
06-07-2025, 10:49 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 284 الى صــ 293
الحلقة (515)
إلى الإيمان وقال أبو علي : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} أو كذي ظلمات ودل على هذا المضاف قوله تعالى : {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. قال القشيري : فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار ، وعند الجرجاني لكفر الكافر ، وعند أبي علي للكافر. وقال ابن عباس في رواية : هذا مثل قلب الكافر. {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} قيل : هو منسوب اللجة ، وهو الذي لا يدرك قعره. واللجة معظم الماء ، والجمع لجج. والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه ؛ ومنه ما روي عن النبي أنه قال : "من ركب البحر إذا التج فقد برئت منه الذمة" . والتج الأمر إذا عظم واختلط. وقوله تعالى : {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل : 44] أي ما له عمق. ولججت السفينة أي خاضت اللجة "بضم اللام" . فأما اللجة "بفتح اللام" فأصوات الناس يقول : سمعت لجة الناس أي أصواتهم وصخبهم. قال أبو النجم :
في لجة أمسك فلانا عن فل
وانتجت الأصوات أي اختلطت وعظمت. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} أي يعلو ذلك البحر اللجي موج. {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق الموج موج ، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب ؛ فيجتمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. وقيل : المعنى يغشاه موج من بعده موج ؛ فيكون المعنى : الموج يتبع بعضه بعضا حتى كأن بعضه فوق بعض ، وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ومن فوق هذا الموج سحاب. وهو أعظم للخوف من وجهين : أحدهما : أنه قد غطى النجوم التي يهتدي بها. الثاني : الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} قرأ ابن محيصن والبزي عن ابن كثير {سَحَابُ ظُلُمَاتٍ} بالإضافة والخفض. قنبل {سَحَابٌ} منونا {طُلُمَاتٍ} بالجر والتنوين. الباقون بالرفع والتنوين. قال المهدوي : من قرأ {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابُ ظُلُمَاتٍ} بالإضافة فلأن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات فأضيف إليها ؛ كما يقال : سحاب رحمة إذا ارتفع في وقت المطر. ومن قرأ {سَحَابٌ ظُلُمَاتٍ} جر {ظُلُمَات} على التأكيد لـ {ظلمات}
الأولى أو البدل منها. و "سحاب" ابتداء و "من فوقه" الخبر. ومن قرأ {سَحَابٌ ظلماتٌ} فظلمات خبر ابتداء محذوف التقدير : هي ظلمات أو هذه ظلمات. قال ابن الأنباري : {مِنْ فوقه موج} غير تام ؛ لأن قول {من فوقه سحاب} صلة للموج ، والوقف على قول {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} حسن ثم تبتدئ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} على معنى هي ظلمات بعضها فوق بعض. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا {ظلماتٍ} على معنى أو كظلمات ظلمات بعضها فوق بعض فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على السحاب. ثم قيل : المراد بهذه الظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة الليل وظلمة البحر ؛ فلا يبصر من كان في هذه الظلمات شيئا ولا كوكبا. وقيل : المراد بالظلمات الشدائد ؛ أي شدائد بعضها فوق بعض. وقيل : أراد بالظلمات أعمال الكافر ، وبالبحر اللجي قلبه ، وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب الرين والختم والطبع على قلبه. روي معناه عن ابن عباس وغيره ؛ أي لا يبصر بقلبه نور الإيمان ، كما أن صاحب الظلمات في البحر إذا أخرج يده لم يكد يراها. وقال أبيّ ابن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلمات : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات في النار وبئس المصير.
قوله تعالى : {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} يعني الناظر. {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي من شدة الظلمات. قال الزجاج وأبو عبيدة : المعنى لم يرها ولم يكد ؛ وهو معنى قول الحسن. ومعنى {لم يَكَد} لم يطمع أن يراها. وقال الفراء : كاد صلة ، أي لم يرها ؛ كما تقول : ما كدت أعرفه. وقال المبرد : يعني لم يرها إلا من بعد الجهد ؛ كما تقول : ما كدت أراك من الظلمة ، وقد رآه بعد يأس وشدة. وقيل : معناه قرب من الرؤية ولم ير كما يقال : كاد العروس يكون أميرا وكاد النعام يطير وكاد المنتعل يكون راكبا. النحاس : وأصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها ، فإذا لم يقارب رؤيتها فلم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} يهتدي به حين أظلمت عليه الأمور. وقال ابن عباس : أي من لم يجعل الله له دينا فما له من دين ، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة لم يهتد
إلى الجنة ؛ كقوله تعالى : {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد : 28] . وقال الزجاج : ذلك في الدنيا والمعنى : من لم يهده الله لم يهتد. وقال مقاتل بن سليمان : نزلت في عتبة بن ربيعة ، كان يلتمس الدين في الجاهلية ، ولبس المسوح ، ثم كفر في الإسلام. الماوردي : في شيبة بن ربيعة ، وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين ، فكفر في الإسلام.
قلت : وكلاهما مات كافرا ، فلا يبعد أن يكونا هما المراد بالآية وغيرهما. وقد قيل : نزلت في عبد الله بن جحش ، وكان أسلم وهاجر إلى أرض الحبشة ثم تنصر بعد إسلامه. وذكر الثعلبي : وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى خلقني من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور" . فنزلت {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
الآيتان : 41 - 42 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} لما ذكر وضوح الآيات زاد في الحجة والبينات ، وبين أن مصنوعاته تدل بتغييرها على أن لها صانعا قادرا على الكمال ؛ فله بعثة الرسل ، وقد بعثهم وأيدهم بالمعجزات ، وأخبروا بالجنة والنار. والخطاب في {أَلَمْ تَرَ} للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : ألم تعلم ؛ والمراد الكل. {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} من الملائكة. {وَالْأَرْضِ} من الجن والإنس. {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} قال مجاهد وغيره : الصلاة للإنسان والتسبيح لما سواه من الخلق. وقال سفيان : للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود. وقيل : إن ضربها بأجنحتها صلاة ، وإن أصواتها
تسبيح ؛ حكاه النقاش. وقيل : التسبيح ها هنا ما يرى في المخلوق من أثر الصنعة. ومعنى {صَافّّّاتٍ} مصطفات الأجنحة في الهواء. وقرأ الجماعة {والطَّيْرُ} بالرفع عطفا على {مَنْ} . وقال الزجاج : ويجوز {والطَير} بمعنى مع الطير. قال النحاس : وسمعته يخبر - قمتُ وزيدا - بمعنى مع زيد. قال : وهو أجود من الرفع. قال : فإن قلت قمت أنا وزيد ، كان الأجود الرفع ، ويجوز النصب. {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} يجوز أن يكون المعنى : كل قد علم الله صلاته وتسبيحه ؛ أي علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح. ولهذا قال : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا يخفي عليه طاعتهم ولا تسبيحهم. ومن هذه الجهة يجوز نصب {كل} عند البصريين والكوفيين بإضمار فعل يفسره ما بعده. وقد قيل : المعنى قد علم كل مصل ومسبح صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلفه. وقرأ بعض الناس {كلٌّ قد عُلِمَ صلاتُه وتسبيحُه} غير مسمى الفاعل. وذكر بعض النحويين أن بعضهم قرأ {كل قد عَلَّمَ صلاتَه وتسبيحه} ؛ فيجوز أن يكون تقديره : كل قد علمه الله صلاته وتسبيحه. ويجوز أن يكون المعنى : كل قد علم غيره صلاته وتسبيحه أي صلاة نفسه ؛ فيكون التعليم الذي هو الإفهام والمراد الخصوص ؛ لأن من الناس من لم يعلم. ويجوز أن يكون المعنى كل قد استدل منه المستدل ، فعبر عن الاستدلال بالتعليم قاله المهدوي. والصلاة هنا بمعنى التسبيح ، وكرر تأكيدا ؛ كقول {يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى} . والصلاة قد تسمى تسبيحا ؛ قاله القشيري.
الآيتان : 43 - 44 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} ذكر من حججه شيئا آخر ؛ أي ألم تر بعيني قلبك. {يُزْجِي سَحَاباً} أي يسوق إلى حيث يشاء. والريح تزجي السحاب ، والبقرة تزجي ولدها أي تسوقه. ومنه زجا الخراج يزجو زجاء - ممدودا - إذا تيسرت جبايته. وقال النابغة :
إني أتيتك من أهلي ومن وطني ... أزجي حشاشة نفس ما بها رمق
وقال أيضا :
أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد
{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه عند انتشائه ؛ ليقوى ويتصل ويكثف. والأصل في التأليف الهمز ، تقول : تألف. وقرئ {يُوَلِّفُ} بالواو تخفيفا. والسحاب واحد في اللفظ ، ولكن معناه جمع ؛ ولهذا قال : {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ} [الرعد : 12] . و {بَيْنَ} لا يقع إلا لاثنين فصاعدا ، فكيف جاز بينه ؟ فالجواب أن {بينه} هنا لجماعة السحاب ؛ كما تقول : الشجر قد جلست بينه لأنه جمع ، وذكر الكناية على اللفظ ؛ قال معناه الفراء. وجواب آخر : وهو أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة ، كما قال :
. .. بين الدخول فحومل
فأوقع {بين} على الدخول ، وهو واحد لاشتماله على مواضع. وكما تقول : ما زلت أدور بين الكوفة لأن الكوفة أماكن كثيرة ؛ قال الزجاج وغيره. وزعم الأصمعي أن هذا لا يجوز وكان يروى :
. .. بين الدخول وحومل
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي مجتمعا ، يركب بعضه بعضا ؛ كقوله تعالى : {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور : 44] . والركم جمع الشيء ؛ يقال منه : ركم الشيء يركمه ركما إذا جمعه وألقى بعضه على بعض. وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع. والركمة الطين المجموع. والركام : الرمل المتراكم. وكذلك السحاب وما أشبهه. ومرتكم الطريق - بفتح الكاف - جادته. {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} في {الْوَدْقَ} قولان : أحدهما : أنه البرق ؛ قاله أبو الأشهب العقيلي. ومنه قول الشاعر :
أثرنا عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلل السحاب
الثاني : أنه المطر ؛ قاله الجمهور. ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وقال امرؤ القيس :
فدمعهما ودق وسح وديمة ... وسكب وتوكاف وتنهملان
يقال : ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا ؛ أي قطر. وودقت إليه دنوت منه. وفي المثل : ودق العير إلى الماء ؛ أي دنا منه. يضرب لمن خضع للشيء لحرصه عليه. والموضع مودق. وودقت به ودقا استأنست به. ويقال لذات الحافر إذا أرادت الفحل : ودقت تدق ودقا ، وأودقت واستودقت. وأتان ودوق وفرس ودوق ، ووديق أيضا ، وبها وداق. والوديقة : شدة الحر. وخلال جمع خلل ؛ مثل الجبل والجبال ، وهي فرجه ومخارج القطر منه. وقد تقدم في "البقرة" أن كعبا قال : إن السحاب غربال المطر ؛ لو لا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو العالية {من خلله} على التوحيد. وتقول : كنت في خلال القوم ؛ أي وسطهم. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} قيل : خلق الله في السماء جبالا من برد ، فهو ينزل منها بردا ؛ وفيه إضمار ، أي ينزل من جبال البرد بردا ، فالمفعول محذوف. ونحو هذا قول الفراء ؛ لأن التقدير عنده : من جبال برد ؛ فالجبال عنده هي البرد. و {بَرَدٍ} في موضع خفض ؛ ويجب أن يكون على قوله المعنى : من جبال برد فيها ، بتنوين جبال. وقيل : إن الله تعالى خلق في السماء جبالا فيها برد ؛ فيكون التقدير : وينزل من السماء من جبال فيها برد. و {مِن} صلة. وقيل : المعنى وينزل من السماء قدر جبال ، أو مثل جبال من برد إلى الأرض ؛ فـ {من} الأولى للغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال ، والثالثة لتبيين الجنس لأن جنس تلك الجبال من البرد. وقال الأخفش : إن {مِن} في الجبال و {بَرَد} زائدة في الموضعين ، والجبال والبرد في موضع نصب ؛ أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والله أعلم. {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ}
فتكون إصابته نقمة وصرفه نعمة. وقد مضى في "البقرة" . و [الرعد] أن من قال حين يسمع الرعد : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عوفي مما يكون في ذلك الرعد. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء ذلك البرق الذي في السحاب {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} من شدة بريقه وضوئه. قال الشماخ :
وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلا البصير
وقال امرؤ القيس :
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الذبال المفتل
فالسنا - مقصور - ضوء البرق. والسنا أيضا نبت يتداوى به. والسناء من الرفعة ممدود. وكذلك قرأ طلحة بن مصرف "سناء" بالمد على المبالغة من شدة الضوء والصفاء ؛ فأطلق عليه اسم الشرف. قال المبرد : السنا - مقصور - وهو اللمع ؛ فإذا كان من الشرف والحسب فهو ممدود وأصلهما واحد وهو الالتماع. وقرأ طلحة بن مصرف {سَنَاءُ بُرَقِه} قال أحمد بن يحيى : وهو جمع برقة. قال النحاس : البرقة المقدار من البرق ، والبرقة المرة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع {يُذهِب بالأبصار} بضم الياء وكسر الهاء ؛ من الإذهاب ، وتكون الباء في {بالأبصار} صلة زائدة. الباقون {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} بفتح الياء والهاء ، والباء للإلصاق. والبرق دليل على تكاثف السحاب ، وبشير بقوة المطر ، ومحذر من نزول الصواعق.
قوله تعالى : {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} قيل : تقليبهما أن يأتي بأحدهما بعد الآخر. وقيل : تقليبهما نقصهما وزيادتهما. وقيل : هو تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى ؛ وكذا الليل مرة بظلمة السحاب ومرة بضوء القمر ؛ قاله النقاش. وقيل : تقليبهما باختلاف ما تقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في الذي ذكرناه من تقلب الليل والنهار ، وأحوال المطر والصيف والشتاء {لَعِبْرَةً} أي اعتبارا {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أي لأهل البصائر من خلقي.
الآيتان : 45 - 46 {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ} بالإضافة. الباقون {خلق} على الفعل. قيل : إن المعنيين في القراءتين صحيحان. أخبر الله عز وجل بخبرين ، ولا ينبغي أن يقال في هذا : إحدى القراءتين أصح من الأخرى. وقد قيل : إن {خلق} لشيء مخصوص ، وإنما يقال خالق على العموم ؛ كما قال الله عز وجل : {الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر : 24] . وفي الخصوص {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام : 1] وكذا : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف : 189] . فكذا يجب أن يكون {اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} . والدابة كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان ؛ يقال : دب يدب فهو داب ؛ والهاء للمبالغة. وقد تقدم في "البقرة" . {مِنْ مَاءٍ} لم يدخل في هذا الجن والملائكة ؛ لأنا لم نشاهدهم ، ولم يثبت أنهم خلقوا من ماء ، بل في الصحيح "إن الملائكة خلقوا من نور والجن من نار" . وقد تقدم. وقال المفسرون : {من ماء} أي من نطفة. قال النقاش : أراد أمنية الذكور. وقال جمهور النظرة : أراد أن خلقة كل حيوان فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين ؛ وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأله في غزاة بدر : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن من ماء" . الحديث. وقال قوم : لا يستثني الجن والملائكة ، بل كل حيوان خلق من الماء ؛ وخلق النار من الماء ، وخلق الريح من الماء ؛ إذ أول ما خلق الله تعالى من العالم الماء ، ثم خلق منه كل شيء.
قلت : ويدل على صحة هذا قوله تعالى : {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} المشي على البطن للحيات والحوت ، ونحوه من الدود وغيره. وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى. والأربع لسائر الحيوان. وفي مصحف أبي {ومنهم من يمشي على أكثر} ؛ فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش ؛ ولكنه قرآن لم يثبته إجماع ؛ لكن قال النقاش : إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر ؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه ، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في خلقته ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها. قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه. وقال بعضهم : ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع ؛ إذ لم يقل ليس منها ما يمشي على أكثر من أربع. وقيل فيه إضمار : ومنهم من يمشي على أكثر من أربع ؛ كما وقع في مصحف أبي. والله أعلم. و {دَابّة} تشمل من يعقل وما لا يعقل ؛ فغلب من يعقل لما اجتمع مع من لا يعقل ؛ لأنه المخاطب والمتعبد ؛ ولذلك قال {فَمِنْهُمْ} . وقال : {مَنْ يَمْشِي} فأشار بالاختلاف إلى ثبوت الصانع ؛ أي لو لا أن للجميع صانعا مختارا لما اختلفوا ، بل كانوا من جنس واحد ؛ وهو كقوله : {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} . [الرعد : 4] . {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} مما يريد خلقه {قَدِيرٌ} .
الآية : 47 {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} يعني المنافقين ، يقولون بألسنتهم آمنا بالله وبالرسول من غير يقين ولا إخلاص. {وَأَطَعْنَا} أي ويقولون {وَأَطَعْنَا} وكذبوا. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} .
الآيات : 48 - 50 {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قال الطبري وغيره : إن رجلا من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان المنافق مبطلا ، فأبى من ذلك وقال : إن محمدا يحيف علينا فلنحكم كعب بن الأشرف فنزلت الآية فيه. وقيل : نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم عليا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنه يبغضني ؛ فنزلت الآية ، ذكره الماوردي. وقال : {لِيَحْكُمَ} ولم يقل ليحكما لأن المعني به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما بدأ بذكر الله إعظاما لله واستفتاح كلام.
الثانية : قوله تعالى : {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي طائعين منقادين ؛ لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحق. يقال : أذعن فلان لحكم فلان يذعن إذعانا. وقال النقاش : {مُذْعِنين} خاضعين ، ومجاهد : مسرعين. الأخفش وابن الأعرابي : مقرين. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك وريب. {أَمِ ارْتَابُوا} أم حدث لهم شك في نبوته
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|