عرض مشاركة واحدة
  #603  
قديم 09-08-2025, 12:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي




حكم إعجاب المرء بنفسه عند اطلاع الناس على صالح عمله
السؤال ذكر الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: {الذين هم يراءون} [الماعون:6] أن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك، أن هذا لا يعد رياء، فما توضيح ذلك؟
الجواب هذا كلام صحيح ومعتبر؛ لأن الرياء يكون في ابتداء العمل، فيعمل من أجل أن يراه الناس، قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} [النساء:142] ، فهو ابتداء قبل التلبس بالفعل، وأثناء الفعل؛ لكن بعد الفراغ من الفعل تبقى مسألة التشوف والطلب والتحدث، فالأكمل ألا يتحدث بطاعته، وألا يطلع أحدا على طاعته.
وتبقى مسألة خفاء العمل، وخفاء العمل لا علاقة له بالعمل نفسه؛ لأنه إذا صلى وقام بطاعته على أتم الوجوه وأكملها فقد أصاب الموعود عليه شرعا لكن تبقى مسألة حبوط العمل بعد ثبوته، والحبوط قد يكون بغير الرياء، فقد يحبط عمل الإنسان -والعياذ بالله- بسبب ذنب.
فرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون -والعياذ بالله- سببا في حبوط العمل، ونسأل الله السلامة والعافية، وقد يحبط عمل الإنسان بعقوق والديه؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه، فيغضب على عبده فيحبط عمله، إلا أن هناك أمورا بين أنها من أسباب حبوط العمل والعياذ بالله.
وقد يكون العمل صالحا صحيحا، لكن إن اطلع الناس على عمله فأعجب باطلاعهم فإننا ننظر في ذلك، فإذا كان يحب ذلك ويقصده ولم يتيسر له أثناء العمل، وكان يحب حصول ذلك له فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- يعمل للناس، فيكون قادحا في إخلاصه وإرادته وجه الله عز وجل، ومؤثرا في عمله.
ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يتحرون في الأعمال الصالحة الصواب والسنة، فلا يعملون أي عمل إلا إذا كان عندهم حجة ودليل، ويخافون من الأعمال أن تكون على غير نهج الكتاب والسنة؛ لأن أهم شيء الصواب في العمل حيث يكون موافقا للكتاب وهدي السنة.
وبعد الصواب تأتي الآثار الطيبة والعواقب الحميدة؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا إذا كان صوابا، قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} [الكهف:110] ، ولا يحكم للعمل بالصلاح إلا إذا كان على وفق الكتاب وثبت بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان السلف الصالح يحملون هم الصواب أولا، ثم يحملون هم الإعانة على الصواب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسألك العزيمة على الرشد) ، فكم من صواب تعلمته، وكم من حق دللت عليه وأرشدت إليه، ولكن ما أعنت عليه، فقيام الليل من منا يجهل فضله وعظيم أجره لكن من منا يقوم وصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس وغيرها من الأعمال الصالحة من منا يعمل بها؟ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله المعونة على الرشد، ولذلك قال الله عن أهل الكهف: {وهيئ لنا من أمرنا رشدا} [الكهف:10] .
وبعد أن يوفق للصواب ويعان على القيام بالعمل، يحمل هم الإخلاص فيه، فلا يفعل ولا يقول شيئا إلا لأجل الله عز وجل، وأبغض شيء إليه أن أحدا يطلع على ما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه يعرف لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وفضل المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أن أكمل العمل وأطيبه ما كان خالصا لله عز وجل، ولا شيء أعظم في جلب الإخلاص من إخفاء الأعمال وسترها.
ولذلك كان السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في هذا، حتى ذكر الإمام الحسن البصري رحمه الله أن الرجل ربما جمع القرآن في قلبه عشرين سنة لا يشعر به أحد.
ولربما تجد الرجل من أصلح الناس وأكثرهم عبادة وقياما، ولا يمكن لأحد أن يطلع على ذلك، حتى لربما يسافر معه غيره وإذا به يترك قيام الليل أمامه حتى لا يشعر أحد بما بينه وبين الله عز وجل.
وهذه مرتبة لا يعطيها الله إلا لخاصة أحبابه وأصفيائه الذين يريد لهم إرادة وجه، وذاقوا لذة المعاملة مع الله سبحانه وتعالى.
فإذا وفق للإخلاص حمل هم القبول، ويعمل للقبول أسبابه التي منها ألا يعلم أحد عمله، فأبغض شيء إليه أن يطلع غيره على عمله، حتى إنه يضيق صدره ويحزن ويتألم إذا اطلع أحد على حسنة أخفاها فيما بينه وبين الله عز وجل.
ومما ذكر عن بعض الصالحين -وهؤلاء هم الأولياء الذين يضرب بهم المثل، ولم يكن الأولياء بجر السبح، ولا بإطالة الأكمام والعمائم، وإنما كانوا أولياء لله بحق- أنه قال: صليت في المسجد الحرام صلاة الاستسقاء، فلم يفت الناس، حتى إذا انتصف النهار -وإني لجالس بالمسجد مضطجع- فإذا برجل مولى أسود دخل المسجد، فركع وسجد، وكان يظنني نائما، فسمعته يقول في سجوده: اللهم إن بعبادك وبلادك وبهائمك من الجهد والبلاء ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أغث العباد والبلاد.
اللهم أغث العباد والبلاد.
اللهم أغث العباد والبلاد.
فلما تشهد إذا بالسحابة تنتصف السماء ويمطر الناس، قال: فعظم عندي الرجل، فتبعته، فدخل إلى أشبه ما يكون بالرباط فتبعته، فلما جلس واستقر سلمت عليه وقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: وما شأنك بي؟ قلت: إنه لم يخف علي مكانك بالمسجد.
قال: أو قد اطلعت على ذلك؟ قال: نعم.
قال: أمهلني وأنظرني، فصلى وسجد، وقال: اللهم انكشف ما بيني وبينك، فاقبضني إليك غير مفتون.
قال: والله ما رفعته إلا ميتا.
فكانوا يخافون من ظهور أعمالهم حتى كان من أمرهم ما ذكر، وأويس القرني رحمه الله لما اكتشف أمره غاب عن الناس، وبسبب أنك تخفي ما بينك وبين الله من الأسرار والأعمال الصالحة يورثك الله بذلك حب العباد، ويضع لك بذلك القبول في السماء وفي الأرض.
ولذلك كانوا يقولون: إن العبد يستوجب من الله محبة خلقه على قدر ما بينه وبين الله من الخوف، وكان الإمام مالك رحمه الله مهابا، فإذا جلس لا يستطيع أحد أن يتكلم في المجلس، وإذا سأله السائل لا يستطيع أن يعيد سؤاله مما ألقى الله عليه من الهيبة، كما قيل: يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان يقول محمد بن الحسن: جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد -ثلاثة خلفاء من المحيط إلى المحيط سادوا الدنيا- فوالله ما هبتهم كهيبتي لما جلست بين يدي مالك.
يقول سحنون رحمه الله: ولا نظن ذلك إلا بشيء بين مالك وبين الله، فإنك تعامل؟ تعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فماذا تريد منه اطلاع الناس على صلاتك وزكاتك؟ وماذا تريد عند الناس؟ لو أن الناس مدحوك اليوم ذموك غدا، وكم من عبد تقي نقي أخوف ما عنده وأكره أن يشعر الناس به؛ لأنه يعلم أنه لا أمن له إلا عند الله، ولا عز له إلا من الله، ولا كرامة له إلا من الله، فماذا نريد عند الناس؟ قال تعالى: {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان:9] .
فأبغض شيء إليه أن يأتي أحد من الناس يثني عليه أو يظن به خيرا؛ لأنه يريد الشيء بينه وبين الله، فالذي للآخرة للآخرة، والذي للدنيا للدنيا، وأمور العبادة والطاعة ينبغي للإنسان دائما أن يخفيها فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يطلع عليها أحدا، والمحروم من حرم، فإذا أراد الله أن يخذل عبده -نسأل الله السلامة والعافية- صرف قلبه إلى الدنيا، وتنصرف شعب القلب إلى الدنيا، حتى إن طالب العلم تنصرف شعب قلبه بمدح الناس له والثناء عليه والإشادة به، وبموقفه في الملأ ومحبته للاستشراف ومحبته للظهور، وهي والله قاصمة الظهر والعياذ بالله.
فتؤخذ شعب القلب شعبة شعبة للدنيا لا للآخرة، وتؤخذ لغير الله لا لله، فتؤخذ شعبة شعبة، وتنقض كالبيت يهدم لبنة لبنة، حتى يمسي ويصبح وليس في قلبه مثقال ذرة -والعياذ بالله- من الإيمان، وعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
وعندها -نسأل الله السلامة والعافية- يمقته الله مقتا فتجمع القلوب على كراهيته، والنفوس على النفور منه، ولو كان أعبد الناس لسانا، ولو كان أصبحهم وجها وأحياهم منطقا فإن الله يمقته.
فالعبد يعامل الله لا يعامل أحدا سواه، وكم من إنسان أحب الناس فمدحوه، واستدرجه الله عز وجل، واجتمعت له القلوب، واجتمع له الناس، فجاء يوم ذم فيه بمذمة واحدة فانتشرت في الناس، فسبوه كما مدحوه، ووضعوه كما رفعوه، وأذلوه كما أعزوه، وأهانوه كما أكرموه، فتمنى أنه لم يعرفه أحد.
فلا يلتفت الإنسان إلى الناس، وسلامة العبد فيما بينه وبين الله أن يفر من الله إلى الله لا إلى الناس، وأن يفر إلى الخالق لا إلى المخلوق، فلا يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه كما قال تعالى: {يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} [الحج:13] .
فالله يناديك ويدعوك أن تكون معه، أن تكون له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56] ، فتعبده بالإخلاص وتعمل الطاعة لله، فتتعلم وتتصدق وتركع وتسجد وتصلي لله وحده.
فالواجب على المسلم دائما أن يوطن نفسه لإرادة وجه الله، وما أطيب العيش ولن يطيب إلا بالله، وما أطيب الحياة وما أسعدها ولا يمكن أن تكون سعيدة طيبة إلا بالله، قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [النحل:97] فمضى: (وهو مؤمن) موحد مخلص يريد وجه الله سبحانه وتعالى، أي: والله لنحيينه حياة طيبة، وإذا وعد الله بالحياة الطيبة فإن الله لا يخلف الميعاد، ولا شك أن العبد إذا بلغ هذه المرتبة التي يقول فيها لله، ويعمل فيها لله، ويتمنى فيها أن عمله فيما بينه وبين الله لا يراه أحد، ولا يشعر به أحد، ولا يحس به أحد أدرك هذا الأجر، وإني لأعرف علماء كانوا قوامين بالليل صوامين النهار، حتى إن الواحد منهم إذا أصبح تجده مع الناس لبساطته وتواضعه، ولا تشعر أنه ذاك العابد الصالح، وكله من الخفاء.
وتجد الواحد منهم يجلس في خلوته فيبكي ويتفطر قلبه من خ
حكم الدعاء في صلاة الوتر بغير العربية
السؤال هل يجوز الدعاء في صلاة الوتر بغير اللغة العربية؟
الجواب الدعاء في الصلاة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله، فبعض العلماء يقول: إنه لا يجوز إلا بالعربية، ومنهم من يقول: يجوز أن يدعو بغير العربية.
والصحيح أن الدعاء ما كان منه توقيفي كالأذكار من التحيات ونحوها، والتمجيد الذي ورد به النص بعينه، كالتكبيرات والتسميع ونحوه فهذا يتقيد فيه باللغة العربية، وأما الأدعية فإنه يجوز أن تكون باللسان العربي، وبغير اللسان العربي إلا أنه ينبغي للشخص ألا يدعو بغير اللسان العربي، إلا إذا كان لا يعرف اللغة العربية.
والله تعالى أعلم.
كيفية الجمع بين العلم وبين التوسعة على النفس والأهل
السؤال من توفيق الله للعبد أن يشغله بطاعته عند فراغه وإجازته، خاصة بالانكباب على العلم وتحصيله، ولكن تواجه طالب العلم مشكلة، وهي أن الأهل والأبناء يريدون منه ما يريدون من التوسعة أو كثرة الأسفار، فكيف يوفق في هذا الأمر؟
الجواب لاشك أن من أعظم نعم الله عز وجل على طالب العلم أن يسيطر على بيته، وأن يهيئ له أسرة تعينه على طلب العلم، فيجمع بين مرضاة الله سبحانه وتعالى في طلبه للعلم ومرضاته سبحانه وتعالى في إدخال السرور على الأهل والتوسعة عليهم، شريطة ألا يتوسع في هذا الأمر على حساب ما هو آكد وأهم.
فطالب العلم يرتب وضعه، فإذا كانت هناك إجازة صرفها لما هو أهم، خاصة أن الأمة الآن محتاجة إلى طلاب العلم، وفرضية طلب العلم في هذا الزمان آكد من غيره؛ لأنه كلما تأخر الزمان كلما اشتدت الحاجة، وانقراض العلماء وضعفهم وحصول المشاغل لبعضهم يحتم المسئولية أكثر على طلاب العلم، فيجعل الواجب عليهم آكد.
فلا شك أن طلاب العلم معنيون بهذا، ويجب عليهم أن يشتغلوا بطلب العلم، وألا يفرطوا في أي وقت يستطيعون أن يستنفذوه في طلب العلم، والاقتراب من العلماء، والحرص على الدروس المؤقتة أو غير المؤقتة، وعدم التفريط فيها.
وكان الوالد رحمه الله إذا قلت له: أستأذنك من أجل أن أذهب لغرض يقول لي: يا بني! لا أستطيع أن آذن لك وألقى الله سبحانه وتعالى بإذني لك أن تترك كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في نفسي لا أغضب عليك؛ لأني أعرفك أنك تحفظ، وأنت عندك عذر، ولكن بيني وبين الله لا أتحمل المسئولية.
وطالب العلم إذا طلب العلم عند شيخ عنده مكنه من درس خاص أو عام فهو مسئول أمام الله عز وجل عن كل ثانية، فضلا عن دقيقة أو عن ساعة، وستسأل عنها أمام الله عز وجل، وكل درس يهيأ لك تتخلف عنه ستحاسب عنه بين يدي الله عز وجل.
وقد يوجد طالب علم ربما يكون هو الوحيد في قريته أو حيه أو حارته يتفرغ لقراءة العقيدة أو الحديث أو الفقه، وفي الساعة التي ينام أو يغيب أو يتأخر فيها عن مجلس العلم ربما تطرح مسألة، وتنزل هذه المسألة بقومه وجماعته فلا يفتيهم، فيقف بين يدي الله مسئولا عنها.
فهذه مسئولية وليس بالأمر السهل، وهذا شيء جعل الله عز وجل فيه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) ، فهذا الأمر يجعل طالب العلم في رحمة الله عز وجل.
فأوصي أهل طالب العلم من زوجة وابن وبنت وأخ وأخت وأب وأم أن يعينوا طالب العلم على مسئوليته، وأن يعينوه على القيام بأمانته، وألا يفرط في أي مجلس من مجالس العلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وكنا نجلس المجلس مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ممن نعرفهم فنأخذ من سمته ما يعيننا على طاعة الله عز وجل قبل أن يتكلم.
وهذه أشياء فيها البركة والخير وفيها النفع، فمن جاء من أهل العلم أو من طلاب العلم يريد أن يطلب العلم ويلتصق بصفوة خلق الله عز وجل حملة الكتاب والسنة فقد أعطي شيئا لا نظير له.
ودعك من الدنيا، وما تسمع وما ترى من لهوها فزائل حائل، وانظر إلى أعز الناس في الدنيا من التجار والأغنياء يذهبون إذا ذهبت تجارتهم، ويذهبون بانتهاء أعمالهم، ولكن أهل العلم أبدا لا يذهبون، فهم وباقون في نفوس الناس وقلوبهم، باقون في أعمالهم وعباداتهم؛ لأنه لا يصلي ولا يعمل إلا إذا تعلم على يدي هؤلاء العلماء.
فهم أمناء الله على الوحي، وهذه المنزلة الكريمة عليك أن تهيئ نفسك لها؛ لتنال من فضل الله العظيم الذي ليس هناك فضل بعد النبوة أفضل منه، وهو مقام العلم والعمل.
فعلى طالب العلم أن يستشعر أنه لا يمكن أن يفرط في هذه المسئولية وهذه الأمانة على حساب أي شيء كائنا ما كان.
ومن العجيب والغريب إن ملاذ الدنيا وشهواتها وملهياتها -ولا نقول هذا تزكية لأنفسنا، ولا نزكي أنفسنا على الله، لكن نقولها تمجيدا للرب سبحانه وتعالى، وبيانا لعظيم وفائه وكرمه- عرضت علينا لتحول بيننا وبين شيء من العلم، فتركناها لله فوجدنا من الله في حسن الخلف والعوض ما لم يخطر لنا على بال.
وهذا شيء نشهد به لله عز وجل، في أمورنا الخاصة، وفي أمورنا مع عامة الناس، وفي أمورنا المالية، وفي الأمور الاجتماعية، فما كان طالب العلم يظن أنه إذا ضحى لهذا العلم أن الله سيخلفه أبدا.
ولكن قال الله: إني معكم.
فأنت معك أشرف شيء وأعظم شيء، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيا لها من نعمة عظيمة، لكن طالب العلم بحق الذي يقرأ العلم قبل مجلس العلم، ويقرأه في مجلس العلم، ويرجع إلى بيته فينكب على العلم يقرأه قائما وقاعدا، ويتفكر فيه جالسا وراقدا، يجد كيف يفي الله عز وجل له، فإذا وفى لله كاملا وفى الله له كاملا.
فنقول: إذا اعترضت طالب العلم الأمور التي تتعلق بالأهل والأصحاب والأحباب وغيرها من الملهيات فعليه أن يحاول قدر المستطاع أن يصرفها بالتي هي أحسن، وبطريقة لا تشوش عليه؛ لأن الأهل لهم حق، والصديق له حق، والرفيق له حق.
لكن إذا أمكنك جعل الأهل يذهبون إلى نزهة مع أكبر الأولاد فأعطهم مجالا ليذهبوا وتتفرغ أنت لطلب العلم، أو تذهب معهم ساعة أو ساعتين ثم ترجع، أو تذهب معهم وترتب أوقاتا لا تتعارض مع أوقات تحصيلك ولا أوقات مراجعتك، فتنظم نفسك تنظيما صحيحا وترتب نفسك ترتيبا كاملا، ولكن إياك وأي شهوة أو لذة أو سكرة من سكرات هذه الدنيا تأتيك فتنصرف عن العلم من أجلها، فهي ليست أعز من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن يكون عندك هذا الشعور.
وإذا استغنى العبد عن ربه فإنه حينئذ يكون كما قال تعالى: {وتولوا واستغنى الله} [التغابن:6] ، وكما قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] نسأل الله العافية، فيزيغ الإنسان عن الكمالات وعن المراتب العلى حينما يعتقد أن شيئا أفضل مما عند الله عز وجل.
ولا أعتقد في قرارة قلبي أن أحدا أعز من طلاب العلم في بيت من بيوت الله إلا أحدا يعمل عملا صالحا أفضل مما هم فيه، فلا أشرف من العلم ولا أفضل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ... ) ، فالملائكة تتنزل، وانظر إلى شرف العلم وفضله، فإنه إذا كان يوم الجمعة جلست الملائكة على الأبواب وكتبوا المصلين والسابقين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس الخطيب) -أي: جلس على المنبر- طووا الصحف وأنصتوا للخطبة)، وما قال: انصرفوا.
فانظر إلى شرف العلم وفضله عندهم، فالعلم مقامه كبير ومنزلته عظيمة، ويبارك الله به في وقتك ويبارك به في عمرك، وتكفى ما أهمك، وهذا الفضل لا يدانيه السرور مع الأصحاب.
ومما أعرفه أ، بعض طلاب العلم كان في أثناء طلبه للعلم يأتيه الأصحاب بأنواع الشهوات والملهيات، وكان أبي رحمه الله يثبته على طلب العلم، ويقول له: يا بني اصبر، وسيأتي اليوم الذي تحب أن تراه.
وذهبت الأيام وتتابعت، فذاق أولئك من ملذات الدنيا وشهواتها وملهياتها، ثم لم يمت حتى رآهم يأتونه يسألونه عن العلم.
فأولئك الذين كانوا في عزهم وكرامتهم، وكانوا في نعمة ورغد من العيش يرجعون إليه، فما تركت شيئا لهذا العلم إلا أبدلك الله خيرا منه وأفضل منه وأكثر بركة، ولو كنت مرقع الثياب حافي القدم فأنت أغنى الناس بالعلم.
فلا تفرط في هذا العلم لأي شيء، لكن لا يمنع أنك تجعل لأهلك وقتا.
فالتوسعة على الأهل أمر مطلوب؛ لأن الأهل إذا ارتاحوا مكنه ذلك من العلم وفرغ قلبه أكثر؛ لإنه أعطاهم حظهم من الدنيا وسرورها ولذاتها.
فالواجب على طالب العلم أن يرتب وقته، ويدخل السرور على أهله وولده ويلاطفهم، وأي شيء فيه إحسان إلى الولد فإنه مكتوب أجره، وهذا من رحمة الوالد بولده، حتى إن القبلة من الوالد لولده يؤجر عليها إذا قصد بها وجه الله وقصد بها رحمة.
فعلى كل حال نوصي طلاب العلم أن يحسنوا إلى أهليهم وزوجاتهم، لكن بشرط ألا يكون على حساب العلم، وألا يتوسع أكثر من اللازم، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمحن، وعلى كل امرأة وزوجة أن تصبر وتحتسب إذا رزقها الله طالب علم يفرغ لحمل هذه الأمانة والقيام بهذه الرسالة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.45 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.84%)]