إجارة الذمة تستحق أجرتها بتسليم العمل
قال: [وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة] : هذا بالنسبة لإجارة الذمة فإنها تستحق فيها الأجرة بتسيلم العمل مثلما ذكرنا، ففي حال اتفاقك مع شخص على أن يبني لك عمارة، أو على أن يصلح لك سيارة، أو على أن يصلح لك جهازا كثلاجة أو غسالة، فلا يستحق أجرة ذلك إلا بعد أن ينهي الإصلاح الذي طلبته فيما فسد، أو يبني العمارة، أو غير ذلك مما اتفق عليه.
فإذا أتم العمل وسلمك ما عمله ثبت الاستحقاق، أما قبل أن يسلمك كما ذكرنا في مسألة التضمين فإنه إذا لم يسلم فإنه لا يجب عليك دفع الأجرة له -كما ذكرنا في مسألة التضمين- لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) .
فقوله: (قبل أن يجف عرقه) يدل على أنه في إجارة المنافع لا تلزم الأجرة إلا عند انتهاء الأعمال؛ لأنه قبل أن يجف عرقه معناه أنه عمل فسال عرقه من شدة الإعياء والتعب، فيعطى قبل أن يجف عرقه، فيعني أنه انتهى من كل شيء، فتعطيه حقه، بعد أن سلمك حقك كاملا.
الإجارة الفاسدة والأجرة اللازمة فيها
قال رحمه الله: [ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل] : كل الذي تقدم معنا كان في الإجارات الصحيحة، وقد بينا المسائل المترتبة على القعد الصحيح، لكن يرد
السؤال لو أن اثنين اتفقا على إجارة فاسدة، مثل أن يتفقا على إجارة دار مجهولة بثمن مجهول، أو على أن يتفقا بعد العقد على الثمن، ففي هذه الحالة العين المؤجرة هي الدار مجهولة.
وقد قدمنا أنه يشترط في صحة الإجارة العلم بالدار المؤجرة، فلو أنهما اتفقا على دار مجهولة ثم جاء وسكن الدار، أو مضت مدة الاتفاق ولم يسكنها وقد مكنه المؤجر من سكنها، نقول: يلزم المستأجر أن يدفع أجرة المثل.
لأنه إذا سكنها وأخذ منافعها، استحقت الأجرة من جهة المنافع، وهذا قد تقدم معنا في مسائل البيوع حينما ذكرنا مسائل العيوب، وقلنا في هذه الحالة: حينما يؤجره داره وتكون الإجارة فاسدة، ثم يتفق الطرفان على أنها لشهر أو لسنة، وتمضي السنة أو يمضي الشهر، ثم يتبين فسادها بعد انتهاء العقد، نقول: إن هذه المنافع قد حبست لمصلحة المستأجر.
وتعطيل المنافع يوجب ضمانها، وقد رضي بذلك، فهو وإن لم يصح عقد الإجارة إلا أن التزامه بضمانه ورضاه بذلك وتحمله لمسئولية استهلاك هذه المنافع على حسابه، سواء تحقق ذلك بالفعل أم لم يتحقق، يلزمه ضمانها من جهة الضمان لا من جهة الإجارة، فإذا ضمن فإنه يضمن بأجرة المثل.
فلو كانت تستحق بالأجرة للزمته الأجرة المتفق عليها بين الطرفين، لكن الواقع أن الإجارة فاسدة، فحينئذ يضمن أجرة المثل.
فهناك فرق بين الأمرين، إذ لو كانت الإجارة صحيحة لألزمناه بدفع الأجرة المتفق عليها بينهما، لكن لما كانت الإجارة فاسدة ألزمناه بدفع أجرة المثل.
فنقول: هذه الدار التي مضت عليها سنة بهذا العقد الفاسد كم أجرتها في السوق؟ فيقال: هذه الدار مثلها يؤجر في السوق بعشرين ألفا لسنة، فنقول: يلزمك دفع عشرين ألفا من باب ضمان الحقوق كما ذكرنا.
الأسئلة
حكم توقيف العامل عند عدم الإعجاب بعمله
السؤال إذا اتفقت مع عامل على أن يعمل عندي شهرا بمبلغ من المال، وبعد مضي أيام من عمله لم يعجبني عمله وأوقفته، فهل أعطيه أجرة الأيام التي عملها، أم أجرة الشهر كاملا.
الجواب إن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فبينك وبين أخيك المسلم عقد إجارة شهر كامل، فلابد من إتمام هذا العقد إلا إذا وجد العذر الشرعي.
وأما قولك: لم يعجبني عمله، هذا القول فيه تفصيل: إن كان مرادك أنه لم يقم بالعمل على الوجه المعتبر وأنه يقصر ويضيع ويفرط، فمن حقك أن توقفه وتقول له: إما أن تؤدي العمل تاما بدون تفريط، وإما أن ألغي الإجارة فيما بقي من الشهر.
ومن حقك أيضا أن تقدر أجرة مثله فيما مضى، فلا يأخذ الأجرة كاملة.
مثال: لو أنك استأجرت شخصا لأجل القيام بمصلحة النجارة أو الحدادة، فجاء نجار على أنه نجار، وعمل نصف ما ينبغي أن يعمل مثله، كأن يكون بطيء العمل، ثقيل اليد، لا يحسن الإدارة للعمل، حتى أصبح نصف العمل قد سقط، فمثله يستحق أجرة خمسين وأنت أعطيته مائة، فمن حقك أن تعطيه على الأعمال الماضية أجرة خمسين، وتقول له: إما أن تلتزم بأداء العمل بما يستحق مثلك ممن يأخذ مائة، وإما أن تفسخ العقد، وتعطيه مهلة يوم أو يومين حتى يستقيم وتنظر، إن أتم العمل فبها ونعمت.
والسبب في هذا التفصيل: أن العقود والاتفاقات محتكم إليها؛ لأن الله أوجب علينا أن نفي بهذا المتفق عليه، فأنت اتفقت معه على أن يقوم بعمل يستحق المائة، لكن العمل الذي قام به يستحق الخمسين، فيصبح أخذه للخمسين الزائدة من أكل المال بالباطل، سواء كان في مزرعة أو ورشة أو شركة، أو في أي مجال، فإذا لم يؤد العمل الذي يستحق بمثله الأجرة التي خصصتها له، كان من حقك أن ترده إلى أجرة مثله، وأن تخيره فيما بقي من الشهر؛ إما أن يتم العمل الذي يستحق به المائة وإما أن يفسخ العقد، هذا من حقك، وما ظلمته، لأننا لو جئنا نفتح هذا للناس فإننا قد حدنا وصار من الجور، وأصبحنا مع العامل ضد صاحب الحق، ولا يجوز أن يكون حكم الشرع مائلا إلى أحدهما، بل لابد من العدل، فما دام اتفق معه على أن يقوم بالعمل الذي يستحق به مائة فينبغي أن يؤدي عمله الذي يستحق به المائة.
لكن لو أن هذا العامل أدى الطاقة التي يستحق بها المائة، لكن الطاقة التي يستحق بها المائة فيها مرتبة كمال ومرتبة وسط ومرتبة دنيا، فمثلا: إذا جئت به في ورشة فإن طاقته الإنتاجية التي يستحق بها المائة ريال أن ينتج ثلاثة أشياء من العمل الذي طلبته، هذه الثلاثة الأشياء إذا أنتج الثالث منها ينتجه بصفة كاملة إذا كان على الأكمل، الطاقة الوسطى -التي هي دون الكمال- ينتج من الثالث ثلاثة أرباع، الطاقة الدنيا أن ينتج من الثالث نصفه، فأنت أعطيته مائة على أساس الطاقة الإنتاجية من حيث الأصل المعتبر أنها اثنين ونصف، أي: هي مرتبة الإجزاء، فكون الأكمل يأتي بثلاث وهو عجز عن الثلاث فهذا لا يوجب إسقاط العقد، فقولك: لا يعجبني.
قد يراد به الكمال، وإذا أردت به الكمال فليس من حقك أن تنقص أجرته ولا أن تلغي العقد فيما بقي من الشهر إلا برضاه؛ لأن الأصل الذي اتفق عليه يستحق به المائة، وهو الاثنين والنصف، والأكمل ليس مطالبا به، مثل المزارع يقوم في المزرعة بسقي الماء والقيام على البهائم الموجودة في المزرعة، فالأكمل في مثل هذا الشهر أن يقوم بهذا العمل أولا -الذي هو إدارة الماء- والقيام على البهائم وتقليم الشجر، فلم يعجبك؛ لأنه أدى الاثنين ولم يؤد الثالث، فلم يأت في مرتبة الإعجاب وفي مرتبة الكمال.
فقول: لم يعجبني.
فيه تفصيل، والعجب عند الناس مراتب، لكن نحن نقول: الحق أن تحتكم أنت والعامل إلى الحق، فالعجب واستعجاب الشيء ومحبته تختلف موازينها وتختلف ضوابطها، ولا ينبغي لك أن تلغي هذا العقد إذا كان قد أتى بما يجزيه وما يستحق عليه الأجرة المتفق عليها، ويجب عليك إتمام ما بقي من الشهر، إلا إذا اتفقتما برضا منكما على فسخ العقد، والله تعالى أعلم.
الشبه بين تصرف الأجير بغير إذن وبين تصرف الفضولي
السؤال ذكرنا أن الأجير الخاص لو قام بعمل دون إذن صاحبه فإنه يضمن، فهل هذه المسألة تشبه مسألة تصرف الفضولي؟
الجواب تشبه مسألة تصرف الفضولي إذا كان الفضولي عنده إذن أصل، وأما إذا لم يكن عنده إذن في الأصل فإنها لا تشبهها؛ لأن الأجير عنده إذن من حيث الأصل، وأما بالنسبة للفضولي فليس عنده إذن في بعض الصور وعنده إذن في بعض الصور.
مثاله في الفضولي: إذا قلت له: اشتر لي سيارة واحدة.
فاشترى سيارتين، فقولك: اشتر.
أصل، وهو التوكيل بالشراء، لكن خرج إلى كونه فضوليا في السيارة الثانية، والأجير أجير، لكنه إذا زاد عن الحد المعتبر يصبح في هذه الحالة لم تأذن له بشيء زائد، يصبح عنده أصل عام وزيادة، والفضولي يشاركه إذا وجد أصل عام؛ لأن الفضولي في بعض الأحيان لا يكون عنده أصل عام، مثل شخص أخذ منك سيارة على أن يذهب بها إلى الجامعة ويذهب بها إلى المسجد، ثم وجد رجلا يقول له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف، ورأى من المصلحة أن يبيعها لك بعشرة آلاف فباعها، أنت ما قلت له: بعها، وليس عنده أصل عام، فقد يتصرف الفضولي وليس عنده أصل عام، وقد يتصرف وعنده أصل عام، وهناك فرق بين المسألتين.
فشبه مسألة إجارة الفضولي عند وجود أصل عام يمكن أن يستند إليه، وهو عام من حيث الشكل -يعني: الأصل- لكنه خاص أريد به الخصوص الذي هو الشراء في الحدود المعينة، وعلى هذا يكون تصرف الفضولي مشابها لهذه المسألة في القيد الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.
حكم الدعاء عند الطواف والسعي بغير العربية
السؤال هل يصح الدعاء عند الطواف والسعي بلغة أخرى غير اللغة العربية؟
الجواب لا بأس بالدعاء عند الطواف بالبيت بغير اللغة العربية إذا كان لا يحسن اللغة العربية، وإذا دعا بلغته فإنه يجزيه، ولا يشترط أن يدعو باللغة العربية؛ لأنه مكان ذكر وثناء على الله عز وجل، وسؤال له من فضله، وهذا يشمل الدعاء بغير العربية كالدعاء بالعربية، إلا أن الدعاء باللفظ العربي تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع إذا كان يتقنها هو الأصل، فلما تعذر في مثله لعدم إمكانه أو عدم معرفته بالأدعية المأثورة فلا بأس أن يدعو بلسانه، والله تعالى أعلم.
حكم عدم الوقوف عند المشعر الحرام
السؤال صليت الفجر في مزدلفة، ثم اطرحت ولم أقف عند المشعر الحرام، فماذا علي؟
الجواب مزدلفة كلها مشعر حرام، فما دام أنك وقفت في أي موقف من مزدلفة فأنت في المشعر الحرام، والمشعر كل شيء أشعر الله بتعظيمه، وقيل له: (المشعر الحرام) لأنه قبل عرفات، فعرفات بعده خارجة عن حدود الحرم، فمزدلفة يأتي بعدها حدود الحرم، ثم تأتي نمرة، ثم يأتي وادي عرنة، ثم عرفات، فالمشعر الحرام داخل الحرم، وقيل له (مشعر) من المشعر، و (المشعر الحرام) لأنه داخل حدود الحرم، لكنها اشتهرت باسم (منى) ، وقيل لها (المشعر الحرام) لأنها وسط بين ما في الحرم وبين ما هو خارج عن الحرم، ولكنها من الحرم؛ لأن مزدلفة بين عرفات وبين منى، ولذلك هي كلها مشعر حرام {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198] أي: مزدلفة كلها كما جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام بلفظ: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) وأما اللفظ الآخر: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) أما بالنسبة لمزدلفة فقال: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) فاستثنى وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، وقيل: من الحسر، بمعنى: الكلال، يقال: كل إذا أعيا؛ لأنهم كانوا يدفعونه إلى الحرم فيمتنع حتى أرسل الله عز وجل عليهم العذاب في ذلك الموضع.
فالمقصود: أن وادي محسر ليس من منى ولا من مزدلفة، وهو فاصل بين منى ومزدلفة، والمشعر من فج المأزمين إلى وادي المحسر كله مشعر، وفج المأزمين عند الإفاضة في جهة المسجد والجبلان الصغيران اللذان بحذاء المشعر، الجبل الصغير الذي هو جبل قزح بحذائه فج المأزم، هذا هو المدخل الذي يؤتى من طريق المأزمين؛ لأن طريق المأزمين بين جبلين غربي القناة المعروفة في حضن الجبل، هذا الطريق -الذي هو طريق المأزمين- في نهايته وفي رأسه عند مشعر المزدلفة هو بداية مزدلفة، ثم تنتهي مزدلفة من جهة منى عند وادي المحسر، فمن وقف عند هذه الحدود فقد وقف في مزدلفة، ومن بات فيها للحج فقد بات في مزدلفة.
وأما من دخل إلى حدود وادي المحسر فإنه ليس من مزدلفة، مضطرا أو مختارا، ولذلك لا تسري عليه الأحكام الشرعية؛ لأنه مأمور بالتحري والاحتياط، ومأمور بالسؤال، والأعلام موجودة، وكل شيء معروف، وليس له من عذر أن يقول: أنا أجهل.
فهذا كله تلاعب وتساهل، فشخص يأتي ويقول: لا أعرف حدود عرفة ولا أعرف حدود مزدلفة ولا أعرف حدود منى، وهي واضحة، ويمكنه السؤال، والمعالم واضحة، والناس متواجدون ومتكاثرون، ومع هذا يقول: أنا جاهل.
ويقال: هذا جاهل ليس عليه شيء.
فنقول: هذا ليس بجهل، هذا تقصير وتلاعب وتساهل، فالشخص الذي يتلاعب ويتساهل ويقصر يضمن الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (فدين الله أحق أن يقضى) فإذا كنا في حقوق الآدميين نقول له: يضمن إذا قصر.
فما بالك بحق الله عز وجل الذي هو أجل وأعظم؟! فينبغي أن يراعى: أن من وقف في هذا المكان الخارج عن حدود مزدلفة فليس بمزدلفة، أما لو أنك صليت الفجر ووقفت في أي موضع من مزدلفة، فقد وقفت في المشعر الحرام وذكرت الله فيه، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين والله تعالى أعلم.
حجية الإجماع
السؤال معلوم أن الإجماع أحد أدلة الشرع، ولكن -كما تعلمون- أن انعقاد الإجماع المنضبط لا يكاد يقع بعد عهد الصحابة، ولا يخفاكم قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب.
وقول العلماء: إن في حكاية ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع فيه نظر.
وبناء على ذلك: هل الإجماع الذي يحكى في كتب العلماء لا يعتبر باعتباره إجماعا غير منضبط؟ وهل يرى فضيلتكم أن اتفاق العلماء في المجمع الفقهي في العصر الحاضر يعتبر إجماعا وحجة؟
الجواب الإجماع حجة، قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء:115] فتوعد الله من ترك سبيل المؤمنين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحتجون بإجماع من قبلهم، فيحتجون بما كان على عهد أبي بكر وعهد عمر فيقولون: فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أبو بكر والصحابة معه.
فيحتجون بذلك.
أما مسألة من ادعى الإجماع: أولا: الإجماع: اتفاق جميع مجتهدي الأمة في عصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أي حكم شرعي.
فهو من حيث الأصل اتفاق جميع المجتهدين، إلا أنه قد يتعذر ضبط الجميع، وإنما المراد اشتهار المسألة ونص العلماء عليها في كتبهم وتناقلهم، وهذه الكتب مشهورة معروفة ولا يعرف من أنكرها أو خالفها؛ لأنه لو وجدت دواع للنقل والبواعث على النقل موجودة ولم يوجد من ينقل عنه المخالفة دل ذلك على عدم الوجود غالبا؛ لأن غالب الظن يحتكم إليه.
فنحن نقول: اعلم رحمك الله أن الإجماع حجة، وقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب.
على حالتين: إما أن يكون مراده رحمه الله شيئا خاصا، بمعنى أن قوله: من ادعى الإجماع.
يعني به الإجماع بكل شخص من الأمة بغض النظر عن كونه مجتهدا أو غير مجتهد، فهذا صحيح؛ لأنه لا يمكن اتفاق كل الأمة وإجماع كل الأمة، وهذه عبارات تأتي عن بعض الأئمة يقصد منها المصطلحات الخاصة، يعني: من ادعى الإجماع بغير المصطلح الخاص -وهو اتفاق العلماء- فقد كذب؛ لأنه لا يستطيع إثبات أن كل الأمة أجمعوا على ذلك، وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه كإخوانه من الأئمة، لكن له مواقف عجيبة بديعة في الورع، فكأنه يقول: يا من تحكي الإجماع! ينبغي أن يكون عندك ورع، أي: لا تعتقد أن الأمة كلها أجمعت.
وليس المراد أن الإجماع ليس بموجود؛ لأنه هو نفسه احتج بالإجماع، ولا يختلف اثنان أن مذهب الإمام أحمد على أن الإجماع حجة، ونص الكتاب والسنة لم يخالفه رحمة الله عليه، بل إنه لما ذكر المساقاة والمزارعة حكى فيها إجماع الصحابة ومن قبلهم.
بل الإمام أحمد بن حنبل نفسه رحمة الله عليه يحكي الإجماع ويحتج بالإجماع، فمن يعرف فقه الإمام أحمد ويعرف تماما الإمام أحمد يعرفه بالورع رحمه الله برحمته، فكأنه ينبه كل من يحكي الإجماع ألا يعتقد أنه إجماع لكل الأمة بمعناه الحقيقي، فمن ادعى الإجماع بمعناه الحقيقي لا معناه الاصطلاحي فقد كذب، ليصبح من يدعي الإجماع ويقول الإجماع من الفقهاء عنده ورع وعنده تحفظ، وهذا هو العلم: أن العلماء يضعون أشياء اصطلاحية وأشياء أصلية مبنية على اللفظ؛ لأن الإنسان مؤاخذ بلفظه، والإمام أحمد كان يتورع حتى في اللفظ، حتى الحرام يقول: أكرهه.
وكان ينفض يديه، وكان يتغير وجهه؛ أن يقول: هذا حرام.
رحمته الله برحمته الواسعة، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فكان على ورع عظيم رحمه الله.
الشيء الثاني: نحن عندنا النصوص واضحة في أن الإجماع حجة، وأما مسألة أن بعض العلماء يتسامح في نقل الإجماع، فاعلم رحمك الله أن الإمام ابن عبد البر حينما ينقل الإجماع ليس من باب التساهل ولا من باب التلاعب، وينبغي لك أن تنتبه لكلمات العلماء وحذر الشيوخ من الإجماع عن ابن عبد البر بالسماع ليس المراد به أن الحافظ الإمام الحجة ابن عبد البر كان متساهلا، كلا والله، وليس من أهل التساهل، بل هو القدم الراسخة في العلم، فهو الثبت الحجة رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن كان له عذره؛ لأنه كان بالأندلس، ويحكي الإجماع على قدر علمه، فيخفى عليه خلاف أهل المشرق، وكان أهل المغرب يخفى عليهم خلاف أهل المشرق.
وإما إجماع النووي فإياك إياك! فإن الإمام النووي إمام فقيه وحجة، وله باعه العظيم في حكاية الإجماع ومعرفة خلاف العلماء، ولكن من الذي يفهم كلام النووي؟! الإمام النووي يقول: واختلف أصحابنا.
ويكثر من حكاية أقوال أصحابه في خضم المسائل الخلافية، فيقول: واختلفوا هل يجوز أو لا يجوز على وجهين وعلى قولين، والأظهر والصحيح والأصح.
ثم يقول: وكل هذا إذا لم يقصر، فإن قصر فبالإجماع لا يجوز.
يعني: إجماع مذهبنا وإجماع أصحاب القولين، أي: ليس فيه قولان ولا وجهان أي: في مذهبه.
فيأتي من لا يحسن النظر ويقول: الإمام النووي حكى الإجماع في هذه المسألة، وقد أخطأ، وقد خالف المالكية وخالف الحنابلة.
وهو لا يريد الإجماع خارج المذهب، وهذه أوهام يقع فيها من لا يحسن تتبع كلام العلماء.
أما الإجماع فإنه حجة، ولا شك أنه يحتاج إلى نوع من التحري والضبط، ولا شك أن نقل العلماء المعروفين وتواتر النقل عنهم بأن هناك إجماعا يوجب للمسلم أن يعمل بمثل هذا الإجماع.
وأقل ما يقال، وهو ختام ما نقوله: هب أنه ليس بإجماع، فإن أقل ما يقال فيه: إنه السواد الأعظم.
فإذا جاءك مثل الإمام النووي أو الإمام ابن قدامة رحمة الله عليهما ممن اشتغل بالخلاف واكتحلت عيناه بالسهر وهو يقلب في دوواين العلم، ووجد أن كل دواوين العلم تحكي ذلك، ولم يجد مخالفة، فماذا تقول؟ وأنت لو ذهبت إلى عالمين جليلين فاضلين وسألتهما، وكل منهما قال لك: لا يجوز، مثل أن نسأل مشايخنا نسأل الله أن يحفظهم وأن يجري أعمارهم بعفو وعافية ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لو ذهبت إلى عضوين من أعضاء هيئة كبار العلماء وسألتهما، وقالا: لا يجوز.
فعند ذلك تحدث في نفسك طمأنينة ورضا، فما بالك بأئمة العلم ودواوين السلف الذين كانوا آية من آيات الله عز وجل في العلم والعمل، إذا كان سوادهم الأعظم على هذا القول، هل ترضى نفسك أن تشذ عنهم وتخالفهم؟؟ فإياك إياك! إذا حكي الإجماع من العلماء الجهابذة الأثبات، فإنك تأمن بهذا وترتاح نفسك وتطمئن، وتتبع سبيل أمثال هؤلاء العلماء كما قال الإمام مالك؛ فحق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لآثار من مضى قبله.
والنقطة الأخيرة: مجمع الفقه مجمع له مكانته، وإذا اتفق العلماء في مجمع الفقه فليس بإجماع، لكنه له منزلته والفتوى منه لها منزلتها، وبالمناسبة: فإن مجمع الفقه وهيئة كبار العلماء بالتتبع والمعرفة أنهم لا يبحثون مسألة ولا يفتون في مسألة ولا يسقط قرار إلا بعد تعب شديد في تحري المسائل وتتبعها، وسؤال أهل الخبرة، وأقول: إياكم أن تظنوا أن هذه الفتاوى التي تصدر من هيئات كبار العلماء والمجامع الفقهية أنها سهلة، أحيانا بعض المسائل تدرس إلى ما يقرب من عشرة أشهر، وقد تطول إلى اثني عشر شهرا، وترجع وتؤخر لاستكمال النظر فيها، رزق الله هذه البلاد علماء عرفوا بالصلاح والخير، ووضع الله لهم القبول ووضع الله لهم الثقة بين الناس، فنسأل الله العظيم أن يوفقهم وأن يسددهم، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
وهذه ذمة على كل مسلم: أن يدعو لهم؛ لأن هؤلاء هم الذين يحملون الخير لهذه الأمة، ويحفظون ثغورا عظيمة، فيكثر من الدعاء لهم، ويحسن الظن بهم، ويوثق في أقوالهم.
ونسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهم، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء:88] * {إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:89] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.