام، ثم دَعْهُم بيد خالقهم، فإنه أعلم بهم، يعلم داءهم ودواءهم، ﴿ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ﴾، والرجس هو القَذَر والمستقذَر من كل شيء، والتصرف المستنكَر والمحرم من كل عمل، من الفعل "رجس"، فيقال: رجُس الرجل رجاسةً، ضد طهُرَ طهارةً؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]، والرجس في هذه الآية هو الرجز في التعبير القرآني مطلقًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ [الأعراف: 135]؛ ويعني شديد العذاب وسوء المصير، يجعله ﴿ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ الذين أفسدوا فطرتهم فاختلَّت عقولهم واستسلموا لأهوائهم.
ثم رده تعالى إلى صميم دعوته الإيمانية تبليغًا وبشارةً ونذارةً بقوله عز وجل: ﴿ قُلِ ﴾ يا محمد لمشركي قريش ﴿ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ من الآيات الدالة على الله تعالى خلقًا وتدبيرًا وتنميةً وتدميرًا وإحياءً وإماتةً ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ ﴾، ولكن هذه الآيات كلها ﴿ وَالنُّذُرُ ﴾ ومعها ما أنذر الله به عباده وحذرهم منه، وما ذكرهم به من مصائر الأقوام الكافرة، لا تعفي أحدًا أو تنجيه من عذاب الله إن كفر، كما لا تكفي أحدًا للتخلُّص من العقاب كلما كان القضاء والسؤال يوم القيامة ﴿ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ عن مآل قوم عطلوا عقولهم، وأفسدوا فطرتهم، وأصرُّوا على الشرك، فغضب الله عليهم عقابًا لهم وعدْلَ قضاءٍ فيهم، ثم بين تعالى حتمية هذا المآل منبهًا له ومحذرًا منه ومهددًا به بقوله: ﴿ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾؛ أي: إذا كان الأمر أيها الرسول مثلما قصصناه عليك من سنتنا في الذين ظلموا، فإن قومك لا ينتظرون في مستقبل أيامهم إلا مصير الأمم التي سبقتهم إلى الكفر، واستعصت مثلهم على الإيمان وضرب الله بهم مثلًا لهم في قوله تعالى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴾ [الفرقان: 37 - 39].
ثم ختم الوحي لهم القول الفصل متحديًا استعصاءهم بقوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد منذرًا ومهددًا: ﴿ فَانْتَظِرُوا ﴾ عقاب الله إن أصررتم وكفرتم ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ له واثقًا به وعلى بينة من وقوعه، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾، كما نجَّينا من قبل نوحًا ومن معه في السفينة وموسى وقومه من بطش فرعون وغيرهما من رسل الله وعباده الصالحين، وكما ننجي محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه من عدوانكم، وقد قرأ الجمهور: "نُنَجِّي المؤمنين" بفتح النون الثانية وتشديد الجيم، في حين قرأ الكسائي وحفص عن عاصم: "نُنْجِي المؤمنين" بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء والمعنى واحد، ﴿ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ كما هي سنتنا في إنجاء الرسل وأتباعهم من المؤمنين.
لقد كان لازمًا لتمام التبليغ والبشارة والنذارة وإقامة الحجة بعد هذه الآيات البينات والعبر البالغات والأحداث الثابتات التي عرضتها سورة يونس، وتوجتها بإعلان سنة الله الأبدية في نصرة المؤمنين، أنى كانوا وأينما وجدوا، من التذكير بأصل العقد الذي بمقتضاه ينجيهم الله تعالى، وتحديد القضية التي عليهم الوفاء بها إذ قال لهم: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، وهي القضية المركزية المصيرية في حياة الإنسان، قضية تعبيد العباد لخالقهم، وردهم عن عبادة المخلوقين؛ ولذلك أمر الحق تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب قومه مسلمهم تثبيتًا وتعليمًا، وكافرهم تبصرةً وإحياءً لقلوبهم بقوله: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ في مكة، وفي أي زمان أو مكان يبلغه النداء ﴿ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ﴾ الذي هو الإسلام، فإني لا أشك فيه، موقن به، لا أتزحزح عنه، ولا أتأثر بمحاولاتكم صرفي عنه ولا عن الدعوة إليه ﴿ فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ﴾ فلن أعبد من دون الله ما تعبدونه من الأصنام والأوثان والأرواح أو الجن أو الإنس أو الملائكة أو غير ذلك من الأوهام والخيالات ﴿ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ ﴾ وحده ﴿ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ بالموت، ثم يحاسبكم يوم القيامة، ﴿ وَأُمِرْتُ ﴾ وقد أمرني ربي ﴿ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ من زمرة المؤمنين المسلمين، معهم لا أفارق صفَّهم ولا أخذلهم، في السراء والضراء وحين البأس.
بهذا النداء الرباني اتضحت أول مفردة في الإسلام علمًا وعملًا في الدنيا وحسابًا وجزاء في الآخرة، وهي العبادة التي نفى النبي صلى الله عليه وسلم بادئ ذي بدء عن نفسه التوجه بها لغير الله، وجعلها خالصةً له سبحانه، لا غبش فيها لا غموض ولا لبس، تغطي علاقته بربِّه في كل أحواله.
والعبادة لغةً من فعل "عبد"، وله معنيان، أولهما: يدل على قوة وصلابة أو غضب شديد، فيقال: عبِد يعبَد، على وزن سلِم يسلَم، ومنه ما ذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال: "عبِدت فصمَتُّ؛ أي: غضبت فسكتُّ، وثانيهما: يدل على لين وذل، ومنه تعبيد الطرق؛ أي: جعلها لينةً يسهل السير فيها، والفعل منه: عبَد يعبُد، وعَبَدَ اللَّهَ يَعْبُدُه عِبادَةً: أطاعه وخضع له معتقدًا أنه ربُّه وخالقه ومن بيده الأمر كله، والعبادة بذلك هي فعل العبد بما يأمره به معبوده، و"العبد" مطلقًا في المفهوم الإسلامي هو الإِنسان، حُرًّا كَانَ أَو رَقِيقًا؛ لأنه مَرْبُوبٌ لله تعالى، وجميع ما في الكون عباد له سبحانه لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، ومنه العبودية، وتعني في الإسلام للمرء اليقين التام بأنه عبد لله، والتصور الواضح للخضوع الاختياري الرضائي والانقياد التام الناجز للمولى عز وجل، من اتصف بها هو العبد الحق لله تعالى، ومن تسمى بها فقد عرف قدره ولزمه ونال حُسْنى الدارين؛ لذلك لا يجوز أن يقول الرجل لغيره: عبدي أو أَمَتي، لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبدِي وَأمتِي، كلكُمْ عباد اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ))، كما لا يجوز أن يدعو المرء نفسه بغير ما سمَّاه الله به، وهو بذلك دائمًا، عبد الله وهو المسلم وهو المؤمن؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ الله))، كما يستحب أن يتسمَّى المرء أو يسمي ولده بما ينسبه لعبودية الله تعالى؛ لما رواه مسلم وغيره أنه قال: ((أحَبُّ الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن)).
ثم ثنَّى الحق تعالى بالمفردة الثانية التي لا تقبل بدون عبودية، ولا تقبل عبودية بدونها في التصور الإسلامي السليم، وهي الإيمان في قوله تعالى: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي مؤمنًا مع كل من آمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، منهم وفي صفهم مغنمًا ومغرمًا في الحياة وفي الممات.
ولفظ الإيمان من الفعل "أمن"، وهو من الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان كما قال ابن فارس في معجمه، أولهما: الأمانة ضد الخيانة، والثاني: التصديق من قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ﴾ [يوسف: 17]؛ أَيْ: بمُصَدِّقٍ لَنَا، والمؤمن بذلك هو من صدق بالله ربًّا وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا خاتمًا، وصدق بما أخبر به من الغيب بدون ريب أو تردُّد، وحيًا في القرآن وأحكامًا من السنة وأخبارًا عن الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15] وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15]، وفي حديث جبريل عليه السلام أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: (الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُؤْمِنٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَعَمْ)).
ثم توجَّه الوحي الكريم إلى تجلية العبادة إيمانًا بالقلب وعملًا بالجوارح، واقعًا حيًّا على الأرض وتطبيقًا عمليًّا في الحياة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ﴾؛ أي: انهض بنفسك وبكامل طاقتك للقيام بأحكام الدين والدعوة إليه ﴿ حَنِيفًا ﴾ من الحَنَف، وهو عيب في رجلي المرء بميل إحداهما إلى الأخرى من جهة الإبهام، وإقبال كل منهما على الأخرى، فيقال له: رَجُلٌ أَحْنَفُ، ورِجْلٌ حَنْفاءُ، ومنه ميل المرء أو إعراضه عن الشيء، أو عن الطريق، فيقال للمقبل على عبادة الله المعرض عن عبادة غيره: "حنيف"؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]؛ أي: معرضًا عن مِلَل اليهود والنصارى وعبادة الأوثان ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ الذين يشركون بالله في معتقداتهم أو عباداتهم، أو معاملاتهم، وبدأ بأبرز معالم الشرك في حياة المرء؛ وهي التوجُّه بالدعاء لغير الله، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ﴾ والدعاء لغةً هو الرغبة إلى الغير، وأن تُميل أحدًا إليك، أو تسأله شيئًا، بصوت أو بكلام أو إشارة، تصريحًا أو تعريضًا، وهو في كل الأحوال شبهة افتقار الداعي إلى المدعو، لجلب منفعة أو دفع مضرة، ولا جالب لمنفعة أو دافع لمضرة إلا الله؛ لذلك كان الدعاء عبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))، وقال: ((أفضل العبادة الدعاء))، وقال: ((إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء))، ثم زاد تعالى أمره بعدم دعوة ما لا ينفع ولا يضر بيانًا في سياق آخر فقال: ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، فنزَّه المؤمن عن دعاء غيره، وأمره ألا يدعو في جميع حالاته إلا الله، في حالات الضعف أو الافتقار أو الخوف أو المرض؛ لأنه سبحانه القوي الغني المؤمن القادر المقتدر، بيده مقاليد الدنيا والآخرة، ولأن الدعاء استغناء بالمدعو عن غيره فهو استغناء بدعاء الله عن دعاء غيره، وتمجيد لربه وثناء عليه واستعلاء به على غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، ولأنه من العبد تعهد بالصلاح والتزام بالإصلاح ونبذ للعدوان والظلم، فقد قال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55، 56]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه علي رضي الله عنه: (أكثر دعاء الأنبياء قبلي، ودعائي عشية عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير)، ثم حذر تعالى من مخالفة أمره بدعاء غيره فقال: ﴿ فَإِنْ فَعَلْتَ ﴾، فدعوت غير الله ﴿ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: فقد ظلمت نفسك بالافتئات على الله، ونسبة القدرة على النفع والضرر لغيره، ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ﴾ ابتلاءً واختبارًا، ﴿ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ﴾؛ لأنه سبحانه القادر على رفعه لا غيره ﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ تفضلًا وإنعامًا ﴿ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ فلا معترض على إرادته، ولا رادَّ لعطائه، ولا مانع لما حبا به عباده ﴿ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾؛ لأن مشيئته تعالى مطلقة، وهو الفعَّال لما يريد، النافع الضار، يبتلي بالخير والشر من يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ وفي كل أحوال عطائه ومنعه وأحوال عباده في تلقي عطائه ومعاناة بلائه يغفر ذنوبهم، ويرحم ضعفهم.
ثم توجَّ سبحانه وتعالى هذه المبادئ الأساسية في الإسلام عقيدةً وعملًا، تصورًا إيمانيًّا وسعيًا عمليًّا في الحياة بعنوانها العريض، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ قم يا محمد في الناس مشركين في مكة، وأجمعين في كل عصر إلى يوم القيامة وقل لهم: ﴿ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ قد أبلغتكم من الله الدين الحق تصورًا إيمانيًّا سليمًا وعبادة صحيحة وسعيًا في الأرض مأجورًا ﴿ فَمَنِ اهْتَدَى ﴾ للحق ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾؛ لأنه يجني ثماره سعادةً في الدنيا ونعيمًا في الآخرة ﴿ وَمَنْ ضَلَّ ﴾ عن الحق وأعرض عنه ﴿ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾؛ لأن وبال ضلاله راجع عليه ﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ لأجبركم على الهدى أو أحميكم من غضب الله وعقابه.
وختمت هذه السورة المباركة بالتوجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يثبته ربه سبحانه على الحق في مواجهة اعتراض المشركين ومحاولاتهم التشكيك فيما جاءهم به من الوحي؛ كما في مستهل هذه السورة المباركة بقوله تعالى: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ﴾ [يونس: 1، 2]، تمهيدًا لما يعدونه في الخفاء للتخلص منه صلى الله عليه وسلم بالقتل أو الاغتيال أو الحبس والاعتقال، وقد أرسل بعض أصحابه مهاجرين إلى الحبشة، وسأل ربه عز وجل الإذن بالهجرة إلى المدينة، فقال لهيطمئنه ويثبته: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ من الحق في القرآن ﴿ وَاصْبِرْ ﴾ على ما أصابك أو يصيبك من المشركين ﴿ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ في أمر دعوتك ومسار سعيك بين قومك ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ خير من يحكم في أمرك وأمر أُمَّتك والخلائق أجمعين.
[1] القُذَّةُ: هي الرِّيشةُ التي يُراشُ بها السَّهْمُ.