عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 06-07-2025, 10:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 304 الى صــ 313
الحلقة (517)





وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال : ليست بمنسوخة. قلت : إن الناس لا يعملون بها ؛ قال : الله عز وجل المستعان.
الثالثة : قال بعض أهل العلم : إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} قال يزيد : ثلاث دفعات. قال : فورد القرآن في المماليك والصبيان ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع. قال ابن عبد البر : ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها ، والذي عليه جمهورهم في قوله : {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} .
الرابعة : أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم ، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها ، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضا وهي الظهيرة ، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم ؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه ، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب ، فدق عليه الغلام الباب فناداه ، ودخل ، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن ؛ ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت ، فخر ساجدا شكرا لله. وهي مكية.
الخامسة : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} أي الذين لم يحتلموا من أحراركم ؛ قال مجاهد. وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول : ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم ، على التقديم والتأخير ، وأن الآية في الإماء. وقرأ الجمهور بضم اللام ، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة ، وكان أبو عمرو يستحسنها. و {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} نصب على الظرف ؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا ، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن ، والظرفية في {ثَلاثَ} بينة : {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} . وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت. {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} قرأ جمهور السبعة {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ} برفع {ثلاث} . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ثلاثَ} بالنصب على البدل من الظرف في قوله {ثلاثَ مرات} . قال أبو حاتم : النصب ضعيف مردود. وقال الفراء : الرفع أحب إلي. قال : وإنما اخترت الرفع لأن المعنى : هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء ، والخبر عنده ما بعده ، ولم يقل بالعائد ، وقال نصا بالابتداء. قال : والعورات الساعات التي تكون فيها العورة ؛ إلا أنه قرأ بالنصب ، والنصب فيه قولان : أحدهما : أنه مردود على قوله : {ثلاثَ مرّات} ؛ ولهذا استبعده الفراء. وقال الزجاج : المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و {عَوْرات} جمع عورة ، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات "بفتح العين" كجفنة وجفنات ، ونحو ذلك ، وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات ؛ لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك ؛ فأما قول الشاعر :
أبو بيضات رائح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح
فشاذ.
السادسة : قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين. {طَوَّافُونَ} بمعنى هم طوافون. قال الفراء : كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب {طوافين} لأنه نكرة ، والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة. ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في {عَلَيْكُمْ} وفي {بَعْضُكُمْ} لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت يزيد ونزلت على عمرو العاقلين ، على النعت لهما. فمعنى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم ؛ ومنه الحديث في الهرة "إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" . فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا ؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه ، ومنه قوله : {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب : 13] أي سهلة للمدخل ، فبين العلة الموجبة للإذن ، وهي الخلوة في حال العورة ؛ فتعين امتثاله وتعذر نسخه. ثم رفع الجناح بقوله : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يطوف بعضكم على بعض. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} الكاف في موضع نصب ؛ أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تقدم.
السابعة : قوله تعالى : {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} يريد العتمة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى يقول : "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل" . وفي رواية "فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل" . وفي البخاري عن أبي برزة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء. وقال أنس : أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء. وهذا يدل على العشاء الأولى. وفي الصحيح : فصلاها ، يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء. وفي الموطأ وغيره : "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا" . وفي مسلم عن جابر
ابن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم ، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا ، وكان يخف الصلاة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذه أخبار متعارضة ، لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء وعن تسمية العشاء عتمة ثابت ، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم. وقد كان ابن عمر يقول : من قال صلاة العتمة فقد أثم. وقال ابن القاسم قال مالك : {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمي بما سماها الله تعالى به ويعلمها الإنسان أهله وولده ، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم وقد قال حسان :
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء
وقد قيل : إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة ، إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال : {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} ؛ فكأنه نهيُ إرشاد إلى ما هو الأولى ، وليس على جهة التحريم ، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك ، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقيل : إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية ، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة ؛ ويشهد لهذا قوله : "فإنها تعتم بحلاب الإبل" .
الثامنة : روى ابن ماجه في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : "من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله بها عتقا من النار" . وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله" . وروي الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال : من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.
الآية : 59 {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
قرأ الحسن {الحُلْم} فحذف الضمة لثقلها. والمعنى : أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة ؛ وأبيح لهم الأمر في غير ذلك كما ذكرنا. ثم أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من الله عز وجل لأحكامه وإيضاح حلاله وحرامه ، وقال {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم. وقال في الأولى {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين. وقال ابن جريج : قلت لعطاء {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال : واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا ، أحرارا كانوا أو عبيدا. وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن ؟ قال : أربع سنين ، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقال الزهري : أي يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
الآية : 60 {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فيه خمس مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} القواعد واحدتها قاعد ، بلا هاء ؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر ، كما قالوا : امرأة حامل ؛ ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر :
فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن وإن كن القواعد عقرا
وقالوا في غير ذلك : قاعدة في بيتها ، وحاملة على ظهرها ، بالهاء. والقواعد أيضا : إساس البيت واحدة قاعدة ، بالهاء.
الثانية : القواعد : العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن ، وقعدن عن الولد والمحيض ؛ هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة : هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة : اللاتي قعدن عن الولد ؛ وليس ذلك بمستقيم ، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع ، قاله المهدوي.
الثالثة : قوله تعالى : {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن ؛ إذ لا يذهب للرجال فيهن ، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن ، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن.
الرابعة : قرأ ابن مسعود وأبي وابن عباس {أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنّ} بزيادة {مِنْ} قال ابن عباس : وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا {مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} والعرب تقول : امرأة واضع ، للتي كبرت فوضعت خمارها. وقال قوم : الكبيرة التي أيست من النكاح ، لو بدا شعرها فلا بأس ؛ فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر ؛ إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار ، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما.
الخامسة : قوله تعالى : {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن ؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج : التكشف والظهور للعيون ؛ ومنه : بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار ؛ أي لا حائل دونها يسترها.
وقيل لعائشة رضي الله عنها : يا أم المؤمنين ، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب ؟ فقالت : يا معشر النساء ، قصتكن قصة امرأة واحدة ، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكنّ أن يروا منكن محرما. وقال عطاء : هذا في بيوتهن ، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال : إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلبان فوق الدرع ، وهذا بعيد ، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن ، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير. وقرأ ابن مسعود {وأن يتعففن} بغير سين. ثم قيل : من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" . قال ابن العربي : وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثواب إذا رق يصفهن ، ويبدي محاسنهن ؛ وذلك حرام.
قلت : هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني : أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه : {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . وأنشدوا :
إذا المرء لم يلبس ثياب من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" قالوا : ماذا أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : "الدين" . فتأويله صلى الله عليه وسلم القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى : {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . والعرب تكني عن الفضل والعفاف بالثياب ؛ كما قال شاعرهم :
ثياب بني عوف طهارى نقية
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعثمان : "إن الله سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه" . فعبر عن الخلافة بالقميص وهي استعارة حسنة معروفة.
قلت : هذا التأويل أصح التأويلين ، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان ، وخاصة الشباب ، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات ؛ فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة ، ظاهرا وباطنا ، حيث تبدي زينتها ، ولا تبالي بمن ينظر إليها ، بل ذلك مقصودهن ، وذلك مشاهد في الوجود منهن ، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك ، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله : "رؤوسهن كأسنمة البخت" . والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام ، عظام الأسنمة ؛ شبه رؤوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن. وهذا مشاهد معلوم ، والناظر إليهن ملوم. قال صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" . خرجه البخاري.
الآية : 61 {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
فيه إحدى عشرة مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية. أقربها - هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة ؛ فهذه ثلاثة أقوال :
الأول : أنها منسوخة من قوله تعالى : {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر الآية ؛ قاله عبد الرحمن بن زيد ، قال : هذا شيء انقطع ، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق ، وكانت الستور مرخاة ، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد ؛ فسوغ الله عز وجل أن يأكل منه ، ثم صارت الأغلاق على البيوت فلا يحل لأحد أن يفتحها ، فذهب هذا وانقطع. قال صلى الله عليه وسلم : "لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه.." الحديث. خرجه الأئمة.
الثانية : أنها ناسخة ؛ قاله جماعة. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لما أنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قال المسلمون : إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، وأن الطعام من أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكف الناس عن ذلك ؛ فأنزل الله عز وجل : {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ - إلى - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} . قال : هو الرجل يوكل الرجل بضيعته.
قلت : علي بن أبي طلحة هذا هو مولى بني هاشم سكن الشام ، يكنى أبا الحسن ويقال أبا محمد ، اسم أبيه أبي طلحة سالم ، تكلم في تفسيره ؛ فقيل : إنه لم ير ابن عباس ، والله أعلم.
الثالث : أنها محكمة ؛ قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم ؛ منهم سعيد بن المسيب وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون : إذا احتجتم فكلوا ؛ فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس ؛ فأنزل الله عز وجل : {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلى آخر الآية. قال النحاس : "يوعِبون" أي يخرجون بأجمعهم في المغازي ؛
يقال : أوعب بنو فلان لبني فلان إذا جاؤوهم بأجمعهم. وقال ابن السكيت : يقال أوعب بنو فلان جلاء ؛ فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب ؛ أي بأقصى ما عنده. وفي الحديث : "في الأنف إذا استوعب جدعه الدية" إذا لم يترك منه شيء. واستيعاب الشيء استئصاله. ويقال : بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه. والضمنى هم الزمنى ، واحدهم ضمن زمن. قال النحاس : وهذا القول من أجل ما روي في الآية ؛ لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوفيق أن الآية نزلت في شيء بعينه. قال ابن العربي : وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم ، لكن قوله : {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قد اقتضاه ؛ فكان هذا القول بعيدا جدا. لكن المختار أن يقال : إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي ؛ وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج ، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه ؛ كالصوم وشروط الصلاة وأركانها ، والجهاد ونحو ذلك. ثم قال بعد ذلك مبينا : وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم. فهذا معنى صحيح ، وتفسير بين مفيد ، ويعضده الشرع والعقل ، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل.
قلت : وإلى هذا أشار ابن عطية فقال : فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر ، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل ، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص ، فالحرج مرفوع عنهم في هذا ، فأما ما قال الناس في الحرج هنا وهي :
الثانية : قال ابن زيد : هو الحرج في الغزو ؛ أي لا حرج عليهم في تأخرهم. وقوله تعالى : {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية ، معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة : الآية كلها في معنى المطاعم. قالت : وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار ؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى ، ولانبساط الجلسة من الأعرج ، ولرائحة المريض وعلاته ؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر ، فنزلت الآية مؤذنة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]