عرض مشاركة واحدة
  #522  
قديم 07-07-2025, 03:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,251
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الفرقان
من صــ 31 الى صــ 40
الحلقة (522)





إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه : 44 - 47] . ونظير هذا : {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن : 62] . وقد قال جل ثناؤه : {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا} [المومنون : 45] قال القشيري : وقوله في موضع آخر : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه : 24] لا ينافي هذا ؛ لأنهما إذا كان مأمورين فكل واحد مأمور. ويجوز أن يقال : أمر موسى أولا ، ثم لما قال : {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه : 29] قال : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه : 43] . {إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} يريد فرعون وهامان والقبط. {فدمرناهم تدميرا} في الكلام إضمار ؛ أي فكذبوهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي أهلكناهم إهلاكا.
الآية : [37] {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}
قوله تعالى : {وَقَوْمَ نُوحٍ} في نصب "قوم" أربعة أقوال : العطف على الهاء والميم في {دمرناهم} . الثاني : بمعنى اذكر. الثالث : بإضمار فعل يفسره ما بعده ؛ والتقدير : وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم. الرابع : إنه منصوب بـ {أَغْرَقْنَاهُمْ} قاله الفراء. ورده النحاس قال : لأن {أَغْرَقْنَا} ليس مما يتعدى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي {قَوْمِ نُوحٍ} . {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} ذكر الجنس والمراد نوح وحده ؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده ؛ فنوح إنما بعث بلا إله إلا الله ، وبالإيمان بما ينزل الله ، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة. وقيل : إن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل ؛ لأنهم لا يفرق بينهم في الإيمان ، ولأنه ما من نبي إلا يصدق سائر أنبياء الله ، فمن كذب منهم نبيا فقد كذب كل من صدقه من النبيين. {أَغْرَقْنَاهُمْ} أي بالطوفان على ما تقدم في {هُودُ} . {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي علامة ظاهرة على قدرتنا {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} أي للمشركين من قوم نوح {عَذَاباً أَلِيماً} أي في الآخرة. وقيل : أي هذه سبيلي في كل ظالم.
الآية : [38] {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}
قوله تعالى : {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} كله معطوف على {قَوْمَ نُوحٍ} إذا كان {قَوْمَ نُوحٍ} منصوبا على العطف ، أو بمعنى اذكر. ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في {دَمَّرْنَاهُمْ} أو على المضمر في {مَا جَعَلْنَاهُمْ} وهو اختيار النحاس ؛ لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل ؛ أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم ، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة. و {أَصْحَابَ الرَّسِّ} والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية ، والجمع رساس. قال :
تنابلة يحفرون الرساسا
يعني آبار المعادن. قال ابن عباس : سألت كعبا عن أصحاب الرس قال : صاحب {يس} الذي قال : {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس : 20] قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها ، وكذا قال مقاتل. السدي : هم أصحاب قصة {يس} أهل أنطاكية ، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل {يس} فنسبوا إليها. وقال علي رضي الله عنه : هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم ؛ وكان من ولد يهوذا ، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر ، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم. وقال ابن عباس : هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا. وقال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه ، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم ، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم ؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا. وقال قتادة : أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين. قال قتادة : والرس قرية بفلج اليمامة. وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا. دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما"
وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي ". قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة "وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي ، واللفظ للثعلبي ، وقال : هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس ؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم ، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم. وقال الكلبي : أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه. وهم أول من عمل نساؤهم السحق ؛ ذكره الماوردي. وقيل : هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين ، وسيأتي. وقيل : هم بقايا من قوم ثمود ، وأن الرس البئر المذكورة في {الْحَجَّ} في قوله : {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج : 45] على ما تقدم. وفي الصحاح : والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق ، وكان نساؤهم كلهم سحاقات. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق ". وقيل : الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل : الثلج المتراكم في الجبال ؛ ذكره القشيري. وما ذكرناه أولا هو المعروف ، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر. قال أبو عبيدة : الرس كل ركية لم تطو ؛ وجمعها رساس. قال الشاعر :"
وهم سائرون إلى أرضهم ... فيا ليتهم يحفرون الرساسا
والرس اسم واد في قول زهير :
بكرن بكورا واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
ورسست رسا : حفرت بئرا. ورس الميت أي قبر. والرس : الإصلاح بين الناس ، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم ؛ فهو من الأضداد. وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا ، ذكره
الثعلبي وغيره. {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد. وثمود وأصحاب الرس. وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له : ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به ؟ قال : لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال ، فكان فيهم أطباء ، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت ؛ فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات ، رحمه الله.
الآية : [39] {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}
قوله تعالى : {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} قال الزجاج. أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة ، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة. وقيل : انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه ؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ ؛ ذكره المهدوي. والمعنى واحد. {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أي أهلكنا بالعذاب. وتبرت الشيء كسرته. وقال المؤرج والأخفش : دمرناهم تدميرا. تبدل التاء والباء من الدال والميم.
الآية : [40] {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} يعني مشركي مكة. والقرية قرية قوم لوط. والحجارة التي أمطروا بها. {مَطَرَ السَّوْءِ} الحجارة التي أمطروا بها. {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} أي في أسفارهم ليعتبروا. قال ابن عباس : كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله تعالى : {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} [الصافات : 137] وقال : {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر : 79] . {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} أي لا يصدقون بالبعث. ويجوز أن يكون معنى {يَرْجُونَ} يخافون. ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه : بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة.
الآية : [41] {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}
الآية : [42 ] {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} جواب {إذا} {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} لأن معناه يتخذونك. وقيل : الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون : {أَهَذَا الَّذِي} وقوله : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} كلام معترض. ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا : {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} والعائد محذوف ، أي بعثه الله. {رَسُولاً} نصب على الحال والتقدير : أهذا الذي بعثه الله مرسلا. {أَهَذَا} رفع بالابتداء و {الَّذِي} خبره. {رَسُولاً} نصب على الحال. و {بَعَثَ} في صلة {الَّذِي} واسم الله عز وجل رفع بـ {بَعَثَ} . ويجوز أن يكون مصدرا ؛ لأن معنى {بَعَثَ} أرسل ويكون معنى {رَسُولاً} رسالة على هذا. والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار . {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} أي قالوا قد كاد أن يصرفنا. {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي حبسنا أنفسنا على عبادتها. {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} يريد من أضل دينا أهم أم محمد ، وقد رأوه في يوم بدر.
الآية : 43 {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}
قوله تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم ، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة. قال الكلبي وغيره : كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله ، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن ؛ فعلى هذا يعني : أرأيت من اتخذ إلهه بهواه ؛ فحذف الجار. وقال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله ، ثم تلا هذه الآية.
قال الشاعر :
لعمر أبيها لو تبدت لناسك ... قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك
لصلى لها قبل الصلاة لربه ... ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك
وقيل : {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي أطاع هواه. وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه ، والمعنى واحد. {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد. أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك ، وإنما عليك التبليغ. وهذا رد على القدرية. ثم قيل : إنها منسوخة بآية القتال. وقيل : لم تنسخ ؛ لأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
الآية : 44 {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ولم يقل أنهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن. وذمهم جل وعز بهذا. {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه ؛ أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل : المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا ؛ والمراد أهل مكة. وقيل : {أَمْ} بمعنى بل في مثل هذا الموضع. {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام. وقال مقاتل : البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها ، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل : لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا.
الآية : [45] {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ، }
الآية : [46] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين ، ومجوز أن تكون من العلم. وقال الحسن وقتادة وغيرهما : مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل : هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها. والأول أصح ؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة ؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة : وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد ، وتطيب نفوس الأحياء فيها. وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب. وقال أبو العالية : نهار الجنة هكذا ؛ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. أبو عبيدة : الظل بالغداة والفيء بالعشي ؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس ؛ سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال الشاعر ، وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكني بها عن امرأة :
فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق
وقال ابن السكيت : الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. ابن عباس : يريد إلى يوم القيامة ، وقيل : المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع. {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى ؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل ، ولولا النور ما عرفت الظلمة. فالدليل فعيل بمعنى الفاعل. وقيل : بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب. أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به ؛ أي أتبعناها إياه. فالشمس دليل أي حجة وبرهان ، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه. ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم ؛ كما يقال : الشمس برهان والشمس حق. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يريد ذلك الظل الممدود. {إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أي يسيرا قبضه علينا. وكل أمر ربنا عليه يسير. فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا ، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها ، فإذا غربت فليس هناك ظل ، إنما ذلك بقية نور النهار. وقال قوم : قبضه بغروب الشمس ؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية ، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل : إن هذا القبض وقع بالشمس ؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا ؛ قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي. وقيل : {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء {قَبْضاً يَسِيراً} . وقيل : {يَسِيراً} أي سريعا ، قاله الضحاك. قتادة : خفيا ؛ أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا ؛ كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة ، وليس يزول دفعة واحدة. فهذا معنى قول قتادة ؛ وهو قول مجاهد.
الآية : [47] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري : وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها.
الثانية- قال ابن العربي : ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه ؛ لأن الليل لباس. وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه. والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس. ولا حاجة إلى الإطناب في هذا.
الثالثة- قوله تعالى : {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال. وأصل السبات من التمدد. يقال : سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته. ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة. وقيل : للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون ، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل :
السبت القطع ؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال ؛ ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه. وقيل : السبت الإقامة في المكان ؛ فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه ؛ فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة. وقال الخليل : السبات نوم ثقيل ؛ أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة.
الرابعة- قوله تعالى : {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} من الانتشار للمعاش ؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار. شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة. وكان عليه السلام إذا أصبح قال : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .
الآية : [48] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} تقدم في {الأعراف} مستوفي.
قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}
فيه خمس عشرة مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {مَاءً طَهُوراً} يتطهر به ؛ كما يقال : وضوء للماء الذي يتوضأ به. وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا. فالطهور : "بفتح الطاء" الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم المصدر ، وهذا هو المعروف في اللغة ؛ قاله ابن الأنباري. فبين أو الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره ؛ فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا. وإلى هذا مذهب الجمهور. وقيل : إن {طَهُوراً} بمعنى طاهر ؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ وتعلق بقوله تعالى : {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان : 21] يعني طاهرا.
ويقول الشاعر :
خليلي هل في نظرة بعد توبة ... أداوي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا ... عذاب الثنايا ريقهن طهور
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. وتقول العرب : رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه. منيم لغيره ، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه. ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا : وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد ، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة ، فجاؤوا الله بقلب سليم ، ودخلوا الجنة بصفات التسليم ، وقيل لهم حينئذ : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر : 73] . ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة. وأما قول الشاعر :
ريقهن طهور
فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب ، وطيبه في النفوس ، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور ، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية ؛ فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب ، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية ، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون. ألا ترى إلى قول بعضهم :
ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها
لما كنت أدري علة للتيمم
وهذا كفر صراح ، نعوذ بالله منه. قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا منتهى لباب كلام العلماء ، وهو بالغ في فنه ؛ إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.77 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]