عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 17-11-2024, 02:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,845
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النور جل جلاله وتقدست أسماؤه



وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]: فَضَرَبَ المَثَلَ لِنُورِهِ المَوْجُودِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، فَعُلِمَ أَنَّ النُّورَ الَموْجُودَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ـ نُورَ الإِيمَانِ وَالعِلْمِ ـ مُرَادٌ مِنَ الآيَةِ، لَمْ يَضْرِبْهَا عَلَى النُّورِ الحَسِيِّ الَّذِي يَكُونُ للْكَوَاكِبِ، وَهَذَا هُوَ الجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَأَبِي العَالِيةَ وَالحَسَنِ، بَعْدَ المُطَالَبَةِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ، وَالظَّنُّ ضَعْفُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي النُّورِ، أَمَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلُهُ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]، لَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَّا التَّنْوِيرُ بِالشَّمْسِ، وَالقَمَرِ وَالنُّجُومِ! فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: « أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ » وَمَلْعُومٌ أَنَّ العُمْيَانَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ حِجَابٌ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالمَوْتَى لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَهْلُ الجَنَّةِ لَا نَصِيبَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلاَ قَمَرٌ، كَيْفَ وَقَدْ رَوَى أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَعْلَمُونَ اللَّيْلَ والنَّهَارِ بِأَنْوَارٍ تَظْهَرُ مِنَ العَرْشِ، مِثْلِ ظُهُورِ الشَّمْسِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَتِلْكَ الأَنْوَارُ خَارِجَةٌ عَنِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ [29].

2- تَقَدَّمَ قَوْلُ الخَطَّابِيُّ: « وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نُورٌ مِنَ الأَنْوَارِ، وَأَنْ يُعْتَقَدَ ذَلِكَ فِيهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النُّورَ تُضَادُّهُ الظُّلْمَةُ، وَتُعَاقِبُه فَتُنِزيلُهُ، وَتَعَالَى اللهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ نِدٌّ!».


وَقَدْ رَدَّ عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا نَاتِجَةٌ مِنْ سُوءِ الفَهْمِ: شَيْخُ الإِسْلَامِ رحمه الله بِقَوْلِهِ:
« وَأَمَّا قَوْلُ المُعْتَرِضِ: النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ وَجَلَّ الحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ! فَيُقَالُ لَهُ: لَمْ تَفْهَمْ مَعْنَى الضِّدِّ المَنْفِي عَنِ الله، فَإِنَّ ( الضِّدَّ ) يُرَادُ بِهِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي الأَعْرَاضِ المُتَضَادَّةِ مِثْلَ السَّوَادِ وَالبَياضِ.

وَيَقُولُ النَّاسُ: الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّينِ، وَهَذَا التَّضَادُّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي (الأَعْرَاضِ) وَأَمَّا (الأَعْيَانُ) فَلَا تَضَادَّ فِيهَا، فَيَمْتَنِعُ عِنْدَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: للهِ ضِدٌّ، أَوْ لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُتَصَوَّرُ التَّضَادُّ فِيهَا، وَاللهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَوُجُودَهُ بِلَا رَيْبٍ، بَلْ هُوَ القَاهِرُ الغَالِبُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ.

وَقَدْ يُرَادُ ( بِالضِّدِّ ) المَعَارِضُ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ وُجُودِ ذَاتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ »؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ[30]، وَتَسْمِيَةُ المُخَالِفِ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ ضِدًّا كَتَسْمِيَتِهِ عَدُوًّا.

وَبِهَذَا الاعْتِبَارِ فَالمُعَادُونَ المُضَادُّونَ للهِ كَثِيرُونَ، فَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الأَوَّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ مُضَادًّا للهِ، لَكِنِ التَّضَادُّ يَقَعُ فِي نَفْسِ الكُفَّارِ فَإِنَّ البَاطِلَ ضِدُّ الحَقِّ، وَالكَذِبَ ضِدُّ الصِّدْقِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ فِي الله مَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَانَ هَذَا ضِدًّا لِلإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ ـ وَجَلَّ الحَقُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضِدٌّ ـ فَيُقَالُ لَهُ: وَالحَيُّ ضِدُّ المَيِّتِ، وَالعَلِيمُ ضِدُّ الجَاهِلِ، والسَّمِيعُ وَالبَصِيرُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ ضِدُّ الأَصَمِّ الأَعْمَى الأَبْكَمِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا سُمِّيَ اللهُ بِهِ مِنَ الأَسْمَاءِ لَهَا أَضَّدَادٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِأَضْدَادِهَا، فَجَلَّ اللهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، أَوْ عَاجِزًا أَوْ فَقِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.


وَأَمَّا وُجُودُ مَخْلُوقٍ لَهُ مَوصُوفٌ بِضِدِّ صِفَتِهِ: مِثْلَ وُجُودِ المَيِّتِ وَالجَاهِلِ، وَالفَقِيرِ وَالظَّـاِلمِ، فَهَـذَا كَثِيرٌ، بَلْ غَالِبُ أَسْمَائِهِ لَهـَا أَضْدَادُ مَوْجُودَةٌ فِي المَوْجُودِينَ.


وَلَا يُقَالُ لِأُوْلَئِكَ إِنَّهُمْ أَضْدَادُ الله، وَلَكْنِ يُقَالُ إِنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ الله، فَإِنَّ التَّضَادَّ بَيْنَ الصِّفَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي المَحَلِّ الوَاحِدِ لَا فِي مَحَلَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالمَوْتِ ضَادَتْهُ الحَيَاةُ، وَمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِالحَيَاةِ ضَادَّهُ المَوْتُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمةً أَوْ مَوْصُوفًا بِالظُّلْمَةِ، كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَوْ مَوْصُوفًا بِالمَوْتِ.

فَهَذَا المُعْتَرِضُ أَخَذَ لَفْظَ ( الضِّدِّ بِالاشْتِرَاكِ ) وَلَمْ يَمَيِّزْ بَيْنَ الضِّدِّ الَّذِي يُضَادُّ ثُبُوتُهُ ثُبُوتَ الحَقِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِضِدِّ صِفَاتِهِ، وَبِيْنَ مَا يُضَادُّهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَالضِّدُّ الأَوَّلُ هُوَ المُمْتَنِعُ، وَأَمَّا الآَخَرَانِ فَوُجُودُهُمَا كَثِيرٌ، لَكِنْ لَا يُقَالُ إِنَّهُ ضِدٌّ للهِ، فَإِنَّ المُتَّصِفَ بِضِدِّ صِفَاتِهِ لَمْ يُضَادُّهُ.

وَالَّذِينَ قَالُوا: « النُّورُ ضِدُّ الظُّلْمَةِ » قَالُوا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ نُورٌ وَشْيءٌ آَخَرَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ ظُلْمَةٌ، فَلْيَتَدَبَّرِ العَاقِلُ هَذَا التَّعْطِيلَ وَالتَّخْلِيطَ.

[ اعْتِرَاضُ المُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى نُورًا ]:
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ نُورًا لَمْ يَجُزْ إِضَافَتُهُ إِلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35]، فَالكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقَينِ:
أَحَدِهِمَا: أَنْ نَقُولَ: النَّصُّ فِي كِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ قَدْ سَمَّى اللهَ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّصُّ أَنَّ اللهَ نُورٌ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْتَجِبُ بِالنُّورِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَارٍ فِي النَّصِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأَوَّلِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69]، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، وَفِيمَا ثَبُتَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وَألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَه ضَلَّ » [31].



وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَاءِ الطَّائِفِ: « أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ»؛ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَات مِنْ نُورِ وَجْهِهِ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: « إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ ـ أَوِ النَّارُ ـ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرَهُ مِنْ خَلْقِهِ»[32]، فَهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ حِجَابِهِ.

فَإِنَّ تَرَدُّدَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ ( النَّارِ وَالنُّورِ ) لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَثَلَ هَذِهِ النَّارِ الصَّافِيَةِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا مُوسَى يُقَالُ لَهَا نَارٌ وَنُورٌ، كَمَا سَمَّى اللهُ نَارَ المِصْبَاحِ نُورًا، بِخِلَافِ النَّارِ المُظْلِمَةِ كَنَارِ جَهَنَّمَِ فَتِلْكَ لَا تُسَمَّى نُورًا.

فَالأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ: ( إِشْرَاقٌ بِلَا إِحْرَاقٍ ) وَهُوَ النُّورُ المَحْضُ كَالقَمَرِ.

وَ(إِحْرَاقٌ بِلَا إِشْرَاقٍ ) وَهِيَ النَّارُ المُظْلِمَةُ.

وَ(مَا هُوَ نَارٌ وَنُورٌ) كَالشَّمْسِ، وَنَارُ المَصَابِيحِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا تُوصِفُ بِالأَمْرَينِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ النُّورُ، وَلَيْسَ المُضَافُ هُوَ عَيْنُ المُضَافِ إِلَيْهِ.


الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا يُرَدُّ عَلَيْكُمْ، لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُسَمِّيهِ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ وَبَيَّنَهُ، فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ: «هَادٍ» أَوْ «مُنَوِّرٌ»، أَوْ غَيرَ ذَلِكَ، فَالمُسَمَّى « نُورًا » هُوَ الرَّبُّ نَفْسُهُ، لَيْسَ هُوَ النُّورُ المُضَافُ إِلَيْهِ، فَإِذَا قُلْتَ: « هُوَ الهَادِي فَنُورُهُ الهُدَى » جَعَلْتَ أَحَدَ النُّورَينَ عَينًا قَائِمَةً، وَالآَخَرَ صِفةً، فَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُسَمِّيهِِ نُورًا، وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ يَرُدُّ عَلَى القَوْلَينِ وَالقَائِلِينَ، كَانَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ ظُلْمًا وَلَدَدًا فِي المُحَاجَّةِ، أَوْ جَهْلًا وَضَلَالًا عَنِ الحَقِّ [33].


وَقَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: « لَوْ كَانَ نُورًا حَقِيقَةً ـ كَمَا تَقُولُهُ المُشَبِّهَةُ ـ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى الدَّوَامِ »: فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا القَوْلِ ؛ فَإِنَّ المُشَبِّهَةُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ نُورٌ كَالشَّمْسِ، وَاللهُ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَشَيْءٍ مِنَ الأَنْوَارِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ كَشَيْءٍ مِنَ الذَّوَاتِ، لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا يَحْجِبُهُ عَنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ فِي الحَدِيثِ: « حِجَابُهُ النُّورُ ـ أَوِ النَّارُ ـ وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ».

لَكِنْ هُنَا غَلَطٌ فِي النَّقْلِ، وَهُوَ إِضَافَةُ هَذَا القَوْلِ إِلَى المُشَبِّهَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْ أَقْوَالِ الجَهْمِيَّةِ المُعَطِّلَةِ أَيْضًا كَالمريسِي، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ نُورٌ، وَهُوَ كَبِيرُ الجَهْمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِالمُشَبِّهَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللهَ نُورٌ حَقِيقَةً، فَالمُثْبِتَةُ للِصِّفَاتِ كُلِّهِم عِنْدَهُ مُشَبِّهَةٌ، وَهَذِهِ لُغَةُ الجَهْمِيَّةِ المَحْضَةِ، يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ مُشَبِّهًا.

فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابنَ كُلَّابٍ وَالأَشْعَرِيَّ وَغَيْرَهُمَا ذَكَرَا أَنَّ نَفْيَ كَوْنِهِ نُورًا فِي نَفْسِهِ هُوَ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ وَالمُعْتَزِلَةِ، وَأَنَّهمُا أَثْبَتَا أَنَّهُ نُورٌ، وَقَرَّرَا ذَلِكَ هُمَا وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِمَا، فَكَيْفَ بِأَهْلِ الحَدِيثِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ! وَأَوْلُ هَؤُلَاءِ المُؤْمِنِينَ بِالله وَبِأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ: رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ المُعْتَرِضُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: « حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ».


فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَجَبَ عَنِ المَخْلُوقَاتِ بِحِجَابِهِ النُّورَ أَنْ تُدْرِكَهَا سِبُحَاتُ وَجْهِهِ، وَأَنْ لَوْ كَشَفَ ذَلِكَ الحِجَابَ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَهَذَا الحِجَابُ عَنْ إِحْرَاقِ السُّبُحَاتِ يُبَيِّنُ مَا يَرِدُ فِي هَذَا المَقَامِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ الأُخْرَى[34]، فَمَعْنَاهُ بَعْضُ الأَنْوَارِ الحِسِّيَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ العَارِفِينَ فَهُوَ بَعْضُ مَعَانِي هِدَايَتِهِ لِعِبَادِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنْوِيعُ بَعْضِ الأَنْوَاعِ بِحَسَبِ حَاجَةِ المُخَاطِبِينَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ أَنْ يُفَسِّرُوهَا بِذِكْرِ بَعْضِ الأَنْوَاعِ، يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِحَاجَةِ المُخَاطِبِينَ، لَا عَلَى سَبِيلِ الحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ.

فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الأَقْوَالِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ مَعَانِي كَوْنِهِ نُورَ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنُورٍ [35].

خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ
القَوْلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...... ﴾ الآيَةُ:
« لَعَلَّ مِنْ أَحْسَنِ مَنْ تَعَرَّضَ لِتَفْسِيرِهَا هُوَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله، وَقَبْلَ أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَهُ نَسُوقُ الآيَةَ بِتَمَامِهَا يِقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]».

قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الخِلَافَ فِي تَفْسِيرِ: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، بِنَحْوِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنْ شَيْخِ الإِسْلَامِ، قَالَ: « وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الضَّمِيرِ فِي ( نُورِهِ ) فَقِيلَ: هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ غ، وَقِيلَ تَفْسِيرُهُ: المُؤْمِنُ أَيْ: مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الله ﻷ، وَالمَعْنَى: مَثَلُ نُورِ الله ـ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَأعَظْمُ عِبَادِهِ نَصِيبًا مِنْ هَذَا النُّورِ رَسُولُهُ غ، فَهَذَا مَعَ تَضَمُّنِهِ عَوْدَةَ الضَّمِيرِ إِلَى المَذْكُورِ وَهُوَ وَجْهِ الكَلَامِ يَتَضَمَّنُ التَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَتَمُّ مَعْنَى وَلَفْظًا.


وَهَذَا النُّورُ يُضَافُ إِلَى الله تَعَالَى إِذْ هُوَ مُعْطِيهِ لِعَبْدِهِ وَوَاهِبُهُ إِيَّاهُ، وَيُضَافُ إِلَى العَبْدِ إِذْ هُوَ مَحَلُّهُ وَقَابِلُهُ، فَيُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ وَالقَابِلِ، وَلِهَذَا النُّورِ فَاعِلٌ وقَابِلٌ وَمَحَلٌّ وَحَامِلٌ وَمَادَّةٌ وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الآَيَةُ ذِكْرَ هَذِهِ الأمُوُرِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ.

فَالفَاعِلُ: هُوَ اللهُ تَعَالَى مُفِيضُ الأَنْوَارِ الهَادِي لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَالقَابِلُ: العَبْدُ المُؤْمِنُ، والمَحَلُّ قَلْبُهُ، وَالحَامِلُ: هِمَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَالمَادَّةُ: قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ العَجِيبُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآَيَةُ فِيهِ مِنَ الأَسْرَارِ وَالمَعَانِي وَإِظْهَارِ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ المُؤْمِنِ بِمَا أَنَالَهُ مِنْ نُورِهِ مَا تَقَرُّ بِهِ عُيُونُ أَهْلِهِ وَتَبْتَهِجُ بِهِ قُلُوبُهُم.

وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ لَأَهْلِ المَعَانِي طَرِيقَتَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ وَهِي أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَأَسْلَمُ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَهِيَ أَنْ تُشَبِّهَ الجُمْلَةَ بِرُمَّتِهَا بِنُورِ المُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَفْصِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ المُشَبَّهِ وَمُقَابَلَتِهِ بِجُزْءٍ مِنَ المُشَبَّهِ بِهِ وَعَلى هَذَا عَامَّةُ أَمْثَالِ القُرْآَنِ الكَرِيمِ.

فَتَأَمَّلْ صِفَةَ المِشْكَاةِ، وَهُوَ كُوَّةٌ لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلضَوْءِ قَدْ وُضِعَ فِيهَا مِصْبَاحٌ وَذَلِكَ المِصْبَاحُ دَاخِلُ زُجَاجَةٍ تُشْبِهُ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي صَفَائِهَا وَحُسْنِهَا، وَمَادَّتُهُ مِنْ أَصْفَى الأَدْهَانِ وَأَتَمِّهَا وَقُودًا مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ فِي وَسَطِ القَرَاحِ [36]، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [37] بِحَيْثُ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفِي النَّهَارِ بَلْ هِيَ فِي وَسَطِ القَرَاحِ مَحْمِيَّةٌ بِأَطْرَافِهِ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ أَعْدَلَ إِصَابَةٍ وَالآَفَاتُ إِلَى الأَطْرَافِ دُونِهَا فَمِنْ شِدَّةِ إِضَاءَةِ زيْتِهَا وَصَفَائِهِ وَحُسْنِهِ يَكَادُ يُضِيءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ نَارٌ، فَهَذَا المَجْمُوعُ المُرَكَّبُ هُوَ مِثْلُ نُورِ الله تَعَالَى الَّذِي وَضَعَهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ وَخَصَّهُ بِهِ.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ المُفَصَّلِ فَقِيلَ: المِشْكَاةُ صَدْرُ المُؤْمِنِ والزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَشَبَّهَ قَلْبَهُ بِالزُّجَاجَةِ لِرِقَّتِهَا وَصَفَائِهَا وَصَلَابَتِهَا، وَكَذَلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ الأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ فَهُوَ يَرْحَمُ وَيُحْسِنُ وَيَتَحَنَّنُ ويُشْفِقُ عَلَى الخَلْقِ بِرِقَّتِهِ.


وَبِصَفَائِهِ تَتَجَلَّى فِيهِ صُورُ الحَقَائِقِ وَالعُلُومِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُبَاعِدُ الكَدَرَ وَالدَّرَنَ وَالوَسَخَ بِحَسْبِ مَا فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ، وَبِصَلَابَتِهِ يَشْتَدُّ فِي أَمْرِ الله تَعَالَى، وَيَتَصَلَّبُ فِي ذَاتِ الله تَعَالَى وَيغْلُظُ عَلَى أَعْدَاءِ الله تَعَالَى وَيَقُومُ بِالحَقِّ للهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى القُلُوبَ كَالآَنِيَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: القُلُوبُ آَنِيَةُ الله فِي أَرْضِهِ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَرَقُّهَا وَأَصْلَبُهَا وَأَصْفَاهَا [38].

وَالمِصْبَاحُ هُوَ نُورُ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَالشَّجَرَةُ المُبَارَكَةُ هِيَ شَجَرَةُ الوَحْيِ المُتَضَمِّنَةُ لِلْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ، وَهِيَ مَادَّةُ المِصْبَاحِ الَّتِي يَتَّقِدُ مِنْهَا، وَالنُّورُ عَلَى النُّورِ: نُورُ الفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ وَالإِدْرَاكِ الصَّحِيحِ، وَنُورُ الوَحْيِ وَالكِتَابِ، فَيَنْضَافُ أَحَدُ النُّورَينِ إِلَى الآَخَرِ فَيَزْدَادُ العَبْدُ نُورًا عَلَى نُورٍ وَلِهَذَا يَكَادُ يَنْطِقُ بِالحَقِّ وَالحِكْمَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الأَثَرِ ثُمَّ يَبْلُغُهُ الأَثَرُ بِمِثْلِ مَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ وَنَطَقَ بِهِ فَيَتَّفِقُ عِنْدَهُ شَاهِدُ العَقْلِ وَالشَّرْعِ وَالفِطْرَةِ وَالَوَحْيِ فَيُرِيهِ عَقْلُهُ وَفِطْرَتُهُ وَذَوْقُهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الحَقُّ لَا يَتَعَارَضُ عِنْدَهُ العَقْلُ وَالنَّقْلُ أَلَبَتَّةَ بَلْ يَتَصَادَقَانِ وَيَتَوَافَقَانِ فَهَذَا عَلَامَةُ النُّورِ عَلَى النُّورِ عَكْسَ مَنْ تَلَاطَمَتْ فِي قَلْبِهِ أَمْوَاجُ الشُّبَهِ البَاطِلَةِ وَالخَيَالَاتِ الفَاسِدَةِ مِنَ الظُّنُونِ الجَهْلِيَّاتِ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُهَا القَوَاطِعَ العَقْلِيَّاتِ فَهِيَ فِي صَدْرِهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]، فَانْظُرْ كَيْفَ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآَيَاتُ طَوَائِفَ بَنِي آَدَمَ كُلِّهِم أَتَمَّ انْتِظَامٍ، وَاْشَتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ اشْتِمَالٍ.

[ أَقْسَامُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ للْوَحْيِ: أَوَّلًا: أَهْلُ الهُدَى وَالبَصَائِرِ ]:
فَإِنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: أَهْلُ الهُدَى وَالبَصَائِرِ، الَّذِينَ عَرِفُوا أَنَّ الحَقَّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الله وَأَنَّ كُلَّ مَا عَارَضَهُ فَشُبُهَاتٌ يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ العَقْلِ وَالسَّمْعِ أَمرُهَا فَيَظُنُّهَا شَيْئًا لَهُ حَاصِلٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَهِيَ: ﴿ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 39، 40].



وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ أَصْحَابُ العِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، الَّذِينَ صَدَقُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي أَخْبَارِهِ وَلَمْ يُعَارِضُوهَا بِالشُّبُهَاتِ، وَأَطَاعُوهُ فِي أَوَامِرِهِ وَلَمْ يَضَيعُوهَا بِالشَّهَوَاتِ، فَلَا هُمْ فِي عَمَلِهِم مِنْ أَهْلِ الخَوْضِ الخَرَّاصِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ، وَلَا هُمْ فِي عَمَلِهِمْ مِنَ المُسْتَمْتِعِينَ بِخَلَاقِهِم الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.

أَضَاءَ لَهُمْ نُورُ الوَحْيِ المُبِينِ فَرَأَوا فِي نُورِهِ أَهْلَ الظُّلُمَاتِ فِي ظُلُمَاتِ آَرَائِهِم يَعْمَهُونَ، وَفِي ضَلَالَتِهِم يَتَهَوكُونَ، وَفِي رَيْبِهِمِ يَتَرَدَّدُونَ، مُغْتَرِّينَ بِظَاهِرِ السَّرَابِ، مُمْحِلِينَ مُجْدِبِينَ مِمَّا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الحِكْمَةِ وَفَصْلِ الخِطَابِ، إِنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا نُخَالةُ الأَفْكَارِ وَزِبَالَةُ الأَذْهَانِ الَّتِي قَدْ رَضُوا بِهَا وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا، وَقَدَّمُوهَا عَلَى السُّنَّةِ وَالقُرْآَنِ، إِنْ فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ أَوْجَبَهُ لَهُ اتِّبَاعُ الهَوَى وَنَخْوَةُ الشَّيْطَانِ وَهُمْ لِأَجْلِهِ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ.

فَصْلٌ:
القِسْمُ الثَّانِي: أَهْلُ الجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الجَهْلِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَالظُّلْمِ بِاتَّبَاعِ أَهْوَائِهِم الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [النجم: 23].

وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَهُدَى وَهُمْ أَهْلُ الجَهْلِ وَالضَّلَالِ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الجَهْلِ المُرَكَّبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ الحَقَّ وَيُعَادُونَهُ، وَيُعَادُونَ أَهْلَهُ، وَيَنْصُرُونَ البَاطِلَ وَيُوَالُونَ أَهْلَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ.

فَهُمْ لَاعْتِقَادِهِم الشَّيءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ رَائِي السَّرَابِ الَّذِي يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ وَعُلُومُهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ الَّذِي يَخُونُ صَاحِبَهُ أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الخَيْبَةِ وَالحِرْمَانِ، كَمَا هُوَ حَالُ مَنْ أَمَّ السَّرَابَ، فَلَمْ يَجِدْهُ مَاءً بَلْ يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ أَحْكَمَ الحَاكِمِينَ وَأَعْدَلَ العَادِلِينَ ـ، فَحَسَبَ لَهُ مَا عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ فَوَفَّاهُ إِيَّاهُ بِمْثَاقِيلِ الذَّرِّ، وَأَقْدَمَ إِلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ يَرْجُو نَفْعَهُ فَجَعَلَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا إِذْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَلَا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ غ، وَصَارَتْ تِلْكَ الشُّبُهَاتُ البَاطِلَةُ الَّتِي كَانَ يَظُنُّهَا عُلُومًا نَافِعَةً كَذَلِكَ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَصَارَتْ أَعْمَالُهُ وَعُلُومُهُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِ.


وَالسَّرَابُ مَا يُرَى فِي الفِلَاةِ المُنْبَسِطَةِ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ يَسْرُبُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كَأَنَّهُ مَاءٌ يَجْرِي، وَالقِيعَةُ وَالقَاعُ هُوَ المُنْبَسِطُ مِنَ الأَرْضِ الَّذِي لَا جَبَلَ فِيهِ وَلَا فِيهِ وَادٍ، فَشَبَّهَ عُلُومَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ عُلُومَهُ مِنَ الوَحْيِ وَأَعْمَالَهُ بِسَرَابٍ يَرَاهُ المُسَافِرُ فِي شِدَّةِ الحَرِّ فَيَؤُمُّهُ فَيَخِيبُ ظَنُّهُ وَيَجْدُهُ نَارًا تَلَظَّى، فَهَكَذَا عُلُومُ أَهْلِ البَاطِلِ وَأَعْمَالُهُمْ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ اشْتَدَّ بِهِمُ العَطَشُ بَدَتْ لَهُمْ كَالسَّرَابِ فَيَحْسَبُونَهُ مَاءً فَإِذَا أَتَوهُ وَجَدُوا اللهَ عِنْدَهُ فَأَخَذَتْهُم زَبَانِيَةُ العَذَابِ فَعَتَلُوهُم إِلَى نَارِ الجَحِيمِ فَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ، وَذَلِكَ المَاءُ الَّذِي سُقُوا إِيَّاهُ هُوَ تِلْكَ العُلُومُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ والأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ الله صَيَّرَهَا اللهُ تَعَالَى حَمِيمًا سَقَاهُمْ إِيَّاهُ، كَمَا أَنَّ طَعَامَهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَهُوَ تِلْكَ العُلُومُ وَالأَعْمَالُ البَاطِلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103، 104].

وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللُه فِيهِمْ: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ الُله فِيهِمْ: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167].

وَالقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الصِّنْفِ: أَصْحَابُ الظُلُمَاتِ وَهُمُ المُنْغَمِسُونَ فِي الجَهْلِ، بِحَيْثُ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ الَّتِي عَمِلُوهَا عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الآَبَاءِ مِنْ غَيْرِ نُورٍ مِنَ الله تَعَالَى، كَظُلُمَاتٍ جَمْعُ ظُلْمَةٍ، وَهِيَ ظُلْمَةُ الجَهْلِ، وَظُلْمَةُ الكُفْرِ، وظُلْمَةُ الظُّلْمِ وَاتِّبَاعِ الهَوَى، وَظُلْمَةُ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَظُلْمَةُ الإِعْرَاضِ عَنِ الحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ صَلَوَاتُ الله وَسَلاَمُهِ عَلَيْهِمْ، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَهُمْ لِيُخْرِجُوا بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

فَإِنَّ المُعْرِضَ عَنْ مَا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ الهُدَى وَدِينِ الحَقِّ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسِ ظُلُمَاتٍ: قَوْلُهُ ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى الظُلْمَةِ، وَقَلْبُهُ ظُلْمَةٌ، وَوَجْهَهُ مُظْلِمٌ، وَكَلَامُهُ مُظْلِمٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمٌ، وَإِذَا قَابَلَتْ بَصِيرَتُهُ الخُفَاشِيَّةُ [39] مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّورِ جَدَّ فِي الهَرَبِ مِنْهُ وَكَادَ نُورُهُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ، فَهَرَبَ إِلَى ظُلُمَاتِ الآَرَاءِ الَّتِي هِيَ بِهِ أَنْسَبُ وَأَوْلَى كَمَا قِيلَ:
خَفَافِيشُ أَعْشَاها النَّهَارُ بِضَوْئِهِ
وَوَافَقَهَا قِطَعٌ مِنَ الليلِ مُظْلِمِ




فَإِذَا جَاءَ إِلَى زِبَالَةِ الأَفْكَارِ وَنُخَالَةِ الأَذْهَانِ جَالَ وَمَالَ، وَأَبْدَى وَأَعَاَدَ وَقَعْقَعَ وَفَرْقَعَ، فَإِذَا طَلَعَ نُورُ الوَحْيِ وَشَمْسُ الرِّسَالَةِ انْحَجَرَ فِي حُجْرَةِ الحَشَرَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40] اللُّجِّيُّ العَمِيقُ مَنْسُوبٌ إِلَى لُجَّةِ البَحْرِ وَهُوَ مُعْظَمُهُ.

وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]، تَصْوِيرٌ لِحَالِ هَذَا المُعْرِضِ عَنْ وَحْيِهِ، فَشَبَّهَ تَلَاطُمَ أَمْوَاجِ الشُّبَهِ وَالبَاطِلِ فِي صَدْرِهِ بِتَلَاطُمِ أَمْوَاجِ ذَلِكَ البَحْرِ، وَأَنَّهَا أَمْوَاجٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالضَّمِيرُ الأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ ﴾ رَاجِعٌ إِلَى البَحْرِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: ﴿ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾ عَائِدٌ إِلَى المَوْجِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الأَمْوَاجَ مَغْشِيَّةٌ بِسَحَابٍ فَهَهُنَا ظُلُمَاتٌ: ظُلْمَةُ البَحْرِ اللُّجْيِّ، وَظُلْمَةُ المَوْجِ الَّذِي فَوْقَهُ، وَظُلْمَةُ السَّحَابِ الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ، إِذَا أَخْرَجَ مَنْ فِي هَذَا البَحْرِ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.44 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]