فنصه سبحانه وتعالى على حل المحصنات من أهل الكتاب، ويستوي في ذلك اليهود والنصارى.
وعند العلماء تفصيل: بعض العلماء يقول: يشترط أن تكون كتابية الأبوين، يعني: والدها كتابي وكذلك أمها كتابية، فإن كانت من أحدهما لم يصح، وظاهر القرآن أن العبرة بها؛ وذلك لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة:5] ، فإن كانت هي تدين بدين أهل الكتاب حل نكاحها على نص القرآن وظاهره، وهذه التفصيلات فيها محل اجتهاد ولا تخلو من نظر.
لكن مسألة الزواج من الكتابيات أمر يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والعصور والدهور، فلا يفتح باب النكاح من الكتابيات، ففي زماننا من المجرب والمعروف أنه شر عظيم وبلاء عظيم، وقوة نفوذ أهل الكتاب خاصة في العصور المتأخرة، فإن المرأة الكتابية قد تتزوج المسلم ثم بعد ذلك تأخذ أولادها منه بالقوة وتنتزعهم منه شاء أو أبى، وتستطيع أن تستغل نفوذا أوسع من نفوذها، ولذلك لابد من فقه الفتوى في الزمان، والنظر إلى ما يجر على المسلمين ومجتمعات المسلمين من فتح هذا الباب من الشر العظيم والبلاء الوخيم، إضافة إلى ما يعرف منهن من أن بعضهن لا يعرفن إلا التهتك، يعني: ليس عندهن إلا الاسم فقط من كونهن كتابيات، والتهتك والعهر والفساد -والعياذ بالله- منتشر بينهن، أضف إلى ما عرف منهن من الكيد للإسلام والخديعة للمسلمين، والتظاهر بمحبة الإسلام من أجل أذية المسلمين، ولذلك لابد من وضع هذه الأمور كلها في الحسبان، فلا نأتي ونقول مثلا: الله أحل لنا نساء أهل الكتاب، بل أحل لك أن تنكح المرأة المسلمة؛ لكن إذا أردت أن تتزوج امرأة مسلمة ولكنها شريرة، وتؤذي جيرانها، وتؤذي أهلك، ولربما كانت نمامة تنقل الحديث، هل يحل لك أن تدخلها على بيئتك ومجتمعك، أم تقف أمام حدود الله ونصوص الشرع من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتتقي الله في جيرانك وأهلك وأمتك ومجتمعك؟ كذلك أيضا أهل الكتاب في زماننا، فإننا وإن وجدنا النص يحل نكاح النساء منهم، ونظرنا إلى الواقع والحقيقة وما يجر ذلك من تبعات وأضرار، فإننا نعطي كل زمان حقه وقدره، فنقول: من أراد أن يأخذ بهذا الحلال، ينبغي أن يضع في حسبانه جميع الآثار والسلبيات والنتائج المترتبة على مثل هذا، والله عز وجل بمنه ورحمته قد أغنى المسلمين عن أمثال هؤلاء، وإنما يقع هذا خاصة في القديم حينما كان أهل الكتاب أهل ذمة وتحت المسلمين، وكانوا يتأثرون بالمسلمين، فالمرأة كانت تحب الإسلام، وهذا كان يقع في المجتمعات التي كان فيها أهل ذمة، ولكن بحكم بيئتها لا تستطيع أن تسلم، فإذا انتزعها المسلم من تلك البيئة وجاء بها أسلمت، ووقع هذا في عصور حينما كانت العزة للإسلام وأهله، ولا زالت والحمد لله العزة للإسلام وأهله، ولكن هناك أمور لابد من وضعها في الحسبان، ولا ينبغي أن نفتح الباب هكذا.
هناك بعض الباحثين كتب في هذه المسألة ورغب وبين أنه حق، وبعض المحاضرين أتى بمحاضرة في نكاح الكتابيات وأنه أمر جائز، دون التفات إلى السلبيات والآثار التي ينبغي وضعها في الحسبان، فالشيء يكون حلالا، لكنه في زمان يحتاج إلى نظر وتأمل، لا نقول: إننا نحرمه، ولكن نقول: من أراد أن يقدم على هذا الشيء، فعليه أن ينظر إلى الآثار السيئة الموجودة المترتبة على هذا الشيء، ثم يقارن: هل يستطيع أن يلقى الله سبحانه وتعالى وقد دفع عن الأمة وعن نفسه وعن ذريته وأهله وولده هذه كلها، أم أنه مستعد لأن يلقى الله سبحانه وتعالى بتبعة ذلك وسيئاته وآثامه؟
حكم تزوج الحر المسلم بأمة مسلمة
قال رحمه الله: [ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرة أو ثمن أمة] قوله: (ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة) هذا المانع يسمى: بمانع الرق، تعرفون أن الرق في الإسلام لا يختص بجنس ولا بلون ولا بطائفة ولا بطبقة، إنما هو لمن كفر، فإذا كفر وحاد الله ورسوله وشاق الله ورسوله، ووقع الجهاد الشرعي بالصفة الشرعية، وأذن الإمام في الرق، حينئذ كانت منقصة من جهة الكفر، فالحر المسلم إذا تزوج مثل هذا النوع الذي في أصله على الكفر فإن هذا يضر بولده ويضر بذريته؛ لأن الولد يتبع أمه رقا وحرية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش) ، وهذا من حق الولد على والده.
فالحر المسلم لا ينكح الأمة إلا بشرطين، وهذان الشرطان لا بد من تحققهما للحكم بالجواز وقد جمعتهما آية النساء: الشرط الأول: أن لا يستطيع طول الحرة، يعني: ليس عنده مال ولا قدرة على الزواج من حرة، فلو كان أقل زواج الحرة يكلف مثلا خمسة آلاف، وليس عنده خمسة آلاف، والنص على اشتراط العجز في قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات} [النساء:25] .
الشرط الثاني: أن يخشى على نفسه الزنا، والنص على الشرط الثاني قوله تعالى: {ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم} [النساء:25] ، ومع ذلك فضل الصبر، رعاية لحق الولد.
فهنا شرطان: أولا: أن يخاف على نفسه الزنا.
وثانيا: ألا يملك طولا.
فإن كان قادرا على الصبر صبر؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله) .
وأما بالنسبة لما يلتحق بمسألة خوف العنت، ألحق بعض العلماء الخدمة، كأن يكون مثلا رجلا كبير السن ولم يجد حرة يتزوجها، قالوا: يجوز أن يتزوج أمة، وفي هذه الحالة يتزوجها لوجود الحاجة والضرورة كما ذكرنا.
فمانع الرق هو أن لا يجوز أن ينكح حر مسلم أمة، فجاز للعبد أن ينكح الأمة للمساواة، وهذا تفريق من الشرع لا أحد يتدخل فيه، ولا يحق لأحد أن يقول: الإسلام يفرق أو ما يفرق، والله لو فرق الإسلام بين أرواحنا وأجسادنا لنعمت عيوننا، ويخسأ أعداء الإسلام، ولا نجلس ونحاول تحليل بعض الشبهات ونهدر جانب العبودية.
فالمرأ إذا وجد حكما من أحكام الله عز وجل، والمرأة إذا وجدت حكما من أحكام الله عز وجل في أمر فرق الله عز جل فيه بين مجتمعين، أو ساوى فيه بين مختلفين أو متضادين في الحكم، ما يملك الواحد منا إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا نتكلف الرد ونجلس نحلل وكأننا مهزومون أمام أعدائنا، نقول للعدو: رغم أنفك، وعلى رغم أنفك نقبل ذلك، نعم نحن نفرق، وهناك فرق بين الرجل والمرأة نعم، وتقول المرأة بملء فيها: رضيت بما يحكم الله عز وجل به، نعم ترضى بذلك وتؤمن به وتسلم به؛ حتى يخسأ عدو الله، أما أن نجلس نلفق ونقول: إن الإسلام لا يقبل هذا إلا في حالات اضطرارية وفي حالات استثنائية، ولا يبيح الرق إلا في حالة كذا وكذا، هذه أحكام شرعية لا يتدخل فيها المكلف، ولا يقيد شيئا أطلقه كتاب الله وأطلقته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاول أن يتكلف في الجواب عن شبهة هي من أصلها ساقطة؛ لأن أهل الشبهة يريدون من المسلم أن يقف موقف المهزوم، لكن لو أننا اعتدنا كلما جاءنا أعداء الإسلام بشبهة نقول: نعم، نرضى بذلك وإن رغم أنفك البعيد، نعم رضينا بذلك، وأبو بكر رضي الله عنه حينما جاءه كفار قريش وقالوا: قد زعم صاحبك أنه ذهب إلى بيت المقدس، قال: هو يقول ذلك؟ -وما زاد على هذا- قالوا: نعم، قال: صدق.
هو قادر أن يقول: إن الله على كل شيء قدير، وإن الله من قدرته قادر على أن يبين لهم، لكن أراد أن يخسئهم، قال: هو يقول ذلك؟ قالوا: نعم، قال: صدق.
ولو أن كل امرأة مسلمة من نساء المؤمنين كلما دخل عليها داخل بالشبهات تقول: نعم رضيت، الإسلام يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، نعم رضيت بملء قلبي وملء لساني، وما الذي يضرني؟ لا يضرني شيء؛ لأني أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله بحكمه حكيم عليم، فمثل هذه الأمور ينبغي وضعها في الحسبان.
فحينما يجعل الإسلام للرجل الحر أن يتزوج الأمة بشروط فهذا حكم الإسلام، ومن عايش الوضع، يعني حينما يكون الإسلام في زمان بينه وبين ملة تخالفه وتضاده وتعاديه، وهذا مشاهد فإن عدو الإسلام إذا تركته جاءك، فلابد للإسلام أن تكون له الكلمة، فلما امتنع هذا من قبول كلمة الإسلام، ووقف وأشهر السلاح في وجه الإسلام، والله عز وجل بحكمه من فوق سبع سماوات أمرنا بقتال هؤلاء، وأباح لنا استرقاقهم، ويصبح العبد مسلوب الحرية، ثم نأتي ونقول: لا ما يسلب الحرية، ما يضرب عليه الرق، ونجد من يقول: ما يضرب الرق إلا في حالات، والإسلام فتح أبواب الخروج من الرق، مع أن الكافر يسترق الحر أكثر من استرقاق الإسلام له، والإسلام لما استرق أعطى حقوقا تعجز الأمم كلها عن الإنصاف فيها مثلما أنصف الإسلام.
فالمقصود أننا ننبه على أنه لا ينبغي العجز أمام أعداء الإسلام في مثل هذه الشبهات، في مسألة النكاح؛ لأن هذه من الشبهات التي أثيرت، يقولون: انظروا كيف يفرق الإسلام! مع أنهم هم يفرقون بين طبقات مجتمعاتهم وبيئاتهم تفريقا أسوأ من التفريق الذي يفرقه الإسلام.
فالمقصود: أن حكم الإسلام أنه يجوز للحر أن ينكح الحرة، لكن لا يجوز له أن ينكح الأمة إلا بشروط، وهذا شيء قرره الله عز وجل وأثبته في كتابه، لا يملك المسلم إلا أن يقول: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة:285] ، فمانع الرق ثابت ومعتبر على التفصيل الذي بيناه ووضحناه.
عدم جواز نكاح العبد لسيدته والسيد لأمته إلا بعد العتق
قال رحمه الله: [ولا ينكح عبد سيدته ولا سيد أمته] قوله: (ولا ينكح عبد سيدته) أنتم تعلمون أن السيد يملك عبده بنص الشرع، وهذه الملكية يخالفها حق الزواج، فلا يمكن أن يكون عبدا ويكون زوجا، آمرا ومأمورا، مملوكا ومالكا؛ لأنه إذا تزوج ملك منافع الوطء، وإذا بيع رقيقا ملكه من اشتراه، فهذا نوع من التضاد، وهذا مسلك فقهي صحيح، وهو تضارب العقود، ولذلك أجمع العلماء على عدم صحة هذا النوع من العقود، ما يمكن أن نقول: إنه عبد وزوج، ما يمكن للعبد أن يتزوج سيدته، تريد أن يتزوجها تعتقه ثم يتزوجها، وهكذا بالنسبة للعكس، فالسيد لا يتزوج أمته؛ لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين، فإذا أراد أن يطأها يطؤها بملك اليمين، أما إذا أراد أن يتزوجها نكاحا بعقد، نقول في هذه الحالة: أعتقها ثم اعقد عليها عقدا شرعيا.
جواز نكاح أمة الأب دون نكاح أمة الابن
قال رحمه الله: [وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه] قوله: (وللحر نكاح أمة أبيه) يعني: لو أن رجلا لا يستطيع أن ينكح الحرة، ويخاف على نفسه الزنا، فأمة أبيه ليست ملكا له وإنما هي ملك لأبيه، فصارت كالأجنبية، فجاز له أن ينكح أمة أبيه، أظن هذا واضحا، نقول: يجوز لابن السيد أن يتزوج أمة والده إذا تحقق فيه شرط زواج الحر من الأمة؛ لأن الشرط موجود ولا يمتنع، لماذا حل له؟ لأن في هذه الصورة الولد لا يملك مال أبيه، ولا يوجد ملكية ونكاح، هنا فقط نكاح.
أما الوالد فإنه لا يجوز أن يعقد على أمة ابنه؛ لأن الولد وما ملك لأبيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، فجعل الفرع تابعا لأصله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) ، فرد الفرع إلى أصله، فقالوا: لو كانت الأمة للرجل وأراد أن يعقد عليها فإنه بالإجماع لا يصح، ولو سئلت لماذا؟ تقول: لأنه يجمع بين النكاح وبين ملكية الأمة، وهذا لا يصح، إما أن يجعلها مملوكة ويطأها بملك اليمين يتسراها، وإما أن يجعلها منكوحة فيعتقها وينكحها، هذا في حكم من كان مالكا، أما لو كانت أمة ابنه فأمة ابنه كأمته، فكما يحرم على ابنه أن يعقد عليها كذلك يحرم عليه؛ لأن الولد تابع لأبيه.
عدم جواز أن تنكح الحرة عبد ولدها
قال رحمه الله: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها) ، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء.
يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟ إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكرا، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر.
يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعا من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكا وزوجا في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع.
إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبدا لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلا: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتا تطلب رقيقا لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.
من الأحوال التي ينفسخ فيها عقد النكاح
قال رحمه الله: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها] قوله: (وليس للحرة نكاح عبد ولدها) ، فالأم لا تتزوج عبد ولدها؛ لأن ولدها يملك هذا العبد ومال ولدها في حكم: (أنت ومالك لأبيك) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) فهذا للذكر والأنثى فالأم والأب سواء.
يا إخوان! حتى تتضح الصورة، ما هو ضابط هذه المسائل؟ إذا كان الذي يريد أن يعقد على أمة وهو مالك لها فإنه لا يصح أن يجمع بين نكاح وبين ملك، تقرر على هذا أنه يستوي أن يكون هو المالك أو في حكم المالك، كوالد مع ولده فتجعل الرقيق أنثى، أو أم مع ولدها وتجعل الرقيق ذكرا، فتقول: أم مع عبد ملك لولدها، وأب مع أمة ملك لولده لا يجوز نكاحهما، كما لا يصح لسيدة أن تنكح عبدها، ولا يصح لسيد أن ينكح أمته، هذا ضابط المسألة، وبهذا لا يشكل عليك الأمر.
يعني: بعض الإخوان يجد صعوبة في مسألة الأمة مع سيدها، ويجد نوعا من التضارب، أهم شيء هي القواعد، وميزة المتون الفقهية وأهم ما فيها أنك تستطيع أن تتصور وتعرف الضابط، هذا قبل الدخول في المثال، والضابط يدور حول عدم الجمع بين الملكية والنكاح، فلا يصح أن يكون مالكا وزوجا في آن واحد، فهذا تضارب، ولا يصح أن تكون سيدة وزوجة في آن واحد، فإما هذا وإما هذا، إذا قررت هذا الأصل فيمكنك أن تأتي بالفروع؛ لأن الفقه أصول وفروع.
إذا كان هذا الأصل وهذا الذي أجمع عليه العلماء في حكمه، وفي ما يلتحق به أن تكون امرأة تطلب عبدا لولدها، أو رجل يطلب أمة لولده، لكن إذا كان العكس يصح، مثلا: ولد يطلب أمة لوالده، فإن الولد لا يملك أمة والده فيصح أن ينكح بشرط؛ لأنه لا يجمع بين الملكية وبين النكاح، ولو أن بنتا تطلب رقيقا لوالدها وكانت مملوكة، كما يقع في الكفر، وكانت بنته كافرة يصح، ولا بأس في هذا.
انفساخ النكاح إن ملك أحد الزوجين الآخر حقيقة أو حكما
قال رحمه الله: [وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر] .
انظروا إلى دقة العلماء! بحيث لو قرأت المتن أولا تحس بشيء غريب، لكن لما تمسك الضوابط تحس بمتعة هذه المتون الفقهية ودقة العلماء رحمهم الله، والفقه رياضة الذهن.
المصنف أعطانا الضابط الأصلي، وهو أنه لا يجمع بين الملكية والنكاح في الأصل، ويلزم أن تبني على ذلك ما كانت الملكية تبعا كوالد مع ولده أنثى أو ذكر، أم أو أب.
بعد هذا تأتي أشياء مفرعة على المسألة، أنت تقرر أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة إذا كان مالكا لها.
إذا افرض أنها زوجة له وطرأت الملكية، انتبه! هناك ابتداء وهناك استدامة، فهل الحكم الذي ثبت في الابتداء يؤثر أيضا في الاستدامة؟ وهذا تقدم معنا في أكثر من مسألة، أنه لما يأتي بموانع النكاح ينبه عليها في الابتداء ثم ينبه عليها في الاستئناف، فهذه من مسائل الاستئناف، ومن هنا سيدخل في الاستئناف.
حسنا! لو طرأت الملكية كامرأة اشترت زوجها، كان زوجا لها ثم اشترته، يقع في المملوكية إذا اشترته وأذن لها سيدها، في هذه الحالة صار ملكا لها، ومثل هذا مثل ما يقع بين السيدة وعبدها ومملوكها، قلنا: لا يصح، فحينئذ كما يؤثر في الابتداء يؤثر في الاستدامة هذا ضابطه، والآن انظر إلى المسألة.
قوله: (وإن) لما يؤتى بهذا غالبا يفرع على ما قبله، فهو لما يقول: وإن حصل كذا وكذا، كأنه يبني هذه المسألة على ما قبلها.
قوله: (وإن اشترى أحد الزوجين) يعني: هو زوج لها فاشترته، أو هي زوجة له فاشتراها، مثلا: مثلما ذكرنا الحر لا يستطيع طولا، فينكح ماذا؟ ينكح الأمة، ثم أصبح هذا الحر غنيا ثريا، فضايقه سيد زوجته، فاشتراها منه، فما الحكم؟ يصبح حينئذ سيدا من وجه وزوجا من وجه آخر، فدخول الملكية يفسد النكاح، فأصبح مانعا من الابتداء ومانعا من الاستدامة؛ لأن هناك شيئا يمنع من الابتداء والاستدامة، وهناك شيئا يمنع من الابتداء ولا يمنع من الاستدامة، هناك موانع لا تمنع من الاستدامة.
الآن مثلا: عندنا الإحرام مانع من الابتداء؛ لكن لو أن زوجين أحرما مع بعضهما هل نقول: يفرق بينهما؟ لا، ما يقال ذلك، فإذن مانع الإحرام يمنع الابتداء ولا يمنع الاستدامة، وعندنا مانع يمنع الابتداء والاستدامة، وهذا كله مبني على أصول شرعية، يعني: هذه المسائل مبنية على أصول شرعية، لكن يراد بها رياضة الذهن، وإذا قام طالب العلم بالتجربة وقرأ في المطولات واستمر في مسائل الفقه، فإنه يصبح عنده الفقه ملكة.
هذه المسائل التي ترى ما كانت موجودة في المتون المتقدمة قبلها، لكن المتون المتقدمة قبلها نصت على مسائل فتحت الأذهان لهذه المسائل التي طرأت، وهذه القراءة الآن تفتح بها مسائل قد تطرأ عليك في عصرك الآن، لأنك إذا أخذت الضابط بالاستدامة والابتداء فإنك تستطيع أن تقرر مسائل أخر تأتي جديدة سواء في المعاملات المالية أو الشخصية أو الجنايات، كل هذا يراد به رياضة الذهن وتقويته، لكن ينبغي أن يكون مقيدا بالنصوص من الكتاب والسنة، ما يخرج إلى تكلف الآراء التي لا نص فيها ولا أصل لها، أو تعلل بعلل ضعيفة واهية.
قوله: (أو ولده الحر) يعني: عنده ولد حر، فرضنا أن زيدا تزوج خديجة وأنجب منها محمدا، وخديجة حرة وزيد حر، ثم بعد ذلك ماتت خديجة فأراد والد زيد أن يتزوج وليس عنده مال ليتزوج حرة، ما الحكم؟ يجوز له نكاح الأمة، فلما تزوج الأمة بالشرط المعتبر شرعا، أصبحت زوجته أمة وعنده ولد حر من غيرها، وبعد زمان اشترى الولد الحر زوجة أبيه الأمة، وقد قلنا في الضابط: إن الولد في حكم الوالد، فحينئذ كما أثر في الابتداء في مسألة الولد والوالد فإنه مؤثر في الاستدامة.
أظن هذا واضحا، فبعد فهم الضابط ليس هناك إشكال في المسألة؛ لأن الأمر واضح سواء اشترى هو أو اشترى فرعه، ثم يأتون بمثال الأم مع ولدها.
انفساخ نكاح المكاتب أو المكاتبة إن ملك أحدهما الآخر
قال رحمه الله: [أو مكاتبة الزوج الآخر] بعض الأحيان يأتون بشيء أغرب من هذا: وهو الذي يكون في حكم ملكية الشخص كالمكاتبة، فلو قال: أو مكاتبهم، نفس الحكم؛ لأن المكاتب إذا كان يكاتبك ليس بحر، ما دام في حال الكتابة، إنما يصير حرا بعد أداء نجوم الكتابة، ففي حال كونه مكاتبا اشترى الأمة التي تزوجها، كولدك الذي اشترى الأمة التي تزوجها، فالمسألة كلها تدور حول الضابط.
انفساخ النكاح عندما يملك أحد الزوجين جزء الآخر
قال رحمه الله: [أو بعضه انفسخ نكاحهما] .
أي: لو اشترى الكل أو اشترى البعض فالحكم واحد، نحن استفدنا فائدة: أنه سواء كانت الملكية للكل أو الملكية للبعض، فلو أن هذه الأمة التي تزوجها والده ملك لشخصين زيد وعمرو، فاشترى الولد نصف ملك زيد، فأصبح يملك نصف أمة هي زوجة أبيه، إذا يصبح أبوه يملك نصف المرأة التي اشتراها ولده وزوج لكلها، حينئذ ينفسخ النكاح؛ لأنه كما أثر في الكل فإنه يؤثر في الجزء، فالحكم في ذلك سواء.
انظروا كيف يدخلون العبارات في بعض؛ لأنهم يريدون الاختصار، فيجيبون: أو مكاتبه أو كذا؛ لأنه لو أراد أن يشرح لك القواعد لاحتاج إلى صفحات؛ لكن هو يشرحها بهذه الأمثلة، أرأيت هذه الأمثلة التي قد يتهكم بها البعض، هذه هي التي تفتح ذهن الطالب إلى الأصل، فالعلماء ما مرادهم بهذا التمثيل كمثال، وهذه الأمثلة لما تراها ترى شيئا غريبا وتقول: هذا من أين جاء؟ أو من أين أتى؟ أتى من نص الكتاب والسنة كقاعدة، فلو جاء الفقيه يريد أن يشرح هذه القواعد لاحتاج إلى مطولات واحتاج إلى وقت، فهم إنما جعلوا المتون الفقهية أمثلة، وجعلوا شرح هذه القواعد وأدلتها للفقهاء والعلماء الذين يشرحون، وكلا على حسب قوته وطاقته، ثم أصبح الفقه مجموعا في هذه المتون تحت أمثلة هي في الواقع أصول لغيرها.
وليس المراد الإحاطة بهذه الأمثلة ذاتها والعجز عن الإتيان بغيرها، بل لابد أن يلم بأصلها فيستطيع أن يلحق بها غيرها، فيصبح عند طالب العلم الفقه القديم والفقه الجديد، وهذه ملكة تعين على مسألة التخريج الفقهي، يعني: أنه إذا ضبط هذه الأمثلة وأعانه الله عز وجل على فهم ضوابطها، فإنه يستطيع بإذن الله أن يتكلم على المسائل والنوازل التي تجد وتطرأ على زمانه، ويمكنه أن يعرف حكم الله عز وجل فيها.
حكم وطء المحارم بملك اليمين
قال رحمه الله: [ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية] هذه مسألة فيمن ملك ذات محرم منه، لا يجوز أن يطأ أخته بملك اليمين، ولا يجوز أن يطأ عمته بملك اليمين، لو أنه أسلم ثم أسرت عمته واسترقت وبيعت فاشتراها، فالأصل يقتضي أن من ملك ذا محرم منه فقد عتق عليه على تفصيل سيأتي في باب العتق، لكن على القول أنها لا تعتق وأراد أن يطأها بملك اليمين فإنه لا يجوز، هذه مسائل ملحقة، ووجه إدخالها في باب النكاح هو إلحاقها بمسألة الجمع بين الأختين، فإن الجمع بين الأختين اختلف فيه: هل يجوز أن يجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لو أن رجلا اشترى أمتين أختين هل يجوز أن يطأهما معا بملك اليمين؟ هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله، فكان عثمان رضي الله عنه إذا سئل عن هذه المسألة يقول: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما آية وهي قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24] ، وقوله في الاستثناء: {إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24] في المحرمات، وحرمتهما آية وهي قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء:23] فأطلق، ومن جهة المعنى يقوى المنع كما ذكرنا في الزنا، ولذلك الشبهة موجودة فيه كالشبهة في الجمع بين الحلال والحرام، كما قدمناه في مانع الزنا.
حكم من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد
قال رحمه الله: [ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل] أي: من جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد صح فيمن تحل وحرم فيمن تحرم.
المصنف رحمه الله ذكر الموانع، وبين حكم العقد على المحرمة، وأنه يفسخ النكاح؛ لأن الحرام يمنع من الابتداء والاستدامة، فإذا عرفنا الحرام المحض وعرفنا الحلال المحض، فما الحكم لو جمع بين حرام وحلال؟ كأن يقول له رجل في عقد واحد: زوجتك فلانة وفلانة، وكان هذا الرجل وليا لامرأتين: إحداهما يحل لك نكاحها، والثانية يحرم عليك نكاحها، فزوجكهما معا، صح العقد فيمن حلت وحرم فيمن حرمت؛ وذلك للقاعدة التي تقول: تصحيح العقود ما أمكن.
فلما كان الأصل صحة العقد إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه وبطلانه، حكمنا بالتحريم فيما حرم وحكمنا بالحل فيما حل.
وقال بعض العلماء: ينهدم العقد من أصله فيبطل في الاثنين.
حكم نكاح الخنثى المشكل
قال رحمه الله: [ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره] قوله: (ولا يصح نكاح خنثى) الخنثى من عنده آلة الذكر وآلة الأنثى، وينقسم إلى قسمين: خنثى تبين أمره وانكشف، بأن تبين أنه رجل فحكمه حكم الرجل، أو تبين أنه أنثى فحكمه حكم الإناث، لكن هناك نوع من الخنثى الذي هو المشكل الذي لا يتبين حاله، وهذا له أحكام شرعية، وتقدم معنا في العبادات.
وبعض العلماء يقول: الخنثى يعطى حكم الأنثى إلا في مسائل، ويعطى حكم الأضعف حتى يتبين أنه ذكر؛ وذلك لأننا على يقين بالأقل حتى نستيقن ما هو أعلى منه، وهذا أصل صحيح، وذكره العلماء في قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، وفرعوا مسائل الخنثى عليها، لكن الخنثى المشكل لا يجوز نكاحه؛ لأنه ربما زوج على أنه امرأة فبان ذكرا، أو زوج على أنه ذكر فبان أنثى، فلذلك يتوقف في أمره حتى يستبين.