الليلة الثالثة عشرة: (من آثار الذنوب)
عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فَمِنْهَا: الْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ، وَالْأَقْفَالُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَجَعْلُ الْأَكِنَّةِ عَلَيْهَا وَالرَّيْنُ عَلَيْهَا وَالطَّبْعُ وَتَقْلِيبُ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَإِغْفَالُ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الرَّبِّ، وَإِنْسَاءُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَتَرْكُ إِرَادَةِ اللَّهِ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ، وَجَعْلُ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، وَصَرْفُ الْقُلُوبِ عَنِ الْحَقِّ، وَزِيَادَتُهَا مَرَضًا عَلَى مَرَضِهَا، وَإِرْكَاسُهَا وَإِنْكَاسُهَا بِحَيْثُ تَبْقَى مَنْكُوسَةً، كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: فَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ: فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ: فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ: فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، وَقَلْبٌ تَمُدُّهُ مَادَّتَانِ: مَادَّةُ إِيمَانٍ وَمَادَّةُ نِفَاقٍ، وَهُوَ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا.
وَمِنْهَا: التَّثْبِيطُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَالْإِقْعَادُ عَنْهَا.
وَمِنْهَا: جَعْلُ الْقَلْبِ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الْحَقَّ، أَبْكَمَ لَا يَنْطِقُ بِهِ، أَعْمَى لَا يَرَاهُ، فَتَصِيرُ النِّسْبَةُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ غَيْرُهُ، كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ أُذُنِ الْأَصَمِّ وَالْأَصْوَاتِ، وَعَيْنِ الْأَعْمَى وَالْأَلْوَانِ، وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالْكَلَامِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَمَى وَالصَّمَمَ وَالْبَكَمَ لِلْقَلْبِ بِالذَّاتِ: الْحَقِيقَةُ، وَلِلْجَوَارِحِ بِالْعَرَضِ وَالتَّبَعِيَّةِ ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [سُورَةُ الْحَجِّ: 46]، وَمِنْهَا: الْخَسْفُ بِالْقَلْبِ كَمَا يُخْسَفُ بِالْمَكَانِ وَمَا فِيهِ، فَيُخْسَفُ بِهِ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ وصَاحِبُهُ لَا يَشْعُرُ، وَعَلَامَةُ الْخَسْفِ بِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ جَوَّالًا حَوْلَ السُّفْلِيَّاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالرَّذَائِلِ، كَمَا أَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي رَفَعَهُ اللَّهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ لَا يَزَالُ جَوَّالًا حَوْلَ الْعَرْشِ، وَمِنْهَا: الْبُعْدُ عَنِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ جَوَّالَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَجُولُ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَمِنْهَا مَا يَجُولُ حَوْلَ الْحُشِّ.
وَمِنْهَا: مَسْخُ الْقَلْبِ، فَيُمْسَخُ كَمَا تُمْسَخُ الصُّورَةُ، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ عَلَى قَلْبِ الْحَيَوَانِ الَّذِي شَابَهَهُ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ وَطَبِيعَتِهِ، فَمِنَ الْقُلُوبِ مَا يُمْسَخُ عَلَى قَلْبِ خِنْزِيرٍ لِشِدَّةِ شَبَهِ صَاحِبِهِ بِهِ، وَمِنْهَا مَا يُمْسَخُ عَلَى قَلْبِ كَلْبٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا تَأْوِيلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 38].
قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى أَخْلَاقِ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى أَخْلَاقِ الْكِلَابِ وَأَخْلَاقِ الْخَنَازِيرِ وَأَخْلَاقِ الْحَمِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ فِي ثِيَابِهِ كَمَا يَتَطَوَّسُ الطَّاوُسُ فِي رِيشِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَلِيدًا كَالْحِمَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ كَالدِّيكِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ كَالْحَمَامِ، وَمِنْهُمُ الْحَقُودُ كَالْجَمَلِ، وَمِنْهُمُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ كَالْغَنَمِ، وَمِنْهُمْ أَشْبَاهُ الثَّعَالِبِ الَّتِي تَرُوغُ كَرَوَغَانِهَا، وَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الجهل والغي بالحُمُر تارة وذلك في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]، وبالكلب تارة؛ قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175، 176].
فَسُبْحَانَ اللَّهِ، كَمْ مِنْ قَلْبٍ مَنْكُوسٍ وَصَاحِبُهُ لَا يَشْعُرُ؟ وَقَلْبٍ مَمْسُوخٍ وَقَلْبٍ مَخْسُوفٍ بِهِ؟ وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَغْرُورٍ بِسِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ وَمُسْتَدْرَجٍ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ وَكُلُّ هَذِهِ عُقُوبَاتٌ وَإِهَانَاتٌ وَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ.
وَمِنْهَا: مَكْرُ اللَّهِ بِالْمَاكِرِ: وَمُخَادَعَتُهُ لِلْمُخَادِعِ، وَاسْتِهْزَاؤُهُ بِالْمُسْتَهْزِئِ، وَإِزَاغَتُهُ لِلْقَلْبِ الزَّائِغِ عَنِ الْحَقِّ.
وَمِنْهَا: نَكْسُ الْقَلْبِ: حَتَّى يَرَى الْبَاطِلَ حَقًّا وَالْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، وَيُفْسِدُ وَيَرَى أَنَّهُ يُصْلِحُ، وَيَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَشْتَرِي الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَلَى الْهُدَى، وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُطِيعٌ لِمَوْلَاهُ؟ وَكُلُّ هَذَا مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْقَلْبِ.
وَمِنْهَا: حِجَابُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ فِي الدُّنْيَا: وَالْحِجَابُ الْأَكْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 14 - 15].
فَمَنَعَتْهُمُ الذُّنُوبُ أَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُلُوبِهِمْ، فَيَصِلُوا إِلَيْهَا فَيَرَوْا مَا يُصْلِحُهَا وَيُزَكِّيهَا، وَمَا يُفْسِدُهَا وَيُشْقِيهَا، وَأَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، فَتَصِلَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَتَفُوزَ بِقُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَتَقَرَّ بِهِ عَيْنًا وَتَطِيبَ بِهِ نَفْسًا، بَلْ كَانَتِ الذُّنُوبُ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ؛ ا.هـ من (الجواب الكافي لابن القيم).
اللهم إن غرِقنا في لُجَج الآثام والمعاصي، نسألك اللهم أن تتوبَ علينا وتغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين، وصلِّ الله وسلِّم على نبينا محمد.