هل يقتضي النهي فساد المنهي عنه (الاتجاهات، المآخذ)
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
§ ما أهمية المسألة؟
هذه المسألة اعتاصت على قوم من المحققين فذهبوا إلى آراء معضلة تداعي مذهب أبي حنيفة، كما يقول الزركشي في البحر المحيط[1]، وجعلها ابن اللحام في القواعد الأصولية من أمهات مسائل الخلاف، ووصفها الزنجاني في كتابه تخريج الفروع على الأصول بأنها: (أصل عظيم فيه اختلاف الفئتين)، نقلا عن التعليل المقاصدي لعبدالقادر خرز الله.
وتظهر قيمة المسألة أنها تنبني على جذور ومقدمات، وتتفرع منها جملة لا حصر لها من التفريعات، قال العلائي: مسألة إقتضاء النهي الفساد من مهمات الفوائد وأمهات القواعد لرجوع كثير من المسائل الفرعية إليها وتخريج خلاف الأئمة في مآخذهم عليها[2].
وعندما اعتبر الطوفي مسألة مبدأ اللغات من رياضات الأصول، مثل بمسألتين على الضروري من الأصول، إحداهما هذه المسألة[3]، وتبعه على ذلك الزركشي في البحر المحيط.
إضافة إلى أن المذاهب في المسألة قد اضطربت، وتشعبت الآراء، وتباينت المطالب، وكل الأئمة المجتهدين قد تناقض فيها قولهم، ولم يطردوا أصلهم الذي اختاروه فيها سوى الإمام الشافعي ومن تابعه، بحسب رأي العلائي[4].
وقد حكى العلائي في الفصل الثاني من كتابه: "تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد" كثيرا من الأقوال المشكلة في المسألة إضافة إلى أن في المنقول عن أصحابها اضطراب.
§ هل مقتضى المسألة عقلي أو شرعي أو وضعي؟
يرى ابن الحاجب أن مقتضى مسألة الصحة والفساد، عقلي، وليس شرعيا، ولا وضعيا، فالعقل يفيد ابتداء صحة الشيء إذا اكتملت أركانه وشروطه، وعدم صحته إذا اختل شيء منها، أما ما يكون به الشيء صحيحا في الشرع، فهذا مرده إلى الشرع، ولا دخل للعقل فيه[5].
ورجح هذه الطريقة: الدكتور محمد المنيعي في كتابه البطلان وأثره في العبادات، وهذا القول له وجاهته كما ترى.
فهي عقلية باعتبار أنها تنظم صورة الاقتضاء العقلي لصحة الشيء إذا تمت ماهيته وأركانه، وشرعية باعتبار المضمون، فإن الشارع هو الذي يفيد ما يصح به الشيء وما لا يصح[6].
وقد انتقد ابن تيمية طريقة كثير من المتكلمين في بناء هذه المسألة: وبين أنهم لم يكونوا من أئمة الفقه العارفين بتفصيل أدلة الشرع، وأنهم وأمثالهم لا يتكلمون في الأدلة الشرعية الواقعة، وهي الأدلة التي جعلها الله ورسوله أدلة على الأحكام الشرعية، بل يتكلمون في أمور يقدرونها في أذهانهم أنها إذا وقعت هل يستدل بها أم لا يستدل، والكلام فيذلك لا فائدة فيه، ولهذا لا يمكنهم أن ينتفعوا بما يقدرونه من أصول الفقه في الاستدلال بالأدلة المفصلة على الأحكام فإنهم لم يعرفوا نفس أدلة الشرع الواقعة بل قدروا أشياء قد لا تقع وأشياء ظنوا أنها من جنس كلام شارع، وهذا من هذا الباب، فإن الشارع لم يدل الناس قط بهذه الألفاظ التي ذكروها، ولا يوجد في كلامه شروط البيع، أو النكاح، كذا، وكذا، ولا هذه العبادة، أو العقد صحيح؛ أو ليس بصحيح، ونحو ذلك مما جعلوه دليلا على الصحة والفساد، بل هذه كلها عبارات أحدثها من أحدثها من أهل الرأي والكلام[7].
وفي كلام ابن تيمية: جانب من النظر العميق في خطأ تناول المتكلمين كثير من المسائل الفقهية وأصولها، والتي ليست من شأنهم، وإنما يتداولونها نظرا مجردا، وقد تكون أبعد مات كون عن الواقع العملي.
§ النهي عن الشيء ثلاثة أقسام:
الأول: ما يرجع إلى ذات المنهي عنه كنكاح المحارم، وبيع الحر.
ومثل له العلائي: بالكذب والظلم، وهذا هو الدارج في أمثلة الأصوليين، وسيأتي في كلام ابن تيمية ما يفيد أن ما كان كالكذب والظلم ونحو ذلك فهو خارج موضوع المسألة، وسيأتي سببه.
الثاني: ما يرجع إلى غيره كالنهي عن البيع وقت النداء وعن النجش وما أشبههما.
الثالث: ما يرجع إلى وصف المنهي عنه كصوم يوم النحر وبيع الربويات على الوجه المنهي عنه والوطء في حالة الحيض والطلاق فيه أيضا، فالصوم من حيث إنه صوم مشروع لكن من حيث إيقاعه في يوم العيد منهي عنه والبيع مشروع من حيث الجملة لكن من حيث إيقاعه انه وقع مقرونا بشرط فاسد أو بزيادة في المال الربوي ممنوع وكذلك الوطء والطلاق حالة الحيض[8].
§ وينقسم عند آخرين إلى قسمين:
القسم الأول: النهي عن الشيء لعينه.
وفيه نوعان:
النوع الأول: وضعي كالعبث والسفه.
النوع الثاني: شرعي كبيع الحر والمضامين والملاقيح والصلاة بغير طهارة لارتفاع أهلية الأداء شرعا.
القسم الثاني: النهي عن الشيء لغيره.
وفيه نوعان:
النوع الأول: مجاور: كالوطء في الحيض والبيع وقت النداء وكصوم يوم النحر والصلاة في الدار المغصوبة.
النوع الثاني: وصف لازم: كبيع الربوي متفاضلا أو بنسيئة وسائر العقود الفاسدة[9].
ولخص الزركشي: أنواع المنهي عنه بأنه أربعة: (إما تمام الماهية أو جزؤها أو لازم لها أو خارج مقارن)[10].
§ الأقوال في المسألة:
للأصوليين والفقهاء عدة طرق في صياغة مسألة :"هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه":
1) منهم من أطلق الفساد (مذهب لأحمد وسائر الظاهرية[11]).
2) منهم من أطلق عدم الفساد (الأكثر من المتكلمين[12]، الغزالي[13]).
3) منهم من قيد الفساد بإحدى الحالات التالية:
§ إذا كان النهي عائدا إلى عينه لا إلى وصفه(الحنفية).
§ إذا كان النهي عائدا إلى عينه أو وصفه اللازم دون وصفه المجاور (المالكية، الشافعية[14]، الطوفي، العلائي[15])[16].
§ إذا كان النهي عائدا إلى عينه أو وصفه اللازم أو وصفه المجاور (الحنابلة).
§ إذا كان النهي في العبادات دون المعاملات(أبو الحسين البصري، الرازي، الآمدي[17]، حكي عن الغزالي[18]).
§ إذا كان النهي لحق الله لا لحق المخلوقين(ابن تيمية، التلمساني[19]، اللخمي[20]).
§ ويمكن تلخيصها من زاوية السعة والضيق إلى ثلاثة مراتب:
- الموسعون (الحنابلة والظاهرية): يقتضي النهي فساد المنهي عنه مطلقا أو فيغالب الصور (إما مطلقا كما هي طريقة الظاهرية، وإما إذا عاد النهي إلى عينه أو وصفه اللازم أو المجاور كما هو المشهور عند الحنابلة).
- المضيقون (الحنفية): يقتضي النهي فساد المنهي عنه إذا كان عائدا إلى عينه فقط.
- المتوسطون (الجمهور): يقتضي النهي فساد المنهي عنه إذا كان النهي عائدا إلى ذاته أو شرطه.
أما القولان: باقتضاء النهي الفساد في حق الله لا في حق الآدمي، أو في العبادات دون المعاملات، فسيأتي أنها عند التحقيق خارج الخلاف، وأن القائلين بها ترجع حقيقة أقوالهم إلى إحدى المراتب الثلاثة السابقة.
وقد لاحظ القرافي هذه المراتب الثلاثة: فوصف قول أصحابه المالكية بالتوسط في اعتبار الفرق، وقول الحنفية بالمبالغة في اعتبار الفرق، وقبالته الحنابلة بإلغاء هذا الفرق[21].
ويمكن تلخيص المسألة جملة: بأن النهي إذا كان راجعا إلى ذات المنهي عنه فإنه يقتضي الفساد لا إلأمر خارج منفك عنه، ثم اختلفوا فيما تنفك به ا لجهة، إلى إحدى الاعتبارات السابقة.
§ محل الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه:
أن يمكن ألا يحصل مقصود: كالنكاح والبيع؛ فهو يحل تارة ويحرم تارة فينقسم إلى صحيح وفاسد كالبيع المحرم والنكاح المحرم، والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه.
أما الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها: فقد قرر ابن تيمية أنه يقال إنها باطلة أو غير منعقدة، كالمنهي عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله، فمن كفر أو كذب لا يمكن أن يقال: ما كفرَ ولا كذبَ، فهذه لا يمكن أن تنقسم إلى صحيح وغير صحيح؛ بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال[22].
وفسر بعضهم فساد المنهي عنه في الأفعال الحسية: أن المراد انتفاء المشروعية، ولهذا لم يقل أحد بمشروعية الزنى والغصب[23].
والغالب من الأصوليين والفقهاء: إدراجها في قسم المنهي عنه لذاته، وأنه باطل، لا يرتب الشارع أي أثر عليه لا في التعبد ولا في العقود والإيقاعات.
§ يمكن إضافة "غير العبادات": حيث الفقهاء متفقون على اقتضاء المنهي فساد المنهي عنه في العبادات.
وهذا وإن حكي أنه خارج النزاع، إلا أن ذلك فيما إذا عاد النهي إلى ذاتها لا إلى أمر خارج، كالصلاة في الأرض المغصوبة، ونحو ذلك من المسائل.
§ يمكن إضافة في "غير ذات المنهي عنه": حيث الفقهاء متفقون في الجملة على أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه إذا توجه إلى ذاته وعينه[24].
§ يمكن إضافة: "ما لم يكن النهي لحق آدمي يمكن استدراكه": فإن كان ولا مانع، كتلقي الركبان والنجش، فإنهما يصحان على الأكثرين، ومنهم الحنابلة وهم أكثر المتشددين في هذا الباب[25].
§ يمكن إضافة: "إذا كان النهي للتحريم":فإن كان النهي للكراهة فالذي يشعر به كلام الأكثرين وصرح به جماعة أنه لا خلاف فيه إذ لا مانع من الاعتداد بالشيء مع كونه مكروها[26].
مآخذ الأقوال:
§ مأخذ عدم الفساد مطلقا:
أن النهي خطاب تكليفي، والصحة والفساد إخباري وضعي، وليس بينهما رابط عقلي، وإنما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم به لا في صحته ولا في فساده[27].
وقد انتقد الغزالي التفريق بين ما كان النهي عائدا إلى ذاته أو إلى غيره: لأنه إن أمكن أن يقال: ليس منهيا عن الطلاق لعينه في الطلاق حال الحيض، بل لوقوعه في حال الحيض، وكذا لوقوع الصلاة في الدار المغصوبة، فإنه يمكن تقدير مثل ذلك في الصلاة في حال الحيض!
ومن هنا قال: إنه لا اعتماد إلا على فوات الشرط، ويعرف الشرط بدليل دل عليه وعلى ارتباط الصحة به، ولا يعرف بمجرد النهي فإنه لا يدل عليه لا وضعا ولا شرعا، قال: وكل نهي تضمن ارتكابه الإخلال بالشرط دل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط لا من حيث النهي[28].
§ مأخذ القول باقتضاء النهي فساد المنهي عنه:
ومأخذ هذا القول من وجوه:
الوجه الأول: السنة:
1) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
قال الخطابي: في هذا بيان أن كل شيء نهى عنه صلى الله عليه وسلم من عقد نكاح وبيع وغيرهما من العقود فإنه منقوض مردود لأن قوله فهو رد يوجب ظاهره إفساده وإبطاله إلا أن يقوم الدليل على أن المراد به غير الظاهر فيترك الكلام عليه لقيام الدليل فيه[29].
وقال ابن القيم: هذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده وعدم اعتباره في حكمه المقبول ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه بل كونه ردا أبلغ من كونه باطلا إذ الباطل قد يقال لما لا تقع فيه أو لما منفعته قليلة جدا وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئا ولم يترتب عليه مقصوده أصلا[30].
2) حديث المسيء صلاته: (صل فإنك لم تصل).
3) الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان
صم يوما مكانه)، وذلك دليل على فساد الصوم بارتكاب المنهي عنه
4) عن فضالة رضي الله عنه: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينهما فرده حتى ميز بينهما) رواه مسلم
5) عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين والدة وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع
6) عن أم سلمة رضي الله عنها أنها بعثت بصاعين من تمر عتيق واشترت بهما صاع عجوة فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتناول منه تمرة ثم سأل عنه فأخبرته بما صنعت فألقى التمرة وقال ردوه ردوه التمر بالتمر مثلا بمثل
7) عن أبي المنهال اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة فجاء البراء بن عازب فسألناه فقال فعلتهأنا وشريكي زيد بن أرقم قال فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أما ماكان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه
8) حديث بيع الصاعين من التمر بالصاع، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أوه عين الربا"، وذلك بعد القبض، فأمر برده[31].
9) حديث العسيف: قوله صلى الله عليه وسلم: (المائة شاة والخادم رد عليك) أي مردود عليك والمردود هو المفسوخ الذي لا يعمل به ولا يلتفت إليه وهو نقيض المقبول والصحيح[32].
10) أن في الشرعيات منهيات باطلة، ولا مستند لها إلا أن النهي للأصل[33].
الوجه الثاني: الإجماع:
فإنه قد تواتر عن الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه أنهم كانوا يحتجون على فساد العقود بمجرد النهي، في وقائع كثيرة يقتضي مجموعها القطع بذلك لاستعمالها على المعنى الكلي، وذلك كاحتجاجهم على فساد نكاح المشركات ونكاح المحرم وعقود الربا، ولم ينقل عن أحدمنهم إنكار ذلك[34].
الوجه الثالث: المعنى: وذلك بطرق، منها:
- أن الشيء إنما نهي عنه لرجحان المفسدة، ومقصود الشرع رفع الفساد ومنعه لا إيقاعه والإلزام به، فإذا جعله صحيحًا بحيثُ يترتب عليه حكمه ويحصُل به مقصودُه لَزِمَ وقوعُ المفسدة، لالتزام فسادٍ قد شرع دفعه ومنعه، بل الفساد ينشأ من صحة المنهي عنه أكثر من فعله، فأما إذا أبطلَه فلم يترتَّب عليه مقصود المنهي الذي ارتكبه انتفت المفسدةُ بالكلية؛ فإن الحكم بفساد المنهي عنه إعدام لها بأبلغ الطرق[35].
- أن المخالفين أبطلوا النكاح في العدة ونكاح المحرم، والمحاقلة والمزابنة والمنابذة والملامسة، والعقد على منكوحة الأب لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}. {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} والصلاة في المكان النجس والثوب النجس، وحالة كشف العورة، إلى غير ذلك، ولا مستند إلا النهي[36].
يتبع