
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ مريم
من صــ 74 الى صــ 83
الحلقة (459)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير سورة مريم عليها السلام
وهي مكية بإجماع. وهي تسعون وثمان آيات
ولما كانت وقعة بدر ، وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة ، فأهدوا إلى النجاشي ، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش ، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر ؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثهما ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم عمرو بن أمية الضمري ، وكتب معه إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة مريم {كهيعص} وقاموا تفيض أعينهم من الدمع ، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} وقرأ إلى قوله : {الشَّاهِدِينَ} . ذكره أبو داود. وفي السيرة ؛ فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال جعفر : نعم ؛ فقال له النجاشي : اقرأه علي. قال : فقرأ {كهيعص} فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم ؛ فقال النجاشي : هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ؛ وذكر تمام الخبر.
[1] {كهيعص}
[2] {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عبد هُ زَكَرِيَّا}
[3] {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}
[4] {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}
[5] {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً}
[6] {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً}
[7] {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً}
[8] {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}
[9] {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}
[10] {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}
[11] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}
[12] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}
[13] {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً}
[14] {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً}
[15] {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}
قوله تعالى : {كهيعص} تقدم الكلام في أوائل السور. وقال ابن عباس في {كهيعص} : أن الكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق ، ذكره ابن عزيز القشيري عن ابن عباس ؛ معناه كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم بهم ، صادق في وعده ؛ ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضا : الكاف من كريم وكبير وكاف ، والهاء من هاد ، والياء من رحيم ، والعين من عليم وعظيم ، والصاد من صادق ؛ والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضا : هو اسم من أسماء الله تعالى ؛ وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول : يا كهيعص اغفر لي ؛ ذكره الغزنوي. السدي : هو اسم الله الأعظم الذي سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب. وقتادة : هو اسم من أسماء القرآن ؛ ذكره عبد الرزاق. عن معمر عنه. وقيل : هو اسم للسورة ؛ وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف ؛ وعلى هذا قيل : تمام الكلام عند قوله : {كهيعص} كأنه إعلام باسم السورة ، كما تقول : كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرأ ابن جعفر هذه الحروف متقطعة ، ووصلها الباقون ، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء ، وابن عامر وحمزة بالعكس ، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف ، وحكى غيره أنه كان يضم ها ، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم : ولا يجوز ضم الكاف والهاء والياء ؛ قال النحاس : قراءة أهل المدينة
من أحسن ما في هذا ، والإمالة جائزة في هاويا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا : لا تجوز ؛ منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ ؛ قال : كان الحسن يشم الرفع ؛ فمعنى هذا أنه كان يومئ ؛ كما سيبويه أن من العرب من يقول : الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو ، ولهذا كتبها في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء "ص" نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب ، وهو اختيار أبي عبيد ؛ وأدغمها الباقون.
قوله تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عبد هُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}
قوله تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} في رفع "ذكر" ثلاثة أقوال ؛ قال الفراء : هو مرفوع بـ "كهيعص" ؛ قال الزجاج : هذا محال ؛ لأن "كهيعص" ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا ، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به ، وليس "كهيعص" من قصته. وقال الأخفش : التقدير ؛ فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث : أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل : "ذكر رحمة ربك" رفع بإضمار مبتدأ ؛ أي هذا ذكر رحمة ربك ؛ وقرأ الحسن {ذكر رحمة ربك} أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ {ذكر} على الأمر. "ورحمة" تكتب ويوقف عليها بالهاء ، وكذلك كل ما كان مثلها ، لا اختلاف فيها بين النحويين واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقا بينها وبين الأفعال.
الثانية ـ {عبده} قال الأخفش : هو منصوب بـ "رحمة" . "زكريا" بدل منه ، كما تقول : هذا ذكر ضرب زيد عمرا ؛ فعمرا منصوب بالضرب ، كما أن "عبد ه" منصوب بالرحمة. وقيل : هو على التقديم والتأخير ؛ معناه : ذكر ربك عبد ه زكريا برحمة ؛ فـ "عبد ه" منصوب بالذكر ؛ ذكره الزجاج والفراء. وقرأ بعضهم {عبد ه زكريا} بالرفع ؛ وهي قراءة أبي العالية. وقرأ يحيى بن يعمر "ذكر" بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبد ه زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في {زكريا} في "آل عمران" .
الثالثة ـ قوله تعالى : {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} مثل قوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقد تقدم. والنداء الدعاء والرغبة ؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله : {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} فبين أنه استجاب له في صلاته ، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء ؛ فقيل : أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن ؛ ولأنه أمر دنيوي ، فإن أجيب فيه نال بغيته ، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل : مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل : لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل : "خفيا" سرا من قومه في جوف الليل ؛ والكل محتمل والأول أظهر ؛ والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة "الأعراف" وهذه الآية نص في ذلك ؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي" وهذا عام. قال يونس بن عبيد : كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت ، وتلا يونس {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} . قال ابن العربي : وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي ، والجهر به أفضل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا.
قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} فيه مسألتان :
الأولى ـ قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ} قرئ "وهن" بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال : وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال : وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن ، وبه قوامه ، وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته ؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه ؛ فإذا وهن كان ما وراءه أوهن
منه. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام ، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر ، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها.
الثانية ـ قوله تعالى : {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار ؛ شبه به انتشار الشيب في الرأس ؛ يقول : شخت وضعفت ؛ وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. "وشيبا" في نصبه وجهان : أحدهما : أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب ؛ وهذا قول الأخفش. وقال الزجاج : وهو منصوب على التمييز. النحاس : قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود.
الثالثة ـ قال العلماء : يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع ؛ لأن قوله تعالى : {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} إظهار للخضوع. وقوله : {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته ؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقيا ؛ أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك ؛ أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى. يقال : شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا ؛ فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا ؛ وقضى حاجته.
قوله تعالى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} فيه سبع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ويحيى بن يعمر {خفت} بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من "الموالي" لأنه في رفع "بخفت" ومعناه انقطعت بالموت. وقرأ الباقون "خفت" بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من "الموالي" لأنه
في موضع نصب بـ "خفت" و "الموالي" هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي. قال الشاعر :
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة : إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب وليا يقوم بالدين بعده ؛ حكى هذا القول الزجاج ، وعليه فلم يسل من يرث ماله ؛ لأن الأنبياء لا تورث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية ، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال ؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" وفي كتاب أبي داود : "إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم" . وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله : {يَرِثُنِي} .
الثانية ـ هذا الحديث يدخل في التفسير المسند ؛ لقوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} وعبارة عن قول زكريا : {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وتخصيص للعموم في ذلك ، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده ؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم ، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب ؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض ، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال : {يَرِثُنِي} مالا {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} النبوة والحكمة ؛ وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور ؛ قال أبو عمر. قال ابن عطية : والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال ؛ ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنا معشر الأنبياء لا نورث" ألا يريد به العموم ، بل على أنه غالب أمرهم ؛ فتأمله. والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين ، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره : قوله {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يريد العلم والنبوة.
الثالثة ـ قوله تعالى : {مِنْ وَرَائي} قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي. الباقون بالهمز والمد وسكون الياء. والقراء على قراءة {خفت} مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جدا ؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول : خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي ؟ !. النحاس : والتأويل لها ألا يعني بقوله : {مِنْ وَرَائي} أي من بعد موتى ، ولكن من ورائي في ذلك الوقت ؛ وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا ، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} . ابن عطية : {مِنْ وَرَائي} من بعدي في الزمن ، فهو الوراء على ما تقدم في "الكهف" .
الرابعة ـ قوله تعالى : {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل ، وهي أخت حنة بنت فاقوذا ؛ قاله الطبري. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في "آل عمران" بيانه. وقال القتبي : امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران ، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام : "فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى" شاهدا للقول الأول. والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها ؛ وقد مضى بيانه في "آل عمران" . والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى : {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} وكذلك العاقر من الرجال ؛ ومنه قول عامر بن الطفيل :
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا
جبانا فما عذري لدى كل محضر
الخامس ـ قوله تعالى : {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حال وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة : جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل : خمس وتسعين سنة ؛ وهو أشبه ؛ فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره ؛ ولذلك قال : {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} . وقالت طائفة : بل طلب الولد ،
ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه ، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم ، ولا يتحصل منه الغرض.
قال العلماء : دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه ، وإحياء نبوته ، ومضاعفة لأجره لا للدنيا ، وكان ربه قد عوده الإجابة ، ولذلك قال : {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} ، أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة ؛ أن يتشفع إليه بنعمه ، يستدر فضله بفضله ؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله ؛ فقال له حاتم : من أنت ؟ قال : أنا الذي أحسنت إليه عام أول ؛ فقال : مرحبا بمن تشفع إلينا بنا. فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن ؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى ؛ فإنه تعالى قال : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته ؛ فقال تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}
إن قال قائل : هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد ، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد ، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك ؛ فقال : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } . قال : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في "آل عمران" بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال : {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقال : {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } . والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة ، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال : "اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته" فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده ، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء ؛ وقد تقدم في "آل عمران" بيانه.
قوله تعالى : {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} فيه أربع مسائل :
الأولى ـ قوله تعالى : {يَرِثُنِي} قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة {يرثني ويرث} بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما ، وليس هما جواب "هب" على مذهب سيبويه ، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث ؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا ؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته ؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث ؛ فقال : هب لي الذي يكون وارثي ؛ قاله أبو عبيد ؛ ورد قراءة الجزم ؛ قال : لأن معناه إن وهبت ورث ، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه ؟ ! النحاس : وهذه حجة متقصاة ؛ لأن جواب الأم عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة ؛ تقول : أطع الله يدخلك الجنة ؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة.
الثانية ـ قال النحاس : فأما معنى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة ؛ قيل : هي وراثة نبوة. وقيل : وراثه حكمة. وقيل : هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال ؛ لأن النبوة لا تورث ، ولو كانت تورث لقال قائل : الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن ؛ وفي الحديث "العلماء ورثة الأنبياء" . وأما وراثة المال فلا يمتنع ، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا نورث ما تركنا صدقة" فهذا لا حجة فيه ؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى : لا نورث الذي تركناه صدقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه ؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} لأن معنى "لله" ومن سبيل الله ، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا ؛ فإن قيل : ففي بعض الروايات "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" ففيه التأويلان جميعا ؛ أن يكون "ما" بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر : واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام : "لا نورث ما تركنا صدقة" على قولين : أحدهما : وهو
الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة. والآخر : أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث ؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته ، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره ؛ وهذا القول قال بعض أهل البصرة منهم ابن علية ، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.
الثالثة ـ قوله تعالى : {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قيل : هو يعقوب بن إسرائيل ، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ، ويرجع نسبها إلى يعقوب ؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب ، وزكريا من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب ، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق. وقيل : المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام ؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان ، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل ؛ قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي : وكان آل يعقوب أخواله ، وهو يعقوب بن ماثان ، وكان فيهم الملك ، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته" . ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي.
الرابعة ـ قوله تعالى : {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل : راضيا بقضائك وقدرك. وقيل : رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح : نبيا كما جعلت أباه نبيا.
قوله تعالى : {يَا زَكَرِيَّا} في الكلام حذف ؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال : {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء : أحدها : إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني : إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث : أن يفرد بتسميته ؛ وقد تقدم معنى تسميته في "آل عمران" . وقال مقاتل : سماه يحي لأنه حيي بين أب شيخ وأم عجوز ؛ وهذا فيه نظر ؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم.
قوله تعالى : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً } أي لم نسم أحدا قبل يحي بهذا الاسم ، قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي . ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين . وقال مجاهد وغيره : { سَمِيّاً } معناه مثلا ونظيرا ، وهو مثل قوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } معناه مثلا ونظيرا ]وهذا[ كأنه من المساماة والسمو ، وهذا فيه بعد ، لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى ، اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر مثله ولدا . وقيل : إن الله تعالى اشترط القبل ، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل :
سنع الأسامي مسبلي أزر
حمر تمس الأرض بالهدب
وقال رؤية للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه : أنا ابن العجاج ، فقال قصرت وعرفت.
قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ } ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به ، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل غير هذا مما تقدم في "آل عمران" بيانه . { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف ، ومثله العسي . قال الأصمعي : عَسَا الشيءُ يَعْسُوعُسُوّا وعَسَاء ممدود أي َيبِس وصَلُبَ ، وقد عسا الشيخُ يَعْسُو وَلَّى وكَبِر مثل عَتَا ، يقال : عَتَا الشيخ يَعتو عُتيا وعِتيّاّ كبر وولّى. وعتوت يافلان تعتو عُتواً وعِتيا. والأصل عتو لأنه من ذوات الواو ، فأبدلوا من الواو ياء ، لأنها أختها وهي أخف منها ، والآيات على الياءات ، ومن قال "عِتِيّاً" كره الضمة مع الكسرة والياء ، وقال الشاعر :
إنما يعذر الوليد ولا يعـ
ــذر من كان في الزمان عتيا