شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (363)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
شرح زاد المستقنع - باب الإجارة [9]
ينفسخ عقد الإجارة بتلف العين المؤجرة أو بظهور عيب مؤثر فيها، فإن كان قد مضى على استئجارها مدة قبل تلفها أو ظهور عيب مؤثر فيها لزم المستأجر دفع أجرة تلك المدة، وأما إذا تلفت أو ظهر عيبها قبل البدء في الاستئجار فلا يلزمه دفع شيء.
أحكام انفساخ عقد الإجارة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن اكترى دارا فانهدمت، أو أرضا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي] .
شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتزامات المؤجر، فإن الواجب على من أجر غيره أن يلتزم بتمكينه من المنفعة، وعقد الإجارة منصب على منفعة مطلوبة بالمعاوضة، فالمستأجر دفع المال لتحصيل هذه المنفعة، فالواجب على المؤجر أن يمكنه من هذه المنفعة، فإذا حصل العذر الطارئ الذي يمنع من استيفاء هذه المنفعة، ولا يتمكن المستأجر من أخذ حقه من العين المستأجرة؛ فإنه حينئذ ينفسخ عقد الإجارة.
تلف العين المؤجرة
فأنت -مثلا- إذا استأجرت دارا من أجل أن تسكن فيها، فإنك إنما طلبت هذه الإجارة من أجل منفعة السكنى، فلو أن هذه الدار التي استأجرتها سقطت وانهدمت فإنه يتعذر ويمتنع عليك أن تستوفي حقك، وحينئذ فإن المنفعة التي هي محل العقد بين الطرفين قد فاتت بفوات العين؛ ولذلك ينفسخ عقد الإجارة، ويكون هذا -كما مثل المصنف رحمه الله- في العقارات، كدار استأجرها من أجل أن يسكنها فانهدمت، فإذا انهدمت الدار فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تنهدم قبل استيفاء المنفعة، وحينئذ ينفسخ عقد الإجارة، حيث لا يمكن استيفاء المنفعة، ويجب على المؤجر أن يرد المال للمستأجر.
الحالة الثانية: أن يحصل العذر الطارئ بالانهدام عند بدء استيفاء المستأجر مدة ما من العقد، كأن يستأجر الدار سنة، وتنهدم الدار في الربع الأول أو في النصف الأول من السنة، أو بعد مضي ثلاثة أرباع السنة، ففي هذه الحالة: إذا انهدمت الدار وقد استوفى المستأجر شيئا منها فإن الإجارة تتبعض بتبعض ذلك الشيء، فنقول للمؤجر: لك عند المستأجر أجرة المدة التي استوفاها، سواء بلغت نصف المدة أو كانت دونها أو زادت على ذلك.
وأما بالنسبة للمؤجر فنقول له -إن كان قد أخذ الأجرة مقدما-: يجب عليك دفع الزائد على هذه المدة، وينفسخ العقد بينكما.
فلو استأجر الدار بعشرة آلاف لسنة كاملة، وانهدمت بعد نصف سنة من سكناه، فنقول للمستأجر: ادفع خمسة آلاف.
ونقول للمؤجر -إن كان قد أخذ العشرة آلاف-: رد للمستأجر الخمسة الآلاف التي أخذتها، وتملك نصف الأجرة التي دفعت إليك.
وقد مثل المصنف بمثالين: المثال الأول في الدور، والمثال الثاني في الأرضين والمزارع.
فإذا استأجرت الدار أو العمارة أو الشقة من أجل السكنى فلا إشكال، ويكون التمثيل بالانهدام.
وإذا استأجرت أرضه من أجل الزراعة، وكان في الأرض بئر، فغار ماؤها وانقطع، أو استأجرت أرضا للزراعة فجاء سيل واجتاح هذه الأرض وأغرقها بحيث لا يمكن زراعتها، لأنها إذا غمرت بالماء تعذر زرعها إلا إذا انكشف وانحسر الماء عنها، فحينئذ إذا كانت الأرض معدة للزراعة فإنه لا يصح أن تعقد الإجارة عليها من أجل الزراعة إلا إذا كان الماء موجودا فيها، وقد ذكرنا هذا، وذكرنا الدليل عليه، وقلنا: إن أي عقد للزراعة على أرض ينبغي أن يكون الماء موجودا، فإذا اتفق الطرفان على أنه يستأجر منه هذه الأرض للزراعة سنة كاملة، ثم في منتصف السنة غار الماء وانقطع، فإنك لن تستطيع أن تحصل المنفعة التي من أجلها عاوضت بالإجارة على هذه الأرض، فمن الظلم أن تبقى على هذا العقد فيأخذ المال منك وأنت لا تأخذ حقك، فينفسخ عقد الإجارة في النصف الثاني من السنة، ويصحح عقد الإجارة في النصف الأول من السنة؛ لأن النصف الأول قد أخذت المنفعة تامة كاملة، والنصف الثاني قد حيل بينك وبين هذه المنفعة، فحق مالك الأرض أن يأخذ منك ما استوفيت، وحقك منه أن تأخذ منه ما لم تستطع استيفاءه، فينفسخ العقد في نصف السنة.
وإذا غار الماء بعد ذهاب ثلثي السنة فالحكم كذلك، تدفع أجرة الثلثين ويرد إليك أجرة الثلث.
إذا: القاعدة: إذا امتنع استيفاء المنفعة وتعذر ذلك بسبب انهدام الدار أو غرق الأرض وانقطاع الماء عن الأرض فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل استيفاء المستأجر ومضي شيء من العقد، فحينئذ ينفسخ العقد من أصله، وترد القيمة كاملة.
وإما أن يقع هذا وقد مضى شيء من المدة، فحينئذ نقول: تتبعض الإجارة؛ فيجب على المؤجر أن يرد من القيمة بقدر ما بقي من مدة الإجارة، سواء كان نصفا أو أكثر على التفصيل الذي ذكرناه.
قوله: (فانقطع ماؤها) ؛ لأن الماء هو الذي ينمو به الزرع، لكن لو أنه قال له: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض لأزرعها، وإذا لم أزرعها فسأجعلها محلا للدواب.
فحينئذ أعطاه أمرين، فلو فاتت مصلحة الزراعة بانقطاع الماء فإنه يكون من حقه أن يستوفي عن طريق جعلها محلا لدوابه كما ذكر، ولا يكون هذا التفصيل إلا إذا تمحض العقد من أجل الزراعة، أما إذا لم يكن من أجل الزراعة فلا إشكال، وحينئذ ننظر: ففي بعض الأحيان لو أنه استأجر أرضا من أجل أن تكون مستودعا له، فجاء السيل وأغرقها، فهذا له نفس حكم انقطاع الماء، وهكذا لو أنه استأجر أرضا لمصلحة، ثم إن هذه المصلحة تعذرت، فمثلا: لو أنه استأجرها من أجل أن يضع فيها دوابه، فصارت أرضا مسفعة تهلك الدواب، فلا يمكن أن ينتفع ويرتفق بها على الوجه المعتبر.
فالقاعدة والضابط ما ذكرناه، والمثال ما ذكره العلماء رحمهم الله من انهدام الدار وغرق الأرض، وهذه أمثلة، لكن المهم لطالب العلم أن يعرف قواعد المسائل، وقاعدة هذه المسألة: أن يتعذر الاستيفاء.
وهذا في القديم.
وفي زماننا: لو أنه استأجر سيارة بعينها على أن يركبها إلى موضع معين، ثم تلفت السيارة، وقد ذكرنا أن بعض العلماء يقول: إذا تعطلت العين وكانت معينة يفوت العقد بفوات المنفعة منها، فلا يمكن أن يقوم غيرها مقامها إذا عين، وقال له: بهذه السيارة.
وبعض العلماء يقول: إذا كان يمكن إيجاد مركوب بنفس الصفة فلا ينفسخ العقد، فنقول له: صحيح إن هذه السيارة قد تعطلت، يمكن أن ينفذ بقية العقد -الذي هو نصف المسافة- فنقول حينئذ: ائت بسيارة مثلها في الأوصاف، وأمض العقد وتمم.
على التفصيل الذي تقدم معنا في مسألة تلف العين المستأجرة.
وقوله: [انفسخت الإجارة في الباقي] .
في الحقيقة أنه من دقة المصنف أن قال: (انفسخت الإجارة في الباقي) ، وهذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه أعطاك حكم ما إذا وقع الخلل والعذر الطارئ أثناء المدة، فتفهم منه أنه إذا وقع قبل التنفيذ والاستيفاء فإنه يجب رد المال كاملا، وهذا من أجمل ما يكون في المتون الفقهية، وبها يدرك فقه صاحب المتن وحسن اختصاره؛ لأن المتون تقوم على الاختصار، فبدل أن يقول: انفسخ العقد من أصله، ووجب رد القيمة كاملة في حال ما إذا كان العذر قبل التنفيذ وقبل استيفاء شيء من المنفعة، ويقول بعد ذلك: وأما إذا حصل ذلك أثناء المدة انفسخ العقد فيما بقي؛ جاء بالجملة الأخيرة منبها على حكم المسألتين، فعندك شيء مصرح به، وهو: أنه يجب رد ما بقي من القيمة، ونفهم من هذا أنه إذا لم ينتفع بشيء وجب رد القيمة كاملة؛ لأنه إذا وجب رد بقية القيمة لعدم التمكن من الاستيفاء فيما بقي من المدة وجب رد القيمة كاملة إذا لم يتمكن من الاستيفاء كلية، فهذا بالنسبة لحكم المسألتين.
والاختصار أن نقول: إن القاعدتين: إذا تعذر الاستيفاء من العين، أو من هذا الشيء الذي تقوم عليه المصلحة التي من أجلها استأجر المستأجر، فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل أن يأخذ شيئا من المنفعة، وإما أن يكون بعد أن أخذ شيئا من المنفعة أو مضى شيء من المدة، ففي الحالة الأولى: ينفسخ العقد ويجب رد المال كاملا، وفي الحالة الثانية: يدفع المستأجر على قدر ما استوفى من المنافع وحصله.
ظهور عيب في العين المؤجرة
قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى] .
هذا كله -كما ذكرنا- في التزامات المؤجر، فإذا اتفق معك على إجارة سيارة أو أرض أو دار، فإنه يجب عليه الشيء الذي التزم به بموجب العقد، ومنه: أنه يمكنك من العين حتى تستوفي، إذا: لابد أن تكون العين موجودة ويمكن استيفاء المنفعة منها.
يبقى مسألة: إذا وجد في العين عيب، فهي لم تتلف، ولكن فيها عيب لا تستطيع أن تستوفي المنفعة بالشكل المطلوب، وانظروا إلى دقة العلماء -وقد نبهنا على ذلك غير مرة- أنهم يأتون بالمؤثر من كل وجه، أو يأتون بالمؤثر الأكبر، ثم بعد ذلك المؤثر الأصغر.
فكأن سائلا سأل: قد علمنا إذا استأجر المستأجر دارا وانهدمت الدار فإنه لا يمكن الاستيفاء من كل وجه، لكن لو وجد في الدار عيب لا يمنع من استيفاء المنفعة، ولكنه يضر بمصلحة المستأجر في المنفعة، كتسرب الماء من السقف ونحوه، فما الحكم؟ فإذا نشأ هذا السؤال فيكون العيب على صور: أولا: العيب: هو النقص، يقال: عاب فلان فلانا إذا انتقصه، فأصل العيب: النقص.
وأما بالنسبة في اصطلاح العلماء إذا ذكروا العيب في البيع والإجارة ونحوها من عقود المعاوضات، فهو: كل شيء يؤثر في مالية العين أو المنفعة، أي: الشيء الذي ينقص من قيمة العين المبيعة، أو ينقص من قيمة العين المؤجرة والمنفعة التي عليها عقد الإجارة، فهذا يعتبر عيبا، أما إذا لم ينقص من القيمة ولم يؤثر في المالية فليس بعيب، ولذلك ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني ضابط عيب الإجارة: أنه ما أنقص المالية، فمثلا: أجرك شقة بخمسة آلاف، وهذه الشقة التي استأجرتها مدة سنة بالخمسة الآلاف تستحق ذلك، ولكن إذا تشقق سقفها فإنها تؤجر بألف أو بخمسمائة، فأنقصت المالية -ربما في بعض الأحيان- ثلاثة أرباع القيمة، هذا بالنسبة للشقق، وفي القديم مثلوا لذلك بالدابة والظهر، كأن يستأجر ناقة من أجل أن يركب عليها، والناقة فيها عيب إذا مشت، أو جموحا إذا ركب عليها الشخص ربما تسقطه، والإسقاط هذا قد يقتله، كما في الرجل الذي وقصته دابته وهو واقف بعرفة.
إذا: هناك عيوب في العين المؤجرة، وبناء على ذلك قال العلماء رحمهم الله: إن كل شيء ينقص المالية وينقص من القيمة، فيعتبر عيبا مؤجرا.
أقسام العيوب في العين المؤجرة
وتنقسم العيوب بالنسبة للحيوانات والآدميين إلى قسمين: عيوب نفسية، وعيوب ذاتية، وهناك ما يسمى عيوب كمالات وعيوب نفسية، فمثلوا في القديم: كما لو استأجر رجل شخصا مجنونا، أو رجلا شديد الغضب لا يستطيع أن يتفاهم معه، ولا يستطيع أن يحصل منفعته منه كما ينبغي، أو استأجر خادما من أجل أن يخدمه فإذا به شديد الغضب، لا يستطيع أن يحصل مصالحه، كثير السخط وكثير التضجر، فهذا يؤذي الرجل ويجحف به وبأهله، وبالمصلحة، فهو كلما أراد أن يطلب المصلحة أو يريدها فإنه يعيقه عن طلبها وأخذها واستيفاء حقه من الرجل لسوء خلقه، فهذا عيب في النفس وفي الخلق.
وعيب الذات: كأن يكون به مرض في جسده، بحيث لو طلبت منه منفعة جاءك بالمنفعة متأخرة، أو جاءك بها ناقصة، فمثل هذا بدلا من أن تستأجره بألف لوجود العيب فيه تكون أجرته خمسمائة ريال؛ لأن هذا عيب مؤثر؛ لأنه إذا ثبت عند أهل الخبرة أن هذه العين المؤجرة فيها مثل هذا العيب فلا يقولون: أجرتها عشرة آلاف؛ بل يقولون: أجرتها خمسة آلاف.
إذا: كل شيء أثر في نفسه أو أثر في الذات فهو عيب، وأصبح تأثير النفس أو تأثير الذات ضابطا تبني عليه نقص المالية، ومن هنا قال الفقهاء: العيب ما أنقص المالية.
ثم قسموا الذي أنقص المالية إذا كان في الحيوانات كالآدمي والبهائم إلى عيب ذات وعيب نفس، وعيب النفس في البهائم هو الجموح، فإذا كانت دابة وجاء يركب عليها فإنها تنفر ولا يستطيع أن ينتفع منها، وكذلك أيضا قد تكون مؤذية مثل ما ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله، ومثل لذلك بالدابة العضوض -وهي الدابة التي تعض- وهو يريد أن يستوفي منفعتها، فإذا رآها عضوضا خاف، وهذه طبيعة البشر، وقد يكون عنده من أطفال أو يكون هو بطبعه يخاف، فهذا ينقص المنفعة ولا يمكنه من الاستيفاء.
وبالنسبة للبيوت: ففيها عيوب ذات وعيوب نفس، والبيوت ليس لها نفوس، لكن مما ذكر العلماء: أن يكون البيت -والعياذ بالله- مسكونا، وهذا أمر ثابت، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وغيره من الأئمة: وجود السكن في البيت، فإذا وجد في البيت سكن وأذية من الجان صار عذرا، ويعتبر من العيوب النفسية؛ لأن ذات الدار كاملة، فلو جاء الرجل الذي أجر الدار يقول لك: ليس من حقك أن تفسخ عقد الإجارة، فقد أجرتك دارا بغرفها ومصالحها ومنافعها، فكونها مسكونة أو غير مسكونة هذا لا يعنيني.
تقول: لا، هذا عيب مؤكد، ويمنع الرجل من استيفاء المنفعة ويزعجه ويؤذيه، وقال بعض العلماء: حتى ولو كان الجار جار سوء وفيه أذية، وخاصة إذا كان على العرض، كأن يقول له: هذه الدار أؤجرك إياها والحي كله -مثلا- فيه سكن من العزاب، فهذا يضر به إذا جاء بأهله، وكان ينبغي أن يقول له قبل الإجارة: إن هذا الحي أو جارك الذي يواجهك أو جارك الذي بجوارك أو من يسكن العمارة من العزاب، وعلى هذا فإنه إذا وجد ما يضر بمصلحة المستأجر ويضيق عليه فهو عيب.
كل هذه العيوب يقضي فيها القاضي، ويفتي فيها المفتي بمجرد عرض المسألة، فإذا عرضت المسألة وقال: استأجرت من فلان دارا يتسرب من سقفها الماء، أو استأجرت دارا سقفها يسقط منه التراب -ونحو ذلك كما في البيوت القديمة- أو استأجرت دارا تبين أنها مسكونة، وثبت ذلك وقامت البينة عليه؛ فإن القاضي يقضي بانفساخ عقد الإجارة، ويعطي المستأجر الخيار ويقول له: أنت بالخيار: إما أن تفسخ عقد الإجارة، وإما أن تمضي فيه وترضى بهذا العيب، أو تتفق مع الرجل على إنقاص القيمة بقدر وجود هذا العيب، وتمضي ذلك العقد كما اتفقتما عليه.
هناك عيوب هي في الحقيقة ليست مؤثرة في الأصل، لكنها مؤثرة في الشرط، ونحن قررنا أن العيب الذي يكون -مثلا- في الدار في سكنها أو منافعها أنه يضر، يبقى
السؤال لو قال قائل: إن في الدار ثقب يسير في الجدار، فهذا عيب لكنه ليس بعيب مؤثر.
وهكذا لو أنه وجد (ماسورة) تسرب الماء ويمكن إصلاحها، فنقول للمؤجر: أصلح (الماسورة) ويمضي العقد؛ لأن القاعدة تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) ولذلك تفرع على هذه القاعدة القول: (إعمال الأصول بما أمكن) فإذا عقد إجارة بين طرفين فلا نتعرض للفسخ إلا بعيب مؤثر؛ لأن الأصل في الشرع عندنا يقول: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1] فالله ألزم الطرفين وأوجب على المتعاقدين أن يتما صفقتهما بعقد الإجارة وغيره، وعلى هذا نقول: ليس من حق أحد أن يفسخ هذا العقد أو يعطي الخيار بفسخه للمستأجر إلا إذا كان العيب مؤثرا، والعيب هنا غير مؤثر.
وهكذا لو أنه جاء فوجد (بلاطة) -مثلا من الأمثلة- اقتلعت في الدار، فقال: العلماء يقولون: العيب يوجب الفسخ، وهذا عيب، فافسخوا عقد الإيجار.
نقول: لا، هذا عيب يمكن تلافيه وتداركه، فليس كل عيب يوجب الفسخ، لكن هذه العيوب البسيطة قد توجب الخيار إذا كانت في الشرط مثل ما تقدم معنا في البيوع، فمثلا: لو أن رجلا استأجر دارا، وبعد أن تم العقد بين الطرفين وجد خللا في أحد الأبواب، من حيث الأصل لا يعتبر هذا عيبا مؤثرا، فنقول له: أصلح هذا العيب.
وانتهى.
لكن لو قال له في بداية العقد: أشترط عليك: ألا يوجد أي عيب في الأبواب أو النوافذ.
فإن هذا يعتبر عيبا مستحقا بالشرط، هو في الحقيقة عيب ليس بذاك المؤثر، لكنه لما اشترط عليه كأن العقد ترتب على وجود هذا الشرط، فلا نلزمه إلا إذا كان المعقود عليه ومحل العقد سالما من العيب بالصفة التي اتفق عليها الطرفان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلمون على شروطهم) فكأنه يقول: إني متفق معك وملتزم بما التزمت به بشرط: أن تكون هذه الدار أو هذه العين المؤجرة سالمة من العيوب.
فقال له الآخر: قبلت.
فمعنى ذلك: أنه إذا اشترط عليه وقبل، فإن في ذمة المؤجر أن يعطيه الخيار إذا ظهر هذا العيب، ولو أن العيب في الأصل لا يؤثر، ولو قال له: أستأجر منك هذه الدار بشرط: أن تجعل أبوابها بلون كذا وكذا، وما يبتدئ عقد الإجارة بيننا إلا وقد -مثلا- أصلحت الأبواب، أو قد ضربت بلون معين، أو أن الدار تضرب بلون معين أو ترخم، فاتفقا على ذلك، فجاء وقت التنفيذ وجاء أمد الإجارة ولم يحدث شيء من ذلك، فنقول: للمستأجر الحق في فسخ عقد الإجارة.
في المواسم يأتي شخص يستأجر العمارة، فيقول له: أنا أستأجر منك هذه العمارة بمائة ألف شهر ذي الحجة.
قال: قبلت.
قال: لكن أشترط أنه ما يأتي يوم ثمانية وعشرين من ذي القعدة إلا وهي مفروشة ينوع كذا وكذا.
واشترط شيئا معينا، فجاء يوم ثمانية وعشرين وهي ليست بمكتملة أو فرشت كلها إلا القليل منها، فنقول للمستأجر: لك الخيار؛ لأنه التزم، والشريعة تحترم هذه العقود، وقد ترى هذا شيئا يسيرا، لأنه لو أخلت الشريعة بشرط يسير فستخل بما هو أعظم، لأنه قد تقول -مثلا-: إن الفراش سهل تدبيره، لكن قد يشترط عليه أمورا تكون بالملايين، ولذلك كما أن الشريعة تلزم باليسير من المال فإنها تلزم بالكثير من المال، فإذا التزم وقال: أنا ألتزم ألا يأتي يوم ثمانية وعشرين أو ألا يأتي بداية العقد إلا وقد هيأت هذه العمارة بالصفة الفلانية أو بالشكل الفلاني، وتم العقد، وجاء الوقت ولم يؤد ما التزم به، نقول للمستأجر: لك الخيار، وهذا عيب، لكنه عيب مستحق بالشرط.
فأصبح العيب عندنا على قسمين: عيب يستحق بالعقد، وعيب يستحق بالشرط، فالعيب الذي يستحق بالعقد: بعض الأحيان يخضع للعرف، فمثلا: عندنا في العرف أن البيوت في داخل المدن تكون مؤثثة ومجهزة، وفيها منافع ما، فلو أنه أجر وقال له: أؤجرك عمارة في داخل البلد على صفة كذا وكذا، فجاء ولم يجد الكهرباء فيها، فقال له: أنا التزمت لك أن أؤجرك عمارة، لكن أنت ما اشترطت أن يكون فيها كهرباء، نقول: أبدا، (المعروف عرفا كالمشروط شرطا) وكما يقول بعض العلماء: كالمشروط لفظا.
فإذا: هو في الحقيقة لم يشترط، لكن نعتبر العرف دليلا على الشرط، كأنك وعند سكوتك عن هذا الشرط تقول له: أستأجر منك عمارة في داخل المدينة على ما جرى عليه عرف أهل هذه المدينة، فأي إخلال يعده أهل ذلك العرف إخلالا فإننا نعتبره موجبا للخيار، ونقول: هذا عيب، صحيح أنه لم يشترط ذلك صراحة، لكن سكوته ورده ذلك إلى العادة يدل على أنه قد رضي بما جرى به العرف في ذلك البلد والموضع.
ومنا هنا تفرع هذا المسألة في العيوب المستحقة بالأعراض على القاعدة المشهورة: (العادة محكمة) .
ففي زماننا الكهرباء أو الماء، فلو قال له: أجرتك هذه (الفيلا) بعشرة آلاف مدة سنة كاملة من كذا إلى كذا، قال: اتفقنا، ثم تبين أنه لا ماء فيها، فننظر: إن كان الحي الذي فيه (الفيلا) يصل إليه الماء، نعرف أنه سكت المستأجر لأنه علم أو سأل أو غلب على ظنه أن هذا الموضع فيه ماء، فنقول: هذا عيب يوجب خيار المستأجر؛ لأن كلفة إحضار الماء مئونة ومشقة، حتى ولو كان قد التزم له أن يحضره عن طريق -مثلا- السقاء، فذلك ليس كوجوده دائما في البيت، فهذا يؤثر على مصالح المستأجر ويكون عيبا مؤثرا، لكنه عيب مستحق بالعرف، وليس مستحقا بالشرط وصريح العقد.
وعلى هذا: فإن العيوب تعتبر موجبة للخيار، وفصلنا القول في أنواع العيب.
الأدلة على أن العيوب تثبت الخيار في فسخ عقد الإجارة
والأدلة على أن المستأجر يكون له الخيار إن وجد العيب ما يأتي: أولا: قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه إذا استأجر المستأجر عينا تامة كاملة، وأوجب الصفقة والعقد مع المؤجر على أنها تامة كاملة وأعطى القيمة، فقد رضي بإعطاء القيمة المتفق عليها على شيء تام، فإذا ظهر العين في المؤجرة العيب فإن العيب ينقص القيمة، فأصبح المال مأخوذا بالباطل.
وتوضيح ذلك بمثال: لو أجره شقة أو عمارة تستحق في السنة عشرة آلاف على أنها تامة، فدفع له عشرة آلاف، وتبين أن بها عيبا ينقص قدر الألفين، فحينئذ تكون مستحقة في الأصل ثمانية آلاف، فتكون زيادة الألفين غير مستحقة بالعقل، فلو أننا لم نعط الخيار بالعيب لأكلت الألفين بالباطل، لأن قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] ومعنى (بالباطل) أي: بدون وجه حق، فالألفان التي أكلها المؤجر أكلها بدون وجه حق؛ لأنه ليس لها قيمة في العين المؤجرة، وليس لها مقابل في العين المؤجرة ومنافعها، وعلى هذا قال العلماء: إن وجود العيوب في البيوع والإجارات يكون مندرجا تحت قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] لأن وجود العيب ينقص المالية، وإذا أنقص المالية فإن صاحب العقد الذي يملك العين سيأخذ المال كاملا، والواقع أنه لايستحقه كاملا، فإذا أعطيت الخيار للمستأجر فإنك أسقطت هذا الباطل؛ وقلت له: إن أحببت أن تمضي العقد وترضى به، فهذا لك.
قال: رضيت، فحينئذ رضي ببذل الألفين، وهذا محض الخيار منه، وإذا قال: لا أرضى.
رد المال إليه؛ فكان ذلك منعا من أكل المال بالباطل.
أما الدليل الثاني: فهو الإجماع، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من العلماء، وحكاه الإمام ابن قدامة وابن المنذر رحمهم الله، حيث قال الإمام ابن قدامة: لا نعلم خلافا أنه إذا وجد عيب في الشيء المكترى أنه يستحق المكتري الخيار بوجود ذلك العيب.
وأما بالنسبة للقياس والنظر الصحيح فإننا نقول: يستحق المستأجر الخيار بالعيب إذا كان موجودا في العين المؤجرة كما يستحقه المشتري إذا وجد العيب في السلعة المشتراة؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، وتوضيح هذا القياس أن نقول: إنه يستحق المستأجر الخيار -خيار العيب- إذا ظهر العيب في العين المؤجرة، كما اتفقنا على أنه في البيع يستحق الخيار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في البيع: (من اشترى شاة مصراة ثم أمسكها ثلاثا فهو بالخيار -أي: إذا اكتشف أنها معيبة -إن شاء رضيها- أي: رضي بالعيب وأمضى العقد فلا إشكال- وإن سخطها ردها وصاعا من تمر) فقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن سخطها ردها) دل على أن العيب يوجب الخيار في البيع، وقد تقدم معنا هذا وبيناه، وذكرنا الأدلة النقلية والعقلية عليه، فنحن نقول: كما اتفقنا في البيع على أن العيب يوجب الخيار، وكذلك في الإجارة العيب يوجب الخيار.
فلو سئلت عن الرابط بين الفرع والأصل تقول: العلة الرابطة أنه في البيع عقد معاوضة، والإجارة أيضا عقد معاوضة، فكما أنه في البيع دفع المال لقاء السلعة فوجد العيب فاستحق الخيار، كذلك في الإجارة دفع المال لقاء المنفعة، فيكون له الخيار إن وجد العيب فيها.
وعلى هذا: يثبت خيار العيب في الإجارة، إن أحببت أن تختص بالقياس تقول: العيب مؤثر في الإجارة كالبيع؛ بجامع كون كل منهما عقد معاوضة، فالعيب موجب للخيار في الإجارة كالبيع.
وفي اعتبار الشريعة الإسلامية لخيار العيب في العين المؤجرة دليل على سماحة هذه الشريعة وكمالها وسمو منهجها، فإن الله عدل، وجعل هذه الشريعة الكاملة التامة قائمة على العدل، فقال سبحانه وتعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] فمن عدله سبحانه أن جعل لهذه العقود ما يضبطها دون أن يتوصل أحد الطرفين إلى أذية الآخر والإضرار بحقه، فكما أنهما اتفقا على الكمال فإنه يجب الرد إذا ثبت النقص، فكما أن المؤجر يشتكي من المستأجر إذا أخل بعينه كذلك المستأجر يشتكي من العين المؤجرة إن ظهر العيب فيها، فالعدل قائم للطرفين، وكما أن هذا يأخذ حقه كاملا فكذلك الآخر يجب أن يأخذ حقه كاملا.
ظهور العيب بعد مضي فترة في الإجارة
قال رحمه الله: [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وعليه أجرة ما مضى] .
(وإن وجد العين معيبة) هذا قبل العقد، وقبل استيفاء المنفعة، فمثلا: إن اتفق معه بعد صلاة العصر على أن يستأجر منه عمارته الشهر القادم، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين، وبعد أن اتفقا وجاء في ليلة العقد يريد أن ينظر في العمارة نظرة ثانية، وبعد أن رآها تبين له وجود العيب المؤثر، فنقول: ينفسخ العقد.
هذا إذا وجدها معيبة قبل الاستيفاء.
أما إذا وجدها معيبة بعد الاستيفاء، كأن يكون استأجر منه العمارة نصف شهر، وكان قد اتفق معه مدة سنة كاملة، أو استأجرها ومضى شهر كامل، ثم بعد مضي الشهر تبين أن العمارة فيها ضرر في تسليك الماء الموجود فيها، وهذا يضر بها، وربما سقطت وقتلت من بداخلها، فهذا العيب مؤثر، أو وجود النجاسة -أكرمكم الله- على سقفها في مواضع دورات المياه مثلا، أو وجد السقف يتسرب بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة شهور كما لو جاء فصل المطر فتسرب السقف، فتبين أنها معيبة، فنقول له: الفسخ فيما بقي يكون له الخيار، ولكن يجب عليه أن يدفع قيمة ما مضى على التفصيل الذي ذكرناه.
الأسئلة
حكم المزروع عند انفساخ عقد الإجارة
السؤال ذكرت أن الأرض إذا انقطع ماؤها انفسخت الإجارة، فهل ما غرسه المستأجر يدفع له المؤجر، أم له أن يقلع ما غرس؟
يتبع