
28-05-2025, 12:13 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,334
الدولة :
|
|
رد: الصوم ... والتأهيل الحضاري
الصوم ... والتأهيل الحضاري -3-
ماجد الدرويش
دور الصوم في تحصيل التزكية والتأهيل الحضاري: وبزكَاءِ النَّفْسِ وطَهارَتِها يَصِيرُ الإِنْسانُ بحيثُ يسْتَحقُّ فِي الدُّنيا الأَوْصافَ المَحْمودَةَ وَفِي الآخِرَةِ الأَجْرَ والمَثُوبَةَ، وَهُوَ أَن يَتحرَّى الإِنْسانُ مَا فِيهِ تَطْهِيره، وَذَلِكَ يُنْسَبُ:
- تارَةً إِلَى العَبْد لاكْتِسابه ذلكَ نَحْو قوْلِه، عزَّ وجلَّ: ﴿قد أَفْلَح مَنْ زَكَّاها﴾ ؛
- وتارَةً يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ، عزَّ وجلَّ، لكوْنِه فاعِلاً لذلِكَ فِي الحقِيقَةِ نَحْو: ﴿ولكنَّ اللَّهَ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ﴾.
- وتارَةً إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم لكوْنه واسِطَة فِي وُصولِ ذلكَ إِلَيْهِم نَحْو قوْلِه: ﴿خُذْ مِن أَمْوالِهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهم بهَا﴾ وقوْلُه: ﴿يَتْلُو عَلَيْكم آياتِهُ ويُزَكِّيكم﴾.
- وتارَةً إِلَى العِبادَةِ الَّتِي هِيَ آلَةٌ فِي ذلِك نَحْو: ﴿وَحَنَانًا مِن لدُنَّا وزَكاةً﴾ ، وقوْله تَعَالَى: ﴿لأَهِبَ لكَ غُلاماً زَكِيّاً﴾ أَي مُزَكىً بالخِلْقَةِ وذلكَ على طَريقِ مَا ذَكَرْناه من الاجْتِباءِ، وَهُوَ أنْ يجعلَ بعضَ عِبادِهِ عالِماً لَا بالتَّعَلُّمِ والمُمارَسَةِ، بل بقوَّةٍ إلهيَّةٍ كَمَا يكونُ لكلِّ الأَنْبياءِ والرُّسُل.
والصوم يجمع هذه النسب الأربعة. فالعبد عندما يختار الصوم فهو يعمل على تزكية نفسه لأن الصوم فيه الكثير من هذه المعاني الفاضلة، ويكفي أن نعلم ان الأجر العظيم للصوم لا يحصله الصائم بمجرد ترك المفطرات، بل عليه ان يقرن ذلك بترك سائر المحرمات: من اللغو، والرفث، وقول الزور، والوفاء بالحقوق.
قال الحافظ ابن رجب:
"واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) خرّجه البخاري، وفي حديث آخر: (ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث). وقال الحافظ أبو موسى المديني: على شرط مسلم.
قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام.
وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر).
وسر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به هذا هو قول جمهور العلماء.
وفي مسند الإمام أحمد أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتا من العطش فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن تتقيآ فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس).
ولهذا المعنى، والله أعلم، ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات. انتهى.
وبهذا الاعتبار يمكن نسب التزكية إلى الله تعالى.
وكذلك يمكن أن ننسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علمنا كيف يكون الصيام على الوجه المتقبل عند الله تعالى، وعلى الوجه الذي يؤدي الحكمة من الصوم وهو تحقيق التقوى.
وكذلك يمكننا أن ننسبها إلى نفس العبادة ( الصوم ) فهي عبادة جامعة للنية الصادقة ، والتحكمِ بالشهوات المهلكة للنفس، ومَنْ كَبَحَ جماح نفسه عما أحله الله تعالى له في أوقات مخصوصة طاعة لله سبحانه ، كان على أن يمنعها عما حرم الله سبحانه وتعالى في كل الأوقات أقدر.
فتأتي هذه العبادة لتصون النفس عن الشهوات، فتخرجها من دائرة الأنانية المهلكة للأفراد والمجتمعات، إلى دائرة الإيثار وحب الخير للغير الذي يبني روابط المحبة والأخوة بين الناس، وبالتالي يحصن المجتمعات من أسباب الصراع بين أبنائه، هذا الصراع الذي يبدأ عندما يشعر البعض بأن حقوقهم مصادرة، وكرامتهم مهدرة، وأن أصحاب السلطة والمال يستعبدونهم مستغلين حاجتهم. وهذا هو الاستعباد الذي يمارسه أصحاب الأنانيات المفرطة سواء في الحكم أم في المال.
فكم من حاكم قال لقومه: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ وقال لهم:﴿ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ﴾.
وكم من صاحب مال جحد نعمة الله تعالى عليه، وجحد حق الفقراء فيما استخلفه الله تعالى فيه، فقال: ﴿إنما أوتيته على علم عندي﴾. وأنكر حق الله تعالى في أن يكون هو الذي يشرع للناس كيف يتصرفون بأموالهم فقال: ﴿أصلاتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء﴾.
وهل الخلافات المجتمعية ، والثورات الشعبية ، إلا أثر من آثار تلك الأنانيات المفرطة عند الحكام وأرباب المال؟
فاجتماع هذه النسب في عبادة الصوم وتحقيق معانيها في الصائم تجعله عنصرا فاعلا في المجتمع، بل تحوله إلى مفتاح للتغيير الإيجابي كما قال سبحانه: ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ ، كما تجعله عنصر استقرار للمجتمعات ، فلا الفقراء يحسدون الأغنياء على ما آتاهم الله من فضله، ولا الأغنياء يستأثرون بنعمة الله تعالى عليهم دون سائر أصحاب الحاجات. الأمر الذي يحقق التكامل والتكافل في المجتمع، وهو ما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم وصف ( المواساة ) كما في حديث سلمان عند ابن خزيمة في صحيحه.
وإذا اعتبرنا أن الحضارة هي نتاج استقرار المجتمعات، أدركنا مدى تأثير الصوم في الدفع الحضاري.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|