رحلة مع أولياء الله الصالحين
كتبه/ سعيد السواح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيا أيها المسلم الحبيب..
إن الإنسان ليحتاج في بعض الأحيان أن يقتطع ويختطف لحظات من وقته؛ ليخلو فيها بينه وبين نفسه؛ ليقيم ما مضى من حياته، وكم نكتشف ظلم الإنسان لنفسه أن أيامه تسير بلا توقف حتى نفاجأ بتوقف الحياة.
ولقد استوقفتني آية في كتاب الله -تعالى-، وأنا أقرأ في سورة "المائدة"، استوقفتني كثيرًا على الرغم من إننا نقرأها ونسمعها كثيرًا، حيث قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: 72).
وكذلك الآية التي تليها: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ) (المائدة: 73).
وتذكرت على الفور الآية التي في سورة التوبة، حيث قال -سبحانه-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ) (التوبة:30).
فرأيتني أفزع وأنا أفكر في هذه الملايين، بل قل عشرات الملايين، بل مئات الملايين الذين تفرقوا في كل بقاع الأرض.
منهم من يقول: إن المسيح هو الله.
منهم من يقول: إن المسيح ابن الله.
ومنهم من يقول: بل هو ثالث ثلاثة.
فعجبت من عقولهم كيف يرددون هذه الأقوال؟! أما منهم من يفكر في صحة ما يقول؟ أم هي أقوال ورثوها عن آبائهم، فنطقوا دون أن يتفكروا؟ أهي أقوال صحيحة أم باطلة؟
ولاشك -أيها الحبيب- أننا لو سألناك ترى أي فريق من هؤلاء على حق وأي منهم على باطل؟ فلن تختلف إجابتك عن إجابتنا، ولوجدتنا نردد سويًّا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص).
ولقلت: ما هذه الأباطيل والأكاذيب والسفاهات؟!.
ولكني بدأت أفكر لماذا لم يصل هؤلاء القوم إلى هذه الحقيقة الواضحة الجلية؟، ولماذا مازالوا على هذه العقيدة الفاسدة؟، وعندما تصفحت المصحف؛ فإذا بالإجابة الشافية من كتاب الله -تعالى- التي بينت سبب عدم تركهم لهذا الباطل، واتباعهم لهذا الحق.
أتدري -أيها الحبيب- ما السبب الذي جعل هؤلاء يتوارثون هذا الباطل، ويورثونه لأبنائهم؟
أترى -أيها الحبيب- أننا لو قلنا لهم ودعوناهم لكي نفكر في هذا الأمر، ونتدارسه؛ لنظهر الحق من الباطل، أتراهم يقبلون ذلك؟
نقول لك -أيها الحبيب-: إنهم لن يقبلوا، بل يعترضوا على ذلك، ولقالوا لك: نحن على ما توارثناه من الآباء.
وهذا ما بيَّن لنا الله -تعالى- في كتابه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ)؛ لقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) (البقرة: 17)،
ولقالوا لنا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)، (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف: 23).
فهم توارثوا عادات، وهم على غير استعداد لترك العادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم.
فنقول لك -أيها الحبيب-: هل تقبل منهم ذلك الرد؟ أيصلح ذلك أن يكون عذرًا لكفرهم بربهم؟ أيصلح أن يكون ذلك مبررًا لهذا الباطل الذي هم عليه؟
ونقول لهم: ألم تسمعوا إلى قول ربكم: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 107)، ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُون﴾ (المائدة: 104)؟
لقد أغلقوا عقولهم، والغوا تفكيرهم، وتركوا هدى ربهم، واستعاضوا عنه بالعادات التي ورثوها عن الآباء، فلم يكونوا على استعداد لتركها.
ثم رأيتني -أيها الحبيب- أتصفح حياتي وأفكاري، وبرز في خاطري أمر شغلني كثيرًا، ولكنه يحتاج إلى وقفة وجرأة شديدة مع النفس، التي تأبى دومًا ترك العادات الموروثة عن الآباء، وتغلق عنها العقول؛ خوفًا من أن تكتشف خطأ في هذه العادات، فرأيتني أحدث نفسي، وأقول: من نصدق ومن نتبع؟ أأصدق هؤلاء الذين يقفون عند قبر من هذه القبور المبنية في المساجد، ويتزاحمون على هذا القبر بالمئات؟! بل قل: بالآلاف، بل قل: ألوف مؤلفة قد أتوا من كل حدب وصوب، وقطعوا هذه المسافات الطويلة يتبركون بصاحب هذا القبر، وقد ورثوا ذلك عن أبائهم، فهم منذ فتحوا أبصارهم على الدنيا وهم على هذا المشهد.
أم أصدق هؤلاء الذين يسفهون من يفعل ذلك، ويعترضون عليهم، ويقولون: إنكم -والله- لتعبدون حجارة وأوثان. ويقولون في ندائهم: أيها العقلاء، أتدرون حال هذا المقبور؟ أتستطيعون أن تقولوا لنا: أهذا الذي تزورونه وتتبركون به أهو في الجنة أم في النار؟ أتستطيعون أن تقولوا لنا: أهو متنعم في قبره أم هو معذب في قبره؟
فلقد أوقفني -أيها الحبيب- ذلك الأمر، وقلت: لماذا لا أعطي لنفسي الفرصة والوقت؛ لكي أفكر في الأمر من كل جوانبه، ولا أغلق عقلي، ولا ألغي تفكيري؟ وقد رأيت كما قص علينا الله -تعالى- حال هؤلاء الذين كفروا بربهم كنتيجة لاتباعهم عادات الآباء دون الوقوف على صحة هذه العادات أو خطئها، ولقد رأيتهم وهم يقدمون العادات الموروثة عن الآباء، ويردون بها كتاب ربهم وهدي نبيهم.
وقلت -عند ذلك، وكأنني أحكم في هذه القضية، وكأنها مسألة عرضت علي من طرفين متخاصمين-: كل منهم يدعي أن الحق معه، والمطلوب مني أن أفصل في هذه القضية، وهذا النزاع؛ لكي نصل مع من يكون الحق، وعجبت لماذا نرفض -دومًا- المناقشة؟، هل لأنني أخشى أن يكون الحق ليس معي؟ فلا أدري مما أخاف، وعجبت من نفسي كيف سيطر علي هذا الأمر، وأنا المعروف بين أقراني بالعقل السليم والتفكير السليم؟، وكيف أرضى لنفسي بإلغاء عقلي وتفكيري في هذه القضية؟!
فكان لابد من وقفة مع النفس نستعين من خلالها بالله -تعالى- أن يوفقنا لما يحبه هو -سبحانه- ويرضاه، ولا أكون -أبدًا- كمن يدس رأسه في التراب. كيف وقد منحنا الله -تعالى- العقول النيرة، وميزنا بها عن البهائم، فكيف نعطلها؟!
ونقول: اللهم إنا نشهدك أنا نحبك ونحب دينك وشراعك، ونشهدك أنا نحب عبدك ونبيك وحبيبك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذي أنرت لنا به الطريق، ونحب أولياءك الصالحين الذين شهدت لهم بالصلاح والتقوى، وقلت في شأنهم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس: 62 – 64).
أيها المسلم الحبيب.. قل لي بربك -لو سألناك-: أتعلم ما هو حال المقبور الذي هو عليه الآن في قبره؟ هل تستطيع أن تنفذ من خلال قبره، فتقول لنا: أهو في الجنة أم في النار؟ أتراه الآن متنعمًا في قبره؟ أم تراه معذبًا في قبره؟
فأن قلت: بل أراه في الجنة، وما أراه إلا منعمًا؛ لقلنا لك: من الذي قال لك عن حاله الذي هو عليه في قبره؟ أفتح لك قبره؛ فرأيت حاله؟ أم فتح لغيرنا؛ فنقلوا لنا ما شاهدوه من حاله؟
لو سألناك -أيها الحبيب- وقلنا لك: قل لي -بربك-: أعبد أنت أم رب؟ قد تعجب من هذا السؤال، وتقول على الفور: بل أنا عبد؛ لقلنا لك: لماذا تطغى على سلطان الرب؟ لعلك تقول: ومن ذا الذي يجرؤ أن يتعدى حدوده مع ربه أو يتجرأ على سلطانه، فوالله إني لأحب ربي وأجله وأعظمه.
قلنا لك: مهلاً أيها المسلم.. مهلاً أيها الحبيب المحب لربه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإليك -أيها الحبيب- نهدي لك هذه الصور التي تبين لك حدود العبد، وكيف أنه ليس لأحد الحق في أن يتدخل في سلطان الرب، حتى لو كان النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عند ربه؟
فمما لاشك فيه -لدينا ولديك- أن أكرم خلق الله عند ربه هو نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فنحن لا نختلف نحن ولا أنت في ذلك، بل ولا يختلف معنا في ذلك أي مسلم أو مسلمة.
فنقول لك -أيها الحبيب-: نحن نريد منك أن تنظر إلى الآيات التي أنزلت عتابًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أتدري فيما عاتب الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر قال: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا) (رواه الإمام أحمد والبخاري)، (اللهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) (رواه الإمام أحمد في "مسنده")، فنزلت الآية: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ...) (آل عمران:128). فتيب عليهم كلهم.
وهذا -أيضًا- أنس بن مالك -رضي الله عنه- يذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ-)(رواه الترمذي)،فأنزل الله -تعالى-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
أعقلت -أيها الحبيب- سبب نزول هذه الآية؟! فلما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء النفر باللعنة، ولما دعا على هؤلاء الذين ألحقوا به الأذى حتى أصيب بهذه الجراحات البالغة نزلت الآيات أن ليس لك تدخل فيمن يكتب الله -تعالى- له الهداية، ومن يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله -تعالى-، فالهداية والإضلال بيد الله وحده ليس لغيره -سبحانه- فيها نصيب حتى لو كنت أنت يا محمد!.
وهذا من الرب -تعالى-؛ لكي نتعلم أن العبد عبد والرب رب، ومهما كانت منزلة هذا العبد فلا ينبغي أن يتعدى حدوده، ويتدخل في سلطان الرب -سبحانه-.
وانظر كذلك -أيها الحبيب- إلى عتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما توفي صبي، فقالت: "طوبى له، عصفور من عصافير الجنة"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَ لاَ تَدْرِينَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ النَّارَ فَخَلَقَ لِهَذِهِ أَهْلًا وَلِهَذِهِ أَهْلاً؟!) (رواه مسلم).
وكذلك إلى عتابه -صلى الله عليه وسلم- لهذه المرأة "أم العلاء"، فتقول أم العلاء -رضي الله عنها- أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى عثمان عندنا، فمرضته حتى توفى وجعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟) قالت: قلت لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن؟ قال: (أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ -وَاللَّهِ- الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَمَا أَدْرِي -وَاللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّه- مَا يُفْعَلُ بِي)قالت: والله لا أزكي أحدًا بعده (رواه الإمام أحمد والبخاري).
فتخيل -أيها الحبيب- قول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أكرم خلق الله -تعالى-: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَمَا أَدْرِي -وَاللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّه- مَا يُفْعَلُ بِي).
أتستطيع بعد ذلك -ونحن لسنا بأنبياء، ولا يتنزل علينا الوحي- أن نحكم لإنسان بالجنة إلا لمن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-، فو الله ما شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد بالجنة إلا بوحي من الله -تعالى-.
بل انظر -أيها الحبيب- إلى قول حبيبنا وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى لا تغتر بظاهر عمل الإنسان، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) (متفق عليه).
بل انظر -أيها الحبيب- إلى هذه الرواية القاصمة التي ألجمتنا عن الكلام، فقد قال حبيبنا وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم-: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال:(وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ) (مسلم).
فهل لنا -أيها الحبيب- بعد ذلك أن نحكم لأحد بالجنة، حتى لو رأيناه صائمًا، حتى ولو رأيناه لم يرفع رأسه من السجود لربه، بل نقول: إن أمره إلى الله -تعالى-، فنحن ما أطلعنا إلا على ظاهره، ولكن الله وحده هو الموكل بالسرائر وبواطن الأمور.
بل نهمس في أذنيك -أيها الحبيب-، ونقول لك: أتدري من هم أول ثلاثة تسعر بهم النيران؟، لعلك لا تصدق، بل نخش عليك ألا تصدق، ولكن حسبك أن هذا -والله- هو كلام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: أن أول ثلاثة تسعر نهم النار: عالم ومتصدق وشهيد فيؤتى بهذا العالم فيعرفه نعمه فيعرفها، فقال: ماذا عملت فيها؟ يقول: علمت العلم وقرأت فيك القرآن. فيقال: كذبت، بل ليقال قارئ وعالم وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه في النار(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكذلك يكون الحال بالنسبة لهذا المتصدق والشهيد.
فكما ترى -أيها الحبيب-، إن أعمالهم الظاهرة هي أعمال صالحة، بل لقد أتوا بأرقى وأرفع الأعمال الصالحة فيما نرى، لو حكمنا على ظواهرهم؛ لقلنا: إن لم يكونوا هؤلاء من أهل الجنة، فمن يكون إذًا؟! ولكن كما سمعت أنهم من أهل النار، بل هم أول من يسعر به النار، وما السبب في ذلك؟
هو لأمر لا اطلاع لنا عليه، ولا سبيل لاطلاع أحد عليه، ألا وهو باطن هذا الإنسان، وهذا من شأن الله وحده، فنحن نرى ظواهر هذه الأعمال، والله -تعالى- وحده هو المطلع على سرائرهم وبواطنهم، فلما كان مقصدهم الذكر عند الناس، فكان عقابهم في الآخرة أن يكونوا من أصحاب السعير، بل أول من تسعر بهم جهنم.
أعقلت ذلك -أيها الحبيب-؟، فما أنت قائل بعد ذلك؟
أترى أن هناك من أعطاه الله ومنحه السلطان؛ ليحكم على الناس هذا في الجنة وهذا في النار؟، أم أن هذا من خصائص الله -سبحانه- دون سواه؟
قال الله -تعالى-: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229).
فنقول لك -أيها الحبيب-: فمن قال لك: إن فلانًا ولي من أولياء الله الصالحين؟ أهو بوحي من السماء نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبلغنا إياه؟
فإن لم يكن -أيها الحبيب-؛ فمن أين جاءوا بهذا القول الذي يتردد على السنة الناس: فلان ولي، وفلان ولي؟
قد تقول -أيها الحبيب-: لقد نشأنا ووجدنا الآباء على ذلك الأمر وكذلك الأجداد، فلقد أبصرنا الآباء يفعلون، فنحن نفعل كما كانوا يفعلون، فلقد رأينا الآباء منذ الصغر يصطحبوننا إلى هذه الأماكن يتبركون بهذا الولي.
ولعلك -أيها الحبيب- تتساءل وتقول: فمن أين جاءوا بذلك الأمر؟!. ولعلك يجول بخاطرك -وأنت تنظر إلى هذه الألوف المؤلفة الذين جاءوا من أماكن بعيدة ومتعددة-: أكل هؤلاء لم يرد بخاطرهم أن يقفوا ولو مرة واحدة مع هذا الأمر؟
عندها نقول لك -أيها الحبيب-: قف مع نفسك، واسترجع عند ذلك ما قاله الله -تعالى- عن الأمم السابقة وسبب ضلالهم، وما كان ذلك إلا باتباعهم للعادات الموروثة عن الآباء، دون الوقوف على صحتها.
بل فلتردد -أيها الحبيب- وتقول: الله أكبر، إنها -والله- السنن التي قال عنها نبينا وحبيبنا ومعلمنا ومصطفى الله من خلقه: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ؟!) (متفق عليه).
فإن قلنا لك عند ذلك -أيها الحبيب-: فما هو سبيلنا لكي نتعرف على ديننا وشرعنا؟ أيكون ذلك من خلال النبي -صلى الله عليه وسلم- أم من خلال الآباء، فإن قال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً، وقال الآباء عكس ما قال، أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلاً وفعل الآباء عكس ما فعل، فمن عند ذلك تتبع؟
ما نظنك إلا أنك ستتبع سبيل حبيبك الذي أنار الله لنا الطريق به، فكيف نترك هذا النور؛ لكي نسير في الظلمات، خاصة بعدما قرأنا في كتاب ربنا وما قصه علينا الرحمن من سبب ضلال الأمم السابقة.
وكذلك عليك أن تعلم -أيها الحبيب- أنه قد يراود عقلك خاطر: "وما المانع طالما كان المقصد خير، فما قصدنا بذلك إلا تعظيم أولياء الله الصالحين؟!!".
قلنا لك -أيها الحبيب-: أيكفي أن يكون المقصد خير؟ أم لابد كذلك أن يكون العمل على منهاج النبوة؟ فالله -تعالى- قال في كتابه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا) (الكهف:110).
لم يقل: فلتكن نيته فقط صالحة، ولكن لا اعتبار للنية الصالحة إلا عندما تكون مقرونة بعمل صالح كان عليه رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
فيا أيها الحبيب، بمن اقتديت؟، وبمن اهتديت؟، وبأي حبل تمسكت؟، وفي أي طريق سلكت؟
أيها الحبيب، أما علمت أن اليهود والنصارى ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤ، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، فكان الرد: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة: 18).
بل انظر عندما قالوا: لن يدخل الجنة إلا هم دون سواهم: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111).
فهذا بزعمهم الباطل، يقولون هذه الأقاويل الباطلة التي أبطلها الله -تعالى- -كما تعلم- في كتابه.
ونقول لك -أيها الحبيب-: أتدري ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) أترى ما السبب الذي استحقوا من خلاله اللعن والغضب؟! (اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) يحذر ما صنعوا. (متفق عليه).
أتدري -أيها الحبيب- ما سبب ضلال اليهود والنصارى؟ (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (التوبة: 31).
فكانوا يسيرون وراء علمائهم الذين غيروا وبدلوا في شرع ربهم.
أتعلم -أيها الحبيب- ما يقولون غدًا بين يدي ربهم؟
(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: 67).
فهل تتمنى أن يكون حالنا كحالهم، ونفعل ما فعلوا فتكون نهايتنا كنهايتكم؟!
ولعلك -أيها الحبيب- تردد بقلبك وتنطق بلسانك، وتقول: إنني أصبحت في حيرة شديدة من أمري، فما السبيل؟!
قلنا لك: السبيل هو رد هذا الحكم إلى الخالق -سبحانه- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أليس هو القائل -سبحانه- في محكم التنزيل: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء: 59).
ولقد نادى الله -تعالى- على كل مسلم ومسلمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)(الأنفال: 24).
يتبع