عرض مشاركة واحدة
  #507  
قديم 30-12-2024, 09:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,262
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ سَبَأٍ
المجلد الرابع عشر
صـ 4937 الى صـ 4948
الحلقة (507)




34- سُورَةُ سَبَأٍ


سميت بها لتضمن قصتها آية تدل على نعيم الجنة في السعة وعدم الكلفة والخلو عن الآفة ، وتبدلها بالنقم، لمن كفر بالمنعم.. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.

قاله المهايمي . وهي مكية. واستثني منها ويرى الذين أوتوا العلم الآية.

وروى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ألا أقاتل من أدبر من قومي؟ الحديث. وفيه: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله! وما سبأ ؟ الحديث.

قال ابن الحصار : هذا يدل على أن هذه القصة مدنية. لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.

قال: ويحتمل أن يكون قوله (وأنزل) حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته.

أفاده في (الإتقان) وآيها أربع وخمسون.

بسم الله الرحمن الرحيم



[ 1 ] الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير .

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا، وتصرفا بما شاء: وله الحمد في الآخرة أي: في النشأة الآخرة. قال الشهاب : السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره .

وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله: { الذي } إلخ، أنه محمود على نعم الدنيا، ولما قيد الثاني بكونه في الآخرة، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى: أنه المحمود على نعم الدنيا فيها، وعلى نعم الآخرة فيها . أو هو من باب الاحتباك، وأصله: الحمد لله إلخ. في الدنيا، وله ما في الآخرة والحمد فيها، فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة.

وقوله تعالى: وله الحمد معطوف على الصلة، أو اعتراض، إن كانت جملة: { يعلم } حالية: وهو الحكيم أي: الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته : الخبير أي: بخلقه وأعمالهم وسرائرهم، ثم ذكر مما يحيط به علما قوله:


[ 2 ] يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور .

يعلم ما يلج في الأرض أي: من الأمطار، والمياه، والكنوز، والدفائن، والأموات: وما يخرج منها أي: من الشجر، والنبات، وماء العيون، والغلة، والدواب: [ ص: 4938 ] وما ينـزل من السماء أي: من الأمطار، والثلوج، والبرد، والصواعق، والأرزاق، والملائكة، والمقادير: وما يعرج فيها أي: من الملائكة، وأعمال العباد: وهو الرحيم الغفور أي: لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.


[ 3 ] وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .

وقال الذين كفروا يعني مشركي مكة : لا تأتينا الساعة أي: ساعة الجزاء ، إنكارا لها: قل بلى وربي لتأتينكم أي: الساعة. رد لكلامهم وتأكيد لما نفوه، باليمين بالله عز وجل: عالم الغيب بالجر صفة، والرفع خبر محذوف، وقرئ ) علام (، بالجر. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد; لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به ، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته، لما أنه في حكم الاستشهاد على الأمر، لاسيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى; فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب، إذا قيل عالم الغيب: لا يعزب أي: لا يغيب بضم الزاي وكسرها: عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين أي: فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، وإن تناهى في الصغر ، فالعظام وأجزاء البدن، وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة; لسعة علمه وعظم قدرته، جل شأنه.

لطائف:

الأولى - عامة القراء على رفع: { أصغر } و: { أكبر } وفيه وجهان:

أحدهما: الابتداء [ ص: 4939 ] والخبر: { إلا في كتاب } والثاني النسق على: { مثقال } . وعلى هذا فيكون قوله: إلا في كتاب تأكيدا للنفي في: لا يعزب كأنه قال: لكنه في كتاب مبين، ويكون في محل الحال.

وقرأ بعض السلف بفتح الراءين، وفيه وجهان: أحدهما – أن { لا } هي لا التبرئة، بني اسمها معها. والخبر قوله: إلا في كتاب والثاني - النسق على: { ذرة } لامتناعه من الصرف.

الثانية - يشير قوله تعالى: ولا أصغر من ذلك إلى أن: { مثقال } لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضا.

الثالثة - قال الكرخي : فإن قيل فأي حاجة إلى ذكر ( الأكبر); فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، فأعلم أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك; فإن الأكبر مكتوب فيه أيضا. وقوله تعالى:


[ 4 ] ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم .

ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات علة لقوله تعالى: لتأتينكم وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء : أولئك لهم مغفرة ورزق كريم أي: عيش هنيء في الآخرة.


[ 5 ] والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم .

والذين سعوا في آياتنا أي: بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك معاجزين أي: مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل: أولئك لهم عذاب من رجز وهو أسوأ العذاب و: { من } للبيان: أليم بالرفع صفة عذاب، [ ص: 4940 ] وبالجر صفة لـ: رجز، قراءتان. وقد جوز في قوله: { والذين سعوا } أن يكون مبتدءا، وجملة: { أولئك } إلخ خبره وأن يعطف على: { الذين } قبله. أي: ويجزي الذين سعوا. ويكون جملة: { أولئك } التي بعده مستأنفة، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدهم بالسعي، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم، والجد البليغ، ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به.


[ 6 - 8 ] ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد .

ويرى أي: يعلم: الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد أي: دينه وشرعه: وقال الذين كفروا أي: من قريش : هل ندلكم على رجل يعنون النبي صلى الله عليه وسلم: ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أي: فرقتم كل تفريق، بحيث صرتم ترابا ورفاتا: إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أي: فيما قاله: أم به جنة أي: جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله: بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أي: المتناهي أمره; فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد، ونبذ الهوى والفساد، فيرمي الداعي بالفرية والجنون، لمغرق في الجهالة ، ومبعد أي بعد في الضلالة، ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب، بقوله سبحانه:
[ ص: 4941 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 9 ] أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب .

أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . أفاده الزمخشري .

(والكسف ): بسكون السين، بمعنى القطع، إما جمع كسفة، أو فعل بمعنى مفعول، أو مخفف من المصدر، وقرأ حفص : كسفا بالفتح: إن في ذلك أي: النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله: لآية أي: دلالة واضحة: لكل عبد منيب أي: راجع إلى ربه مطيع له، فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم ، كما قال تعالى:

أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وقال تعالى: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل ، والملك، وسعة السلطان، ووفرة الجند، وكثرة العدد، والعدد، ببركة إنابتهما، وقيامهما بشكر الرب تعالى، عدة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك، وتذكيرا بقدرته على كل شيء، فقال تعالى:


[ 10 - 11 ] ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير .

ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه أي: رجعي معه التسبيح و: يا جبال بدل من: { فضلا } أو من: { آتينا } بتقدير (قولنا)، أو (قلنا) يا جبال أوبي معه: والطير بالرفع والنصب، عطفا على لفظ الجبال ومحلها، وجوز انتصابه مفعولا معه، وأن يعطف على: { فضلا } بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري : فإن قلت أي فرق بين هذا النظم، وبين أن يقال: وآتينا داود منا فضلا، تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما ! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم اطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى.

وألنا له الحديد أن اعمل سابغات أي: دروعا واسعات: وقدر في السرد أي: اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها: واعملوا صالحا أي: وقلنا له ولأهله ذلك: إني بما تعملون بصير أي: فأجازيكم به.


[ 12 ] ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير .

ولسليمان أي: وسخرنا له: الريح غدوها شهر ورواحها شهر أي: جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك ، والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض. ويطلق بمعنى [ ص: 4943 ] النصرة والدلالة والغلبة والقوة، كما في القاموس: وأسلنا له عين القطر أي: النحاس المذاب; أي: أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه: ومن الجن أي: الشياطين الأقوياء: من يعمل بين يديه أي: من رفيع المباني، وإشادة القصور وغيرها: بإذن ربه أي: بأمره تعالى: ومن يزغ أي: يعدل: منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير أي: النار، ثم فصل ما ذكر من عملهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور .

يعملون له ما يشاء من محاريب أي: مساكن ومجالس شريفة، أو مساجد: وتماثيل أي: صور ونقوش منوعة على الجدر، والسقوف، والأعمدة. جمع ( تمثال)، وهو كل ما صور على مثل صورة غيره من حيوان، وغير حيوان، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.

قال السيوطي في ("الإكليل"): قال ابن الفرس : احتجت به فرقة في جواز التصوير، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا : وجفان كالجواب أي: وصحاف كالجوابي، وهي الحياض الكبار، و (الجفان): جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة، ما يوضع فيه الطعام مطلقا. وقيل الجفنة أعظم القصاع، ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة، ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة، ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين، ثم الصحيفة: وقدور راسيات أي: ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها: اعملوا آل داود شكرا أي: قيل لهم: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف، كما أن فيه وجوب الشكر، وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان; لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله، وداود عليه السلام قد يدخل هنا في (آله); فإن آل الرجل قد يعمه: وقليل من عبادي الشكور أي: المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، أكثر أوقاته.
[ ص: 4944 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .

فلما قضينا عليه أي: على سليمان : الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض وهي الأرضة: تأكل منسأته أي: عصاه التي ينسأ بها، أي: يطرد ويؤخر: فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين أي: الشديد من الجري على رسمه لهم، والدأب عليه، لظنهم إياه حيا.

ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه، إثر بيان أحوال الشاكرين لها، ما فيه عظة واعتبار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور .

لقد كان لسبإ اسم لأبي قبيلة. وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها: في مسكنهم أي: في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها: (مأرب) ، كمنزل من بلاد الأزد، في آخر جبال حضرموت ، وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة، فإنها مدينة بلقيس ، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل. وقرئ: { مساكنهم } : آية على قدرته تعالى ومجازاته المسيء: جنتان عن يمين وشمال أي: جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها، أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله. قيل لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي: بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.

ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به ، بقوله سبحانه: بلدة طيبة أي: لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها: ورب غفور أي: لمن شكره.
[ ص: 4945 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل .

فأعرضوا أي: عن الشكر: فأرسلنا عليهم سيل العرم أي: سيل الأمر العرم، أي: الصعب والمطر الشديد - أو الوادي - أو السكر الذي يحبس الماء - أو هو البناء الرصين المبني بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها، وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم، واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى: وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط أي: ثمر مر، أو بشع لا يؤكل: وأثل شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له: وشيء من سدر قليل وهو شجر النبق; أي: قلة لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا تبديل النعم بالنقم، لمن لم يشكر النعم ، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور .

ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور أي: بشكر النعم، أو باتباع الرسل، وتكذيب الحق، والعدول إلى أهل الباطل، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة، والغبطة، والعيش الهني، والبلاد الآمنة، والقرى المتواصلة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين .

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها أي: بالزروع والثمار، وحسن العمران، وهي [ ص: 4946 ] قرى بصنعاء ، كما قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومالك ، وغيرهم: قرى ظاهرة أي: متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها; فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم: وقدرنا فيها السير أي: جعلنا بين قراها مقادير متساوية، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة، ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدو ونحوه: سيروا فيها ليالي وأياما آمنين أي: لا تخافون في الليل أو النهار، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد، فلا ترون إلا الأمن، والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبي ونحوه، أو بلسان الحال، كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به، فالأمر للإباحة. وفي: (في)، إشعار بشدة القرب، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .

فقالوا أي: بلسان الحال، والميل إلى المهالك الشيطانية: ربنا باعد بين أسفارنا أي: فاستعدوا لضلالهم وكفرهم، لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطي والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه، وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة: وظلموا أنفسهم أي: حتى حل بهم ما حل: فجعلناهم أحاديث أي يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم، وكيف مكر الله بهم، وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني: ومزقناهم كل ممزق أي: فرقناهم كل تفريق، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا. يقولون: تفرقوا أيادي سبا، وذهبوا أيدي سبا. بألف مقصورة.

قال الأزهري : العرب لا تهمز سبئا في هذا الموضع; لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزا، والذهاب معلوم، والأيادي جمع أيد، والأيدي جمع يد، وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد [ ص: 4947 ] . قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي: متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. و(اليد) الطريق. يقال: أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة: (ذهبوا أيدي سبا); أي: فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.

قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيا على السكون. وفي (" زهر الأكم، في الأمثال والحكم)" أن سبا كانت أخصب بلاد الله، كما قال تعالى: جنتان عن يمين وشمال قيل كانت مسافة شهر للراكب المجد، يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء، فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه، وكانت في بدء الأمر تركبها السيول، فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم، فاتخذوا سدا في بدء جريان الماء، ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات، فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدهم فأرة فخرقته، وأرسل عليهم السيل فمزقهم كل ممزق، وأباد خضراءهم، وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان ، وخزاعة ببطن مر ، والأوس والخزرج بيثرب ، وآل جفنة بأرض الشام ، وآل جذيمة الأبرش بالعراق .

وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس ، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: « بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان » . قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة .

روى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم ». فقاتل بمقبل قومك مدبرهم. فلما وليت دعاني فقال: « لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام » [ ص: 4948 ] فقلت: يا رسول الله ! أرأيت سبئا؟ أواد هو، أو جبل، أو ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: « لا، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة، فتيامن ستة، وتشاءم أربعة; تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار - الذين يقال لهم بجيلة - وخثعم . وتشاءم لخم ، وحذام ، وعاملة ، وغسان » .

قال ابن كثير : حديث حسن، وإن كان فيه أبو حباب الكلبي ، وقد تكلموا فيه.

ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتاب (" القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم") عن تميم الداري ، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ؟ فذكر مثله .

وقال ابن كثير : فقوي هذا الحديث وحسن.

وذكر علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وإنما سمي سبئا لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له الرائش; لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا، وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم، وقال في ذلك شعرا:


سيملك بعدنا ملك عظيم نبي لا يرخص في الحرام ويملك بعده منهم ملوك
يدينوه القياد بكل رامي ويملك بعدهم منا ملوك
يصير الملك فينا بانقسام ويملك بعد قحطان نبي
تقي متحنث خير الأنام يسمى أحمدا يا ليت أني
أعمر بعد مبعثه بعام فأعضده وأحبوه بنصري
بكل مدجج وبكل رام متى يظهر فكونوا ناصريه
ومن يلقه يبلغه سلامي
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 53.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.18%)]