
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 151 الى صــ 160
الحلقة (534)
الخامسة- قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَرَاءُ} فيما علمت. ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيسى بن عمر ؛ قال أبو عبيد : كان الغالب عليه حب النصب ؛ قرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة : 38] و {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد : 4] و {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور : 1] . وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي : {يَتَّبِعُهُمُ} مخففا. الباقون {يَتَّبِعُهُمُ} . وقال الضحاك : تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت ؛ وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس ؛ وقد ذكرناه. وروى غضيف عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه" وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن إبليس رنة وجمع إليه ذريته ؛ فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر.
السادسة- قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} يقول : في كل لغو يخوضون ، ولا يتبعون سنن الحق ؛ لأن من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت ، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال. نزلت في عبدالله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبي الصلت. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} يقول : أكثرهم يكذبون ؛ أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه. وقيل : إنها نزلت في أبي عزة الجمحي حيث قال :
ألا أبلغا عني النبي محمدا ... بأنك حق والمليك حميد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ... تأوه مني أعظم وجلود
ثم استثنى شعر المؤمنين : حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق ؛ فقال : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وإنما يكون الانتصار بالحق ،
وبما حده الله عز وجل ، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وقال أبو الحسن المبرد. لما نزلت : {والشعراء} جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال : "اقرؤوا ما بعدها {إِلاِّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} - الآية - أنتم { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } أنتم" أي بالرد على المشركين. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات" فقال حسان لأبي سفيان :
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وإن أبي ووالدتي وعرضي ... عرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
وقال كعب يا رسول الله! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" . وقال كعب :
جاءت سخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا" . وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} منسوخ بقوله : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . قال المهدوي : وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم قال شريح سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل ؛ فالظالم ينتظر العقاب ، والمظلوم ينتظر النصرة. وقرأ ابن عباس : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} بالفاء والتاء ومعناهما واحد ذكره الثعلبي. ومعنى : {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون ؛ لأن مصيرهم إلى
النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا ؛ والله أعلم ؛ ذكره الماوردي. و {أَيُّ} منصوب بـ {يَنْقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ {سيعلم} لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون ؛ قال النحاس : وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.
تفسير سورة النمل
سورة النمل
مكية كلها في قول الجميع ، وهي ثلاث وتسعون آية وقيل أربع وتسعون آية :
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}
الآية : [2] {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
الآية : [4] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}
الآية : [5] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}
الآية : [6] {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}
قوله تعالى : {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} مضى الكلام في الحروف المقطعة في {البقرة} وغيرها. و {تِلْكَ} بمعنى هذه ؛ أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وذكر القرآن بلفظ المعرفة ، وقال : {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة ؛ كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن ، فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب ؛ لأنه ما يظهر بالكتابة ، ويظهر بالقراءة. وقد مضى
اشتقاقهما في {البقرة} . وقال في سورة الحجر : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر : 1] فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة ؛ وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة ، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده ؛ وقد تقدم.
قوله تعالى : {هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {هُدىً} في موضع نصب على الحال من الكتاب ؛ أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء ؛ أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة ؛ أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر {لِلْمُؤْمِنِينَ} ثم وصفهم فقال : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقد مضى بيانه.
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث. {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قيل : أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل : زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها. وقال الزجاج : جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي يترددون في أعمالهم الخبيثة ، وفي ضلالتهم. عن ابن عباس. أبو العالية : يتمادون. قتادة : يلعبون. الحسن : يتحيرون ؛ قال الراجز :
ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالحائرين العمه
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} وهو جهنم. {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} {فِي الآخِرَةِ} تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة ، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر.
قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} {لَدُنْ} بمعنى عند إلا أنها مبنية غير معربة ، لأنها لا تتمكن ، وفيها لغات ذكرت في {الكهف} . وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما في ذلك من لطائف حكمته ، ودقائق علمه.
الآية : [7] {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
الآية : [8] {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الآية : [9] {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
الآية : [10] {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}
الآية : [11] {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الآية : [12] {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
الآية : [13] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
الآية : [14] {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} {إِذْ} منصوب بمضمر وهو أذكر ؛ كأنه قال على أثر قوله. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله. {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتها من بعد. قال الحرث بن حلزة :
آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء
{سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوين {بِشِهَابٍ} . والباقون بغير تنوين على الإضافة ؛ أي بشعلة نار ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم : ولدار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ؛ يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين ، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء
فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه ، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع ، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها. و {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إضافة النوع والجنس ، كما تقول : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد وشبهه. والشهاب كل ذي نور ؛ نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ؛ فالمعنى بشهاب من قبس. يقال. أقبست قبسا ؛ والاسم قبس. كما تقول : قبضت قبضا. والاسم القبض. ومن قرأ : {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} جعله بدلا منه. المهدوي : أو صفة له ؛ لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة ، ويجوز أن يكون صفة ؛ فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس ؛ وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا. والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن. وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه. ولو قرئ بنصب قبس على البيان أو الحال كان أحسن. ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء ؛ لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا ، ومعناه يستدفئون من البرد. يقال : اصطلى يصطلي إذا استدفأ. قال الشاعر :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب. أبو عبيدة : الشهاب النار. قال أبو النجم :
كأنما كان شهابا واقدا ... أضاء ضوءا ثم صار خامدا
أحمد بن يحيى : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه ؛ وقول النحاس فيه حسن ، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء. وقال الشاعر :
في كفه صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبس
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور ؛ قال وهب بن منبه. فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة
إلا خضرة وحسنا ؛ فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ؛ فمالت إليه ؛ فخافها فتأخر عنها ؛ ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقد مضى هذا المعنى في {طه} . {نُودِيَ} أي ناداه الله ؛ كما قال : {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم : 52] . {أَنْ بُورِكَ} قال الزجاج : {أَنْ} في موضع نصب ؛ أي بأنه. قال : ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله. وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد {أَنْ بُورِكَت مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى. وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك. الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات. قال الشاعر :
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
الطبري : قال { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله. ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى ؛ أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ؛ لا أنه كان في وسطها. وقال السدي : كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ؛ أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ؛ قال : {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود : 73] . وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ؛ نادى الله موسى وهو في النور ؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ؛ وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف : 84]
لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل. وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته. وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة.
قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجة في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سحبات وجهه كل شيء أدركه بصره" ثم قرأ أبو عبيدة : {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أخرجه البيهقي أيضا. ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ؛ فقال : إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه "قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه. وقوله :" لو كشفها "يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها. قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ؛ حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء. وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ؛ فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة :" جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران ". فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلي الله عليه وسلم ، وفاران مكة. وسيأتي في {القصص} بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى."
قوله تعالى : {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تنزيها وتقديسا لله رب العالمين. وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} فحذف. وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له ؛ قال السدي. وقيل : هو من قول الله تعالى. ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ؛ حكاه ابن شجرة.
قوله تعالى : {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين. والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن. {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الغالب الذي ليس كمثله شيء {الْحَكِيمُ} في أمره وفعله. وقيل : قال موسى يا رب من الذي نادى ؟ فقال له : {إِنَّهُ} أي إني أنا المنادي لك {أَنَا اللَّهُ} .
قوله تعالى : {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب بن منبه : ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل : إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله ، وأن موسى رسوله ؛ وكل نبي لابد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته. وفي الآية حذف : أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة. وقيل : إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة. وقيل : انقلبت مرة حية صغيرة ، ومرة حية تسعى وهي الأنثى ، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل : المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه وهي حية تسعى. وجمع الجان جنان ؛ ومنه الحديث : "نهي عن قتل الجنان التي في البيوت" . {وَلَّى مُدْبِراً} خائفا على عادة البشر {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع ؛ قاله مجاهد. وقال قتادة : لم يلتفت. {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وتم الكلام ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} وقيل : إنه استثناء من محذوف ؛ والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم {إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فإنه لا يخاف ؛ قاله الفراء.