
14-07-2025, 04:31 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ التكوير
من صــ 221 الى صــ230
الحلقة (748)
قوله تعالى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} قراءة العامة "إناء" بالكسر ، على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون ورويس عن يعقوب "أنا" بفتح الهمزة ، فـ "أنا" في موضع خفض على الترجمة عن الطعام ، فهو بدل منه ؛ كأنه قال : "فلينظر الإنسان إلى طعامه" إلى "أنا صببنا" فلا يحسن الوقف على "طعامه" من هذه القراءة. وكذلك إن رفعت "أنا" بإضمار هو أنا صببنا ؛ لأنها في حال رفعها مترجمة عن الطعام. وقيل : المعنى : لأنا صببنا الماء ، فأخرجنا به الطعام ، أي كذلك كان. وقرأ الحسين بن علي "أني" فقال ، بمعنى كيف ؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال : الوقف على "طعامه" تام. ويقال : معنى "أني" أين ، إلا أن فيها كناية عن الوجوه ؛ وتأويلها : من أي وجه صببنا الماء ؛ قال الكميت :
أني ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
"صببنا الماء صبا" : يعني الغيث والأمطار. {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} أي بالنبات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} أي قمحا وشعيرا وسلتا وسائر ما يقصد ويدخر {وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القت والعلف ، عن الحسن : سمو ، بذلك لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة. قال القتبي وثعلب : وأهل مكة يسمون القت القضب. وقال ابن عباس : هو الرطب لأنه يقضب من النخل : ولأنه ذكر العنب قبله. وعنه أيضا : أنه الفصفصة وهو القت الرطب. وقال الخليل : القضب الفِصْفِصْة الرطبة. وقيل : بالسين ، فإذا يبست فهو قت. قال : والقضب : اسم يقع على ما يقضب من أغصان الشجرة ، ليتخذ منها سهام أو قسي. ويقال : قضبا ، يعني جميع ما يقضب ، مثل القت والكراث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصلها. وفي الصحاح : والقضة والقضب الرطبة ، وهي الإسفست بالفارسية ، والموضع الذي ينبت فيه مقضبة. {وَزَيْتُوناً} وهي شجرة الزيتون {وَنَخْلاً} يعني النخيل {وَحَدَائِقَ} أي
بساتين وأحدها حديقة. قال الكلبي : وكل شيء أحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حداقة ، وما لم يحط عليه فليس بحديقة. {غُلْباً} عظاما شجرها ؛ يقال : شجرة غلباء ، ويقال للأسد : الأغلب ؛ لأنه مصمت العنق ، لا يلتفت إلا جميعا ؛ قال العجاج :
ما زلت يوم البين ألوي صَلَبي ... والرأس حتى صرت مثل الأغلب
ورجل أغلب بين الغلب إذا كان غليظ الرقبة. والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب فاستعير ؛ قال قال عمرو بن معدي كرب :
يمشي بها غُلب الرقاب كأنهم ... بزل كُسِين من الكحيل جِلالا
وحديقة غلباء : ملتفة وحدائق غلب. وأغلولب العشب : بلغ وألتف البعض بالبعض.
قال ابن عباس : الغلب : جمع أغلب وغلباء وهي الغلاظ. وعنه أيضا الطوال. قتادة وابن زيد : الغلب : النخل الكرام. وعن ابن زيد أيضا وعكرمة : عظام الأوساط والجذوع. مجاهد : ملتفة. {وَفَاكِهَةً} أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ وغيرهما {وَأَبّاً} هو ما تأكله البهائم من العشب ، قال ابن عباس والحسن : الأب : كل ما أنبتت الأرض ، مما لا يأكله الناس ، ما يأكله الآدميون هو الحصيد ؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا
وقيل : إنما سمي أبا ؛ لأنه يؤب أي يوم وينتجع. والأب والأم : أخوان ؛ قال :
جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب به والمكرع
وقال الضحاك : والأب : كل شيء ينبت على وجه الأرض. وكذا قال أبو رزين : هو النبات. يدل عليه قول ابن عباس قال : الأب : ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام.
وعن ابن عباس أيضا وابن أبي طلحة : الأب : الثمار الرطبة. وقال الضحاك : هو التين خاصة. وهو محكي عن ابن عباس أيضا ؛ قال الشاعر :
فما لهم مرتع للسوا ... م والأب عندهم يقدر
الكلبي : هو كل نبات سوى الفاكهة. وقيل : الفاكهة : رطب الثمار ، والأب يابسها.
وقال إبراهيم التيمي : سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت : في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأب ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب ؟ ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع ، فاسجدوا لله على سبع" . وإنما أراد بقول : "خلقتم من سبع" يعني {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} الآية ، والرزق من سبع ، وهو قوله تعالى : {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} إلى قوله : "وفاكهة" ثم قال : "وأبا" وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم ، وأنه مما تختص به البهائم. والله أعلم. {مَتَاعاً لَكُمْ} نصب على المصدر المؤكد ، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات. وهذا ضرب مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم ، كنبات الزرع بعد دثوره ، كما تقدم بيانه في غير موضع. ويتضمن آمتنانا عليهم بما أنعم به ، وقد مضى في غير موضع أيضا.
33- {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} .
34- {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}
35- {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} .
36- {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} .
37- {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .
38- {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} .
39- {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} .
40- {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} .
41- {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} .
42- {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}
قوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة ، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة : الصيحة التي تكون عنها القيامة ، وهي النفخة الثانية ، تصخ الأسماع : أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا : تصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصاخ إلى كذا : أي استمع إليه ، ومنه الحديث : "ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس" . وقال الشاعر :
يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء : وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء ، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول ، قال الخليل : الصاخة : صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة : الصك الشديد. وقيل : هي مأخوذة من صخه بالحجر : إذا صكه قال الراجز :
يا جارتي هل لك أن تجالدي ... جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب : صختهم الصاخة وباتتهم البائتة ، وهي الداهية. الطبري : وأحسبه من صخ فلان فلانا : إذا أصماه. قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم ، وإنها لمسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة ، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان :
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال آخر :
أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بسر يورث الصمما
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا ، وتسمع أمور الآخرة.
قوله تعالى : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} أي يهرب ، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه ؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته ؛ لأنه لا يتفرغ لذلك ، لاشتغاله بنفسه ؛ كما قال بعده : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره. وقيل : إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه ، لما بينهم من التبعات. وقيل : لئلا يروا ما هو
فيه من الشدة. وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ؛ كما قال : {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً} . وقال عبدالله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم ، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال : يفر قابيل من أخيه هابيل ، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه ، وإبراهيم عليه السلام من أبيه ، ونوح عليه السلام من ابنه ، ولوط من امرأته ، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من ، أبيه : إبراهيم ، وأول من يفر من ابنه نوح ؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول : "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت ، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : "يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" . خرجه الترمذي. عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يحشرون حفاة عراة غرلا" فقالت امرأة : أينظر بعضنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : "يا فلانة" "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" . قال : حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة ؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد "يعنيه" بفتح الياء ، وعين غير معجمة ؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي : يعنيه : يصرفه ويصده عن قرابته ، ومنه يقال : أعن عني وجهك : أي أصرفه واعن عن السفيه ؛ قال خفاف :
سيعنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل
قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي مشرقة مضيئة ، قد علمت مالها من الفوز والنعيم ، وهي وجوه المؤمنين. "ضَاحِكَةٌ" أي مسرورة فرحة. "مُسْتَبْشِرَةٌ" : أي بما
آتاها الله من الكرامة. وقال عطاء الخراساني : "مسفرة" من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه. ذكره أبو نعيم. الضحاك : من آثار الوضوء. ابن عباس : من قيام الليل ؛ لما روي في الحديث : "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" يقال : أسفر الصبح إذا أضاء. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار ودخان {تَرْهَقُهَا} أي تغشاها {قَتَرَةٌ} أي كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضا : ذلة وشدة. والقتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة ، عن أبي عبيد ؛ وأنشد الفرزدق :
متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا
وفي الخبر : إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار. وقال زيد بن أسلم ، القترة : ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض ، والغبار والغبرة : واحد. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ} جمع كافر {الْفَجَرَةُ} جمع فاجر ، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى. وقيل : الفاسق ؛ [يقال] : فجر فجورا : أي فسق ، وفجر : أي كذب. وأصله : الميل ، والفاجر : المائل. وقد مضى بيانه والكلام فيه. والحمد لله وحده.
سورة التكوير مكية في قول الجميع. وهي تسع وعشرون آية
وفي الترمذي : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سره أن ينظر إلي يوم القيامة" كأنه رأي عين "فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت" . قال : هذا حديث حسن [غريب] .
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1- {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} . 2- {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} .
3- {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} . 4- {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} .
5- {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} . 6- {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} .
7- {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} . 8- {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} .
9- {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . 10- {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} .
11- {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} . 12- {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} .
13- {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} . 14 - {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .
قوله تعالى : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قال ابن عباس : تكويرها : إدخالها في العرش. والحسن : ذهاب ضوئها. وقاله قتادة ومجاهد : وروي عن ابن عباس أيضا. سعيد بن جبير : عورت. أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة ، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خيثم : "كورت رمي بها ؛ ومنه : كورته فتكور ؛ أي سقط."
قلت : وأصل التكوير : الجمع ، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمعها فهي تكور ويمحى ضوءها ، ثم يرمى بها في البحر. والله أعلم. وعن أبي صالح : كورت : نكست. {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أي تهافتت وتناثرت. وقال أبو عبيدة : أنصبت كما تنصب العقاب إذا انكسرت. قال العجاج يصف صقرا :
أبصر خربان فضاء فانكدر ... تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يبقى في السماء يومئذ نجم إلا سقط في الأرض ، حتى يفزع أهل الأرض السابعة مما لقيت وأصاب العليا" ، يعني الأرض. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : تساقطت ؛ وذلك أنها قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور ، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور ، فإذا جاءت النفخة الأولى مات ، من في الأرض ومن في السموات ، فتناثرت تلك الكواكب وتساقطت السلاسل من أيدي الملائكة ؛ لأنه مات من كان يمسكها. ويحتمل أن يكون انكدارها طمس آثارها. وسميت النجوم نجوما لظهورها في السماء بضوئها. وعن ابن عباس أيضا : انكدرت تغيرت فلم يبق لها ضوء لزوالها عن أماكنها. والمعنى متقارب.
قوله تعالى : {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} يعني قلعت من الأرض ، وسيرت في الهواء ؛ وهو مثل قوله تعالى : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} . وقيل : سيرها تحولها عن منزلة الحجارة ، فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا وتكون كالعهن ، وتكون هباء منثورا ، وتكون سرابا ، مثل السراب الذي ليس بشيء. وعادت الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمنا. وقد تقدم في غير موضع والحمد لله. {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي النوق الحوامل التي في بطونها أولادها ؛ الواحدة عشراء أو التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وبعدما تضع أيضا. ومن عادة العرب أن يسموا الشيء باسمه المتقدم وإن كان قد جاوز ذلك ؛ يقول الرجل لفرسه وقد قرح : هاتوا مهري وقربوا مهري ، ويسميه بمتقدم اسمه ؛ قال عنترة :
لا تذكري مهري وما أطمعته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
وقال أيضا :
وحملت مهري وسطها فمضاها
وإنما خص العشار بالذكر ؛ لأنها أعزما تكون على العرب ، وليس عطلها أهلها إلا حال القيامة. وهذا على وجه المثل ؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء ، ولكن أراد به المثل ؛ أن هول
يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه. وقيل : إنهم إذا قاموا من قبورهم ، وشاهد بعضهم بعضا ، ورأوا الوحوش والدواب محشورة ، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم ، لم يعبؤوا بها ، ولم يهمهم أمرها. وخوطبت العرب بأمر العشار ؛ لأن مالها وعيشها أكثره من الإبل. وروى الضحاك عن ابن عباس : عطلت : عطلها أهلها ، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الأعشى :
هو الواهب المائة المصطفا ... ة إما مخاضا وإما عشارا
وقال آخر :
ترى المرء مهجورا إذا قل ماله ... وبيت الغني يهدي له ويزار
وما ينفع الزوار مال مزورهم ... إذا سرحت شول له وعشار
يقال : ناقة عشراء ، وناقتان عشراوان ، نوق عشار وعشراوات ، يبدلون من همزة التأنيث واوا. وقد عشرت الناقة تعشبوا : أي صارت عشراء. وقيل : العشار : السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر ؛ والعرب تشبه السحاب بالحامل. وقيل : الديار تعطل فلا تسكن. وقيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والأول أشهر ، وعليه من الناس الأكثر. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي جمعت والحشر : الجمع. عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس : حشرها : موتها. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شيء : الموت غير الجن والإنس ، فإنهما يوافيان يوم القيامة. وعن ابن عباس أيضا قال : يحشر كل شيء حتى الذباب. قال ابن عباس : تحشر الوحوش غدا : أي تجمع حتى يقتص لبعضها من بعض ، فيقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها كوني ترابا فتموت. وهذا أصح مما رواه عنه عكرمة ، وقد بيناه في كتاب "التذكرة" مستوفى ، ومضى في سورة "الأنعام" بعضه. أي إن الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم. وقيل : عني بهذا أنها مع نفرتها اليوم من الناس وتنددها
في الصحاري ، تنضم غدا إلى الناس من أهوال ذلك اليوم. قال معناه أبي بن كعب. {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي ملئت من الماء ؛ والعرب تقول : سجرت الحوض أسجره سجرا : إذا ملأته ، وهو مسجور والمسجور والساجر في اللغة : الملآن. وروى الربيع بن خيثم : سجرت : فاضت وملئت. وقاله الكلبي ومقاتل والحسن والضحاك. قال ابن أبي زمنين : سجرت : حقيقته ملئت ، فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. وهو معنى قول الحسن. وقيل : أرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها ، حتى امتلأت. عن الضحاك ومجاهد : أي فجرت فصارت بحرا واحدا. القشيري : وذلك بأن يرفع الله الحاجز الذي ذكره في قوله تعالى : {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} ، فإذا رفع ذلك البرزخ تفجرت مياه البحار ، فعمت الأرض كلها ، وصارت البحار بحرا واحدا. وقيل : صارت بحرا واحدا من الحميم لأهل النار. وعن الحسن أيضا وقتادة وابن حيان : تيبس فلا يبقى من مائها قطرة. القشيري : وهو من سجرت التنور أسجره سجرا : إذا أحميته وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرطوبة وتسير الجبال حينئذ وتصير البحار والأرض كلها بساطا واحدا ، بأن يملأ مكان البحار بتراب الجبال. وقال النحاس : وقد تكون الأقوال متفقة ؛ يكون تيبس من الماء بعد أن يفيض ، بعضها إلى بعض ، فتقلب نارا. قلت : ثم سير الجبال حينئذ ، كما ذكر القشيري ، والله أعلم. وقال ابن زيد وشمر وعطية وسفيان ووهب وأبي وعلي بن أبي طالب وابن عباس في رواية الضحاك عنه : أوقدت فصارت نارا. قال ابن عباس : يكور الله الشمس والقمر والنجوم في البحر ، ثم يبعث الله عليها ريحا دبورا ، فتنفخه حتى يصير نارا. وكذا في بعض الحديث : "يأمر الله جل ثناؤه الشمس والقمر والنجوم فينتثرون في البحر ، ثم يبعث الله جل ثناؤه الدبور فيسجرها نارا ، فتلك نارا ، فتلك نار الله الكبرى ، التي يعذب بها الكفار" . قال القشيري : قيل في تفسير قول ابن عباس "سجرت" أوقدت ، يحتمل أن تكون جهنم في قعور من البحار ، فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا ، فإذا أنقضت الدنيا سجرت ، فصارت كلها نارا يدخلها الله أهلها. ويحتمل أن تكون تحت البحر نار ، ثم يوقد الله البحر كله فيصير نارا. وفي الخبر : البحر نار. في نار.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|