أهمية الأوقاف وضرورة المشاريع الاستثمارية الوقفية في الإسلام
د. أبو عز الدين عبد الله أحمد الحجري
يعتبر الوقف في الإسلام من أجلِّ القُربات وأعظم الصدقات، فهو نموذج فريد للتكافل الاجتماعي، والعطاء المستدام الذي يميز الحضارة الإسلامية، إنه عبادة مالية تجمع بين البذل في سبيل الله، وتحقيق المنفعة المستمرة للمجتمع؛ حيث يحبس الواقف الأصل ويسبِّل المنفعة؛ وقد عرَّفه ابن قدامة المقدسي بأنه "تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة"، وهو من الصدقة الجارية التي يستمر ثوابها بعد وفاة صاحبها.
تأسست مشروعية الوقف على عموم النصوص القرآنية التي تحث على البر والإحسان، والإنفاق في سبيل الله؛ ومن أبرز هذه النصوص قوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، وكذلك قوله سبحانه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، وأيضًا قوله تعالى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20].
أما من السنة النبوية فقد وردت أحاديث صريحة تدل على مشروعية الوقف وفضله؛ ومن أشهرها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ابن آدم، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))؛ [رواه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته]، وقد فسَّر العلماء الصدقة الجارية بالوقف؛ لاستمرار منفعته، وديمومة ثوابه.
وكان من أوائل الأوقاف في الإسلام وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصِب مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر: أنه لا يُباع أصلها، ولا يُوهب، ولا يُورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من ولِيَها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعَم غير متموِّلٍ))؛ [رواه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب الوقف: كيف يُكتب؟]، وهذا الحديث يعد أصلًا في مشروعية الوقف وبيان أحكامه.
ومن المواقف المشهورة أيضًا قصة أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه؛ فقد روى أنس رضي الله عنه قال: ((كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاءَ، وكانت مستقبلةً المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ؛ فلما نزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإن أحب مالي إليَّ بَيرُحاءُ، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخرها عند الله، فضَعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه))؛ [رواه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب].
للأوقاف أهمية كبيرة في المجتمع الإسلامي على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية والعلمية؛ فاجتماعيًّا، تسهم الأوقاف في تحقيق التكافل الاجتماعي، وسدِّ حاجات الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، فمن خلالها، يتم توفير المأوى للمحتاجين، والغذاء للجائعين، والعلاج للمرضى، وتيسير الزواج للشباب المُعسرين، وكفالة الأيتام والأرامل، وهذا من شأنه أن يُعزِّز الترابط المجتمعي، ويقلل الفوارق الطبقِيَّة.
أما اقتصاديًّا، فتُعد الأوقاف من أهم الموارد الاقتصادية المستدامة التي تسهم في تنمية المجتمع وازدهاره؛ فهي تعمل على توفير فرص عمل للعاملين في إدارة الأوقاف واستثمارها، مما يسهم في تقليل البطالة، وتنشيط الحركة الاقتصادية، كما توفر مصدرَ دخل ثابتًا ومستمرًّا للجهات الموقوف عليها، مما يحقق الاستقلالية المالية لهذه الجهات، ويقلل من اعتمادها على التبرعات غير المنتظمة أو المساعدات الخارجية.
وعلى الصعيد العلمي والثقافي، لعبت الأوقاف على مر التاريخ الإسلامي دورًا بارزًا في دعم الحركة العلمية والثقافية، من خلال بناء المدارس والجامعات وتجهيزها، وتوفير المنح الدراسية لطلاب العلم، ودعم البحث العلمي، وتأليف الكتب، ونشر العلم، وتمويل المكتبات العامة، وتوفير الكتب للمجتمع، وما زالت الكثير من المؤسسات التعليمية العريقة في العالم الإسلامي تعتمد في تمويلها على أوقاف قديمة خُصصت لها.
وفي ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم، تبرُز أهمية إنشاء المشاريع الاستثمارية الوقفية؛ لِما تحققه من فوائد عظيمة؛ إذ تسهم هذه المشاريع في استدامة موارد الوقف، وزيادة غلتها من خلال الاستثمار الأمثل لأصوله، وتوفير التمويل اللازم للمشاريع الخيرية والتنموية، والمساهمة في معالجة مشكلات الفقر والبطالة، كما تساعد على تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية، وتحقيق التنمية المستدامة للأمة الإسلامية.
يقول الله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، والأوقاف الاستثمارية من أبرز صور التعاون على البر والتقوى.
ومن النماذج المعاصرة للأوقاف الاستثمارية التي تخدم الفقراء والمساكين وطلاب العلم، نجد "صندوق الوقف التعليمي" التابع لمؤسسة الأوقاف وشؤون القُصَّر في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، أُسس هذا الصندوق عام 2007م، ويُدار من قِبل أمانة أوقاف دبي، وقد نجح في جمع أكثر من 500 مليون درهم إماراتي كرأس مال وقفي، يستثمر الصندوق هذه الأموال في أصول متنوعة تشمل العقارات التجارية، والوحدات السكنية الفاخرة في أرقى مناطق دبي، بالإضافة إلى محفظة استثمارية في الأسهم والصكوك الإسلامية، ويوجه ريع هذه الاستثمارات لتقديم المنح الدراسية للطلاب المتفوقين من الأسر المحتاجة، وتمويل البحوث العلمية في المجالات ذات الأولوية، ودعم المدارس والجامعات وتطوير مرافقها، وقد استفاد من هذا الصندوق منذ تأسيسه أكثر من 12 ألف طالب وطالبة من مختلف الجنسيات داخل الإمارات وخارجها.
ونموذج آخر للأوقاف الاستثمارية، نجده في المملكة العربية السعودية؛ وهو "برج الخير الوقفي" الذي أنشأته مؤسسة الأميرة العنود الخيرية في مدينة الرياض عام 2014م، يقع البرج في حي المعذر وسط العاصمة الرياض على مساحة 7280 مترًا مربعًا، ويتكون من 18 طابقًا تضم مكاتبَ تجارية فاخرة للشركات والمؤسسات، استثمرت المؤسسة في هذا المشروع أكثر من 250 مليونَ ريالٍ سعودي، ويحقق البرج عائدًا سنويًّا يتجاوز 20 مليون ريال، يوجه ريع هذا البرج لدعم الأسر المحتاجة وتوفير السكن الملائم لهم، وتمويل مشاريع رعاية الأيتام، وبرامج تأهيل وتدريب الشباب والفتيات وتوظيفهم، بالإضافة إلى تقديم العلاج للمرضى المعسرين، وقد بلغ عدد المستفيدين من برامج المؤسسة التي يمولها ريع هذا البرج أكثر من 7 آلاف مستفيد سنويًّا.
كذلك من النماذج الرائدة في الأوقاف الصحية الاستثمارية، "مستشفى مغربي للعيون" في المملكة العربية السعودية، الذي أسسه الدكتور عاكف المغربي عام 1986م، يعمل المستشفى وفق نموذج وقفيٍّ استثماري فريد؛ حيث يقدم خدماته الطبية للقادرين بأسعار تنافسية، بينما يخصص نسبة كبيرة من أرباحه (تصل إلى 30%) لعلاج المرضى غير القادرين بشكل مجاني، وقد توسعت شبكة المستشفيات لتشمل 15 فرعًا في مختلف مدن المملكة العربية السعودية، ودول الخليج العربي، وبلغ عدد العمليات الجراحية المجانية التي قدمتها للفقراء والمحتاجين أكثر من 50 ألف عملية منذ تأسيسها، بتكلفة تقديرية تتجاوز 600 مليون ريال سعودي.
وفي الكويت، يُعَدُّ "مجمع الأوقاف" الذي أنشأته الأمانة العامة للأوقاف في قلب العاصمة الكويت عام 1993م، نموذجًا للوقف الاستثماري الشامل، يضم المجمع محلاتٍ تجارية، ومكاتبَ إدارية، ومرافق خدمية متنوعة، ويوجه ريعه السنوي البالغ نحو 5 ملايين دينار كويتي لدعم مشاريع رعاية القرآن الكريم وعلومه، وكفالة طلاب العلم، ورعاية المحتاجين من الأسر الفقيرة، والمرضى، وذوي الاحتياجات الخاصة، وقد أصبح هذا المجمع مَعْلَمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا بارزًا في دولة الكويت.
إن الوقف في الإسلام ليس مجرد عمل خيري، بل هو نظام اقتصادي واجتماعي متكامل، ساهم عبر التاريخ في بناء الحضارة الإسلامية وتطوير مجتمعاتها، والعودة إلى إحياء سُنة الوقف في صورة مشاريع استثمارية وقفية عصرية، يمثِّل ضرورة شرعية واقتصادية واجتماعية لنهضة الأمة؛ قال تعالى: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، والوقف من أفضل أبواب الخير التي تستمر بعد الممات، ويبقى أجرها في ميزان العبد المسلم ما دام ينتفع به الناس.
وإن إنشاء المشاريع الاستثمارية الوقفية والمشاركة فيها واجب ديني وإنساني، يجسِّد معاني العطاء المستدام والتكافل الاجتماعي، ويُسهم في تنمية المجتمع وسدِّ حاجات المحرومين؛ تحقيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى))؛ [رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم]، فلنسارع إلى إنشاء الأوقاف الاستثمارية وتطويرها، ولنشجِّع الموسرين والشركات والمؤسسات على المشاركة في هذا العمل الخيري، لنكون من السبَّاقين إلى الخيرات، ولنترك أثرًا صالحًا يبقى بعد مماتنا، فخير الناس أنفعهم للناس.