
07-07-2025, 04:25 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 161 الى صــ 170
الحلقة (535)
قال النحاس : استثناء من محذوف محال ؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ؛ وهذا ضد البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه. وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي ولا من ظلم ؛ قال :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال النحاس : وكون {إِلاَّ} بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام ، ومعنى {إِلاَّ} خلاف الواو ؛ لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول آخر : وهو أ يكون الاستثناء متصلا ؛ والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح : 2] ذكره المهدوي واختاره النحاس ؛ وقال : علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال : {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له. الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري. كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي. فإن قال قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به. وقال الحسن وابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس. قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب. قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ؛ أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه. وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر. وقد مضى هذا في {البقرة} .
قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة. وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 17] ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة. وإنما ابتلي من الغد لقوله : {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه فـ {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} [القصص : 19] فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ؛ جاء رجل يسعى فـ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص : 20] الآية. فخرج كما أخبر الله. فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ؛ فهو وإن قربه وبه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب.
قوله تعالى : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تقدم في {طه} . {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات. المهدوي : المعنى : {أَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فهما آيتان من تسع آيات. وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم. أي خرجت عاشر عشرة. فـ {ـفِي} بمعنى {مِنْ} لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها. وقال الأصمعي في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
في بمعنى من. وقيل : في بمعنى مع ؛ فالآيات عشرة منها اليد ، والتسع : الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس. وقد تقدم بيان جميعه. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه ، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعة الله ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة. قال الأخفش : ويجوز مبصرة وهو مصدر كما يقال : الولد مجبنة. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال : {بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا ، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى. وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين. و {ظُلْماً} و {عُلُوّاً} منصوبان على نعت مصدر محذوف ، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. والباء زائدة أي وجحدوها ؛ قال أبو عبيدة. {فَانْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي آخر أمر الكافرين الطاغين ، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه. الخطاب له والمراد غيره.
الآية : [15] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [16] {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} أي فهما ؛ قاله قتادة. وقيل : علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال : {وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء : 80] . وقيل : صنعة الكيمياء. وهو شاذ. وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض والزبور. وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة : 11] . وقد تقدم هذا في غير موضع.
قوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} قال الكلبي : كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه ، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء ؛ وقال ابن العربي ؛ قال : فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ؛ فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة ، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال ابن عطية : داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة ، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا ؛ وهذا نحو قوله : "العلماء ورثة الأنبياء" ويحتمل قوله عليه السلام : "إنا معشر الأنبياء لا نورث" أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم ، وإن كان فيهم من ورث ماله كـ "زكريا" على أشهر الأقوال فيه ؛ وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة ، والمراد أن ذلك فعل الأكثر. ومنه ما حكى سيبويه : إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف.
قلت : قد تقدم هذا المعنى في {مَرْيَمَ} وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام : "إنا معشر الأنبياء لا نورث" فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل. قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان. قال غيره : ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش ، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وورث أباه في الملك والنبوة ، وقام بعده بشريعته ، وكل نبي جاء بعه موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى ، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها. وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة. واليهود تقول ألف
وثلاثمائة واثنتان وستون سنة. وقيل : إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة. واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة ، وعاش نيفا وخمسين سنة.
قوله تعالى : {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله {علمنا منطق الطير} أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية : كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف ، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة ، وأظهرك على عدوك ، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية ؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع ؛ فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال ؛ وأذن له فانطلق. وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان : احذر يا هدهد! فقال : يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده ، فقال : هدهد ما هذا ؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال : ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر. وقال كعب. صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا. قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح عنده طاوس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : كما تدين تدان. وصاح عنده هدهد فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام ؛ ولذلك يقال للصرد الصوام ؛ روي عن أبي هريرة. وصاحت عنده طيطوى فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال. وصاحت خطافة عنده ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه ؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة ، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت ، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ} [الحشر : 21] إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة : 129] . وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه. وصاح قمري عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن. وقال كعب : وحدثهم سليمان ، فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشار ؛ والحدأة تقول : {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص : 88] . والقطاة تقول : من سكت سلم. والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه. والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس. والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده. والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : 5] . وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين" . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : "النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في البعد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة : 2] إلى آخرها فيقول : {الضَّالِّينَ} [الفاتحة : 7] ويمد بها صوته كما يمد القارئ. قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة ، لقوله : عُلِّمْنَا"
مَنْطِقَ الطَّيْرِ والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين. وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته ؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير. وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام ، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم ، وقد آتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات ، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا ، أنفع من كذا وأضر من كذا ؛ فما ظنك بالحيوان.
الآية : [17] {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}
فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ} {وَحُشِرَ} جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل : {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف : 47] واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام ؛ فيقال : كان معسكره مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية. ابن عطية : واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض ، وانقادت له المعمورة كلها. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون. قال قتادة : كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها. يقال : وزعته أوزعه وزعا أي كففته. والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم. روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما وقف وسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني
يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته : اظهري بي على أبي قبيس. قالت : فأشرفت به عليه فقال : ما ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا. قال : تلك الخيل. قالت : وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا. قال : ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر. وذكر تمام الخبر. ومن هذا قوله عليه السلام : "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزيل الرحمة وتجاوز الله عنه الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر" قيل : وما رأى يا رسول الله ؟ قال : "أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة" خرجه الموطأ. ومن هذا المعنى قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر :
ولما تلاقينا جرت من جفوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع
آخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل : هو من التوزيع بمعنى التفريق. والقوم أوزاع أي طوائف. وفي القصة : إن الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم ، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة.
الثانية- في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم. وقال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة. وقال الحسن أيضا : لابد للناس من وازع ؛ أي من سلطان يكفهم. وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن ؛ أي من الناس. قال ابن القاسم : قلت لمالك ما يزع ؟ قال : يكف. قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام ، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع
الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته. قال : فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق ، لا زيادة عليها ، ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن الظلمة خاسوا بها ، وقصروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نية ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ، فلم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا بالعدل ، وأخلصوا النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور.
الآية : [18] {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}
الآية : [19] {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}
فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} قال قتادة : ذكر لنا أنه واد بأرض الشام. وقال كعب : هو بالطائف {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} قال الشعبي : كان للنملة جناحان فصارت من الطير ، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه. وقد مضى هذا ويأتي. وقرأ سليمان التيمي بمكة : {نَمْلَةٌ} و {النَّمْلِ} بفتح النون وضم الميم. وعنه أيضا ضمهما جميعا. وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها. قال كعب : مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف ، فأتى على وادي النمل ، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم ؛ فنادت : {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} الآية. الزمخشري : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال ، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ؛ وقيل : كان اسمها طاخية. وقال السهيلي : ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام ، وقالوا اسمها حرميا ، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا ، ولا الآدميون يمكنهم تسمية
واحدة منهم باسم علم ، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض ، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها ، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت : إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ونحو هذا كثير ؛ فليس اسم النملة من هذا ؛ لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل ، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس ، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة ، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوه فله وجه ، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم ، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم. وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه. ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فقولها : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} التفاتة مؤمن. أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا. وقد قيل : إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها ؛ ولذلك أكد التبسم بقوله : {ضَاحِكاً} إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا ، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين. وتبسم الضحك إنما هو عن سرور ، ولا يسر نبي بأمر دنيا ؛ وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين. وقولها : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدين والعدل والرأفة. ونظير قول النملة في جند سليمان : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم : {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح : 25] . التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن. إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى ، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه ؛ لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء ؛ كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقرأ شهر بن حوشب : {مَسَكِنَكُمْ} بسكون السين على الإفراد. وفي مصحف أبي {مَسَكِنَكُنَّ لا يَحْطِمَنَّكُمْ} . وقرأ سليمان التيمي : {مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُنَّ} ذكره النحاس ؛ أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|