
07-07-2025, 03:16 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,892
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الفرقان
من صــ 21 الى صــ 30
الحلقة (521)
وقال آخر :
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وروي عن الحسن أنه قال : {وَيَقُولُونَ حِجْراً} وقف من قول المجرمين ؛ فقال الله. عز وجل : {مَحْجُوراً} عليهم أن يعاذوا أو يجاروا ؛ فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة. والأول قول ابن عباس. وبه قال الفراء ؛ قاله ابن الأنباري. وقرأ الحسن وأبو رجاء : {حِجْراً} بضم الحاء والناس على كسرها. وقيل : إن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم ؛ قاله قتادة فيما ذكر الماوردي. وقيل : هو قول الكفار للملائكة. وهي كلمة استعاذة وكانت معروفة في الجاهلية ؛ فكان إذا لقي الرجل من يخافه قال : حجرا محجورا ؛ أي حراما عليك التعرض لي. وانتصابه على معنى : حجرت عليك ، أو حجر الله عليك ؛ كما تقول : سقيا ورعيا. أي إن المحرمين إذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا : نعوذ بالله منكم ؛ ذكره القشيري ، وحكى معناه المهدوي عن مجاهد. وقيل : {حِجْراً} من قول المجرمين. {مَحْجُوراً} من قول الملائكة ؛ أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فتقول الملائكة : {مَحْجُوراً} أن تعاذوا من شر هذا اليوم ؛ قاله الحسن.
الآية : [23] {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
الآية : [24] {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
قوله تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة ؛ أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل بر عند أنفسهم. يقال : قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده. وقال مجاهد : {قَدِمْنَا} أي عمدنا. وقال الراجز :
وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال ...
وقيل : هو قدوم الملائكة ، أخبر به نفسه تعالى فاعله. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} أي لا ينتفع به ؛ أي أبطلناه بالكفر. وليس {هَبَاءً} من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبي في موضع الرفع ، ومن النحويين من يقول : هبي في موضع الرفع ؛ حكاه النحاس. وواحده هباة والجمع أهباء. قال الحارث بن حلزة يصف ناقة :
فترى خلفها من الرجع والوقـ ... ـع منينا كأنه أهباء
وروى الحرث عن علي قال : الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة. وقال الأزهري : الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله : إن الله تعالى أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق. وقال ابن عرفة : الهبوة والهباء التراب الدقيق. الجوهري : ويقال له إذا ارتفع هبوا وأهبيته أنا. والهبوة الغبرة. قال رؤبة.
تبدو لنا أعلامه بعد الغرق ... في قطع الآل وهبوات الدقق
وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة. وقيل : إنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر ؛ قاله قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس أيضا : إنه الماء المهراق. وقيل : إنه الرماد ؛ قاله عبيد بن يعلى.
قوله تعالى : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} تقدم القول فيه عند قوله تعالى : {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان : 15] . قال النحاس : والكوفيون يجيزون "العسل أحلى من الخل" وهذا قول مردود ؛ لأن معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل. ولا يجوز أن يقال : النصراني خير من اليهودي ؛ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير. لكن يقال : اليهودي شر
من النصراني ؛ فعلى هذا كلام العرب. و {مُسْتَقَرّاً} نصب على الظرف إذا قدر على غير باب "أفعل منك" والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من باب "أفعل منك" فانتصابه على البيان ؛ قال النحاس والمهدوي. قال قتادة : {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} منزلا ومأوى. وقيل : هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع : "إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار" ذكره المهدوي. وقال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، ثم قرأ : {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} كذا هي في قراءة ابن مسعود. وقال ابن عباس : الحساب من ذلك اليوم في أوله ، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. ومنه ما روي : "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" . وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" فقلت : ما أطول هذا اليوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا" .
الآية : [25] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} .
الآية : [26] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو : {تَشَقَّقُ} بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فحذفوا الأولى تخفيفا ، واختاره أبو عبيد. الباقون {تَشَقَّقُ} بتشديد الشين على الإدغام ، واختاره أبو حاتم. وكذلك في {ق} . {بِالْغَمَام} أي عن الغمام. والباء وعن يتعاقبان ؛ كما تقول : رميت بالقوس وعن القوس. روي أن السماء تتشقق عن سحاب
أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه ؛ وهو الذي قال تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة : 210] . {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} من السماوات ، ويأتي الرب جل وعز في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء ، على ما يجوز أن يحمل عليه إتيانه ؛ لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال. وقال ابن عباس : تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا ، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة ، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ؛ وهو معنى قوله : {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين. وقيل : إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس ؛ فبتشقق الغمام تتشقق السماء ؛ فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها. وقرأ ابن كثير : {ونُنْزِلُ اْلمَلاَئِكَةَ} بالنصب من الإنزال. الباقون. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } بالرفع. دليله {تَنْزِيلاً} ولو كان على الأول لقال إنزالا. وقد قيل : إن نزل وأنزل بمعنى ؛ فجاء {تنزيلا} على {نَزَّلَ} وقد قرأ عبدالوهاب عن أبي عمرو : {ونُزِلَ الملائكة تَنْزِيلاً} . وقرأ ابن مسعود : {وأَنْزَلَ الملائكة} . أبي بن كعب : {ونُزِّلَتِ الملائكة} . وعنه {وتنزلت الملائكة} .
قوله تعالى : {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} {الملك} مبتدأ و {الحق} صفة له و {للرحمن} الخبر ؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك ؛ فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم ، وزال كل ملك وملكه. وبقي الملك الحق لله وحده. {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان ، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة ؛ على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دال عليه ؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال : عسِر يعسَر ، وعسُر يعسُر.
الآية : [27] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}
الآية : [28] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً}
الآية : [29] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الماضي عضضت. وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير ، منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب أن الظالم ههنا يراد به عقبة بن أبي معيط ، وأن خليله أمية بن خلف ؛ فعقبة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؛ وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ؛ فقال : أأقتل دونهم ؟ فقال. نعم ، بكفرك وعتوك. فقال : من للصبية ؟ فقال : النار. فقام علي رضي الله عنه فقتله. وأمية قتله النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة ، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله عز وجل : قال ابن عباس وقتادة وغيرهما : وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبي بن خلف وكانا خدنين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما جميعا : قتل عقبة يوم بدر صبرا ، وأبي بن خلف في المبارزة يوم أحد ؛ ذكره القشيري والثعلبي ، والأول ذكره النحاس. وقال السهيلي : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} هو عقبة بن أبي معيط ، وكان صديقا لأمية بن خلف الجمحي ويروى لأبي بن خلف أخ أمية ، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل من طعامه ، فعاتبه خليله أمية بن خلف ، أو أبي بن خلف وكان غائبا. فقال عقبة : رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله : لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل
عدو الله ما أمره به خليله ؛ فأنزل الله عز وجل : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} قال الضحاك : لما بصق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه ، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه ، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله. {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} في الدنيا ، يعني طريقا إلى الجنة . {يَا لَيْتَنِي} دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته. {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} يعني أمية ، وكني عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا ، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما. وقال مجاهد وأبو رجاء : الظالم عام في كل ظالم ، وفلان : الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} وقرأ الحسن : {يا وَيْلَتِي} . والخليل : الصاحب والصديق {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي يقول هذا النادم : لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به. وقيل : {نِ الذِّكْرِ} أي عن الرسول. {وََكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} قيل : هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله : {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} . والخذل الترك من الإعانة ؛ ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك ، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان ، خذولا عند نزول العذاب والبلاء. ولقد أحسن من قال :
تجنب قرين السوء وأصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق وأحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ... إذا اشتعلت نيرانه في عذاره
آخر :
اصحب خيار الناس حيث لقيتهم ... خير الصحابة من يكون عفيفا
والناس مثل دراهم ميزتها ... فوجدت منها فضة وزيوفا
وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة" لفظ مسلم. وأخرجه أبو داود من حديث أنس. وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله ؛ أي جلسائنا خير ؟ قال : "من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله" . وقال مالك بن دينار : إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار. وأنشد :
وصاحب خيار الناس تنج مسلما ... وصاحب شرار الناس يوما فتندما
الآية : [30] {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}
الآية : [31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}
قوله تعالى : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم ، يشكوهم إلى الله تعالى. {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي قالوا فيه غير الحق من أنه سحر وشعر ؛ عن مجاهد والنخعي. وقيل : معنى {مَهْجُوراً} أي متروكا ؛ فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك - وهو أبو جهل في قول ابن عباس - فكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من مشركي قومه ، فاصبر ، لأمري كما صبروا ، فإني هاديك وناصرك على كل من ناوأك. وقد قيل : إن قول الرسول {يَا رَبِّ} إنما يقوله يوم القيامة ؛ أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني. وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء"
يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه ". ذكره الثعلبي. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} نصب على الحال أو التمييز ، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك. وقال ابن عباس : عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل لعنه الله."
الآية : [32] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} .
الآية : [33] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} اختلف في قائل ذلك على قولين : أحدهما : أنهم كفار قريش ؛ قاله ابن عباس. والثاني : انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا : هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. فقال الله تعالى : {كَذَلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي به قلبك فتعيه وتحمله ؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون ، والقرآن أنزل على نبي أمي ؛ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأيسر على العامل به ؛ فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب.
قلت : فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته ؟ . قيل : في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة ، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه ، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل : إن قوله {كَذَلِكَ } من كلام المشركين ، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك ، أي كالتوراة والإنجيل ، فيتم الوقف على {كَذَلِكَ} ثم يبتدئ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} . ويجوز أن يكون الوقف على قوله : {جُمْلَةً وَاحِدَةً} ثم يبتدئ {ذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال
ابن الأنباري : والوجه الأول أجود وأحسن ، والقول الثاني قد جاء به التفسير ، حدثنا محمد بن عثمان الشيبي قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1] قال : أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء ، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة. قال : فهو قوله {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة : 75] يعني نجوم القرآن {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة : 76 - 77 ] . قال : فلما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة ، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ؛ فقال الله تبارك وتعالى : {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} يا محمد. {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} يقول : ورسلناه ترسيلا ؛ يقول : شيئا بعد شيء.
قوله تعالى : {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} يقول : لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به ، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس : وكان ذلك من علامات النبوة ، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه ، وهذا لا يكون إلا من نبي ، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم ، ويدل على هذا {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم ، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا ، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة ، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح ، ثم ينزل النسخ بعد ذلك ؛ فمحال أن ينزل جملة واحدة : افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس : والأولى أن يكون التمام {جملة واحدة} لأنه إذا وقف على {كَذَلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك : {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا. والمعنى : أحسن من مثلهم تفصيلا ؛ فحذف لعلم السامع. وقيل : كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف
والتبديل ، فكان ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تفسيرا مما عندهم ؛ لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل ، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل ، ولهذا قال تعالى : {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة : 42] . وقيل : {لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وأم.
الآية : [34] {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}
قوله تعالى : {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} تقدم في {سبحان} . {جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} لأنهم في جهنم. وقال مقاتل : قال الكفار لأصحاب محمد. صلى الله عليه وسلم هو شر الخلق. {وأضل سبيلا} أي دينا وطريقا. ونظم الآية : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة ، وهم محشورون على وجوههم.
الآية : [35] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً}
الآية : [36] {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يريد التوراة. {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} تقدم في {طه} . {فَقُلْنَا اذْهَبَا} الخطاب لهما. وقيل : إنما أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالذهاب وحده في المعنى. وهذا بمنزلة قوله : {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف : 61] . وقوله : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 22] وإنما يخرج من أحدهما. قال النحاس : وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ به على كتاب الله تعالى ، وقد قال جل وعز : فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَأْتِيَاهُ فَقُولا
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|