وفي السياق ذاته، أرشدت الآيات إلى أن محاسبة الله لعباده يؤدي إلى انقسامهم من خلالها إلى مفلحين من أهل الجنة، وأشقياء من أهل النار. فأما الصنف الأول، فجزاؤهم ما وعد الله به أهل الجنة من العيش الذي يدفع الإنسان إلى الرضا عن الله وجزائه، في مقابل أهل معصيته الذين تنتظرهم جهنهم التي يهوي فيها صاحبها على أُمِّ رأسه، فتصير مستقره النهائي، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 - 11].
4. أعداء الإنسان الذين حذَّر منهم القرآن:
حرصًا على سلامة الإنسان في دنياه بعيشه كريمًا فيها يحقق المقصد من خلقه في علاقته بعبادة الله والنجاة في الآخرة بالفوز بالجنة، فقد خصصت الآيات القرآنية حيزًا هامًّا للحديث عن أعداء الإنسان المجتمعين على صرفهم إياه عن الغاية التي من أجلها خُلِق، ومنهم:
• الشيطان، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، كما حذر القرآن من اتِّباع خطوات الشيطان، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 142]، ثم عللت الآيات ضرورة البُعْد عن الشيطان وخطواته بأنه دائم الوسوسة للإنسان بكل ما يفسد عليه دينه ودنياه، وينهاه -بالمقابل- عن كل ما يكون سببًا لاستقامته في دينه، وصلاح دنياه؛ ولذلك مثَّل الله ذلك بما يصدر من إبليس من منع ابن آدم من الصدقة والزكاة والإنفاق في سبيل الله عمومًا، من خلال وعده إياه بالفقر إن أنفق ماله في سبيل الله، كما أنه يدعو الإنسان إلى المعاصي والفواحش، قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].
• ومن ذلك أيضًا النفس، التي ما تلبث تأمر صاحبها بالفحشاء والمنكر، قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، على أن هذه الآية نصَّت على أن الأصل في النفس البشرية ترك دعوتها للإنسان إلى عبادة ربه والبعد عن معصيته. إلا أن من دلالات الآية تأكيدها أن هناك استثناء حاصلًا مما سبق، حيث تصير -بسبب تهذيبه إياها- داعية صاحبها إلى الخير، تلومه على البعد عن عبادة ربه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2].
• ومن ذلك أيضًا الهوى؛ لذلك أخبرت الآيات أن سبيل النجاة في الدنيا والآخرة رهين بمخالفة الهوى، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]؛ ولذلك نهت الآيات القرآنية عن اتِّباع الهوى؛ لأنه يدفع صاحبه إلى الجور والشهادة بغير الحق، ويمنعه من الحكم بين الناس بالحق والعدل، ليقع في الضلال والهلاك؛ ولذلك أمر الله تعالى نبيَّه داود بترك العمل بالهوى حتى يحقق مقصد العدل في الحكم بين الناس، قال تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26] الآية. ونظرًا لخطورة اتِّباع الهوى، فقد نفاه القرآن عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
وقريب من ذلك جمعه سبحانه بين مخالفة النفس واتباع الهوى، من حيث اعتبارهما مفضيَيْن إلى الغرق في أوحال الرذيلة، من خلال التأكيد على ضرورة تزكية النفس من كل ما يخالف الشرع، قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].
وقريب من ذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
كما أرشدت الآيات القرآنية إلى أن مقصد تزكية النفس تحتاج إلى إفراغ القلب من الوقوع في المعاصي، والتلطُّخ بالموبقات، وعبادة الشهوات؛ لقوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].
5. شمولية الناس المخاطبين بالقرآن:
لقد خاطب القرآن الإنسان في كافة مراحله، وأحواله، وصفاته، وأجناسه، ووظائفه، وغير ذلك، بإشارات مجملة في الغالب، تهدف إلى تزكيته وهدايته للتي هي أقوم، فمن ذلك:
• لقد ذكرت الآيات جزاء أهل طاعة الله في مقابل بيان جزاء أهل معصيته، قال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ﴾ [الزمر: 73]، وقال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ﴾ [الزمر: 71] الآية.
• كما ضرب الله تعالى مثلًا بالملك الطاغية فرعون المُتكبِّر على الخالق والمخلوق، فقد حكى الله عن فرعون قائلًا: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وبالمقابل ذكر الله من أمر ذي القرنين باعتباره ملكًا صالحًا سعى إلى تحقيق العدل وتوحيد الله وعبادته في مشارق الأرض ومغاربها، فقال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 83 - 97].
• كما تناول القرآن يوسف نموذجًا للوزير الصالح، الذي طلب من ملك مصر وقتئذ تنصيبه وزيرًا للاقتصاد والمالية، لتحقيق الخير والصلاح فيها، فقال تعالى حكاية عن هذا النبي: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، وبالمقابل ضرب الله مثلًا للوزير الفاسد هامان الذي كانت وظيفته مطاوعة ملكه الظالم فرعون ومساعدته على فساده وإفساده في مصر، فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ [غافر: 36، 37].
• كما أثنى القرآن على كثير من الرجال، ممن وحَّدُوا الله، وأحسنوا عبادته، وتخَلَّقوا بالأخلاق الفضلى، وتعاملوا مع الخلق بالحسنى، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]، كما أثنى على نموذج المرأة المثلى مريم، قال تعالى: ﴿ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42].
• كما تحَدَّث القرآن عن المرأة المؤمنة تحت الرجل الكافر، التي لم يمنعها مكوثها في بيت أفجر رجل عاش على الأرض وتكبَّر على الخالق والخلق، من تحقيقها للتوحيد، وإقامتها عبادة ربها رجاء الجنة، فقال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]، كما تناولت الآيات نموذج المرأة الكافرة تحت الرجل الصالح، التي لم تستفد شيئًا من إقامتها في بيت النبوَّة، غير البُعْد عن الله وشرعه، فقال كذلك: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، من الثنائيات التقابلية، للخير وأتباعه، وللشر وروَّاده، وإنما مثلنا بما سبق حتى لا تخرج هذه الورقة عن حد الاعتدال، وهي أمثلة تجعل قارئ القرآن ومُتدبِّر آياته، يندرج من حيث يشعر أو لا يشعر، في طريق الخير والصلاح والاستقامة على شرع الله، أو اختياره مسلك الشر والفساد والإعراض عن دين الله، قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38] الآية.
6. نظرات توجيهية للقرآن الكريم إلى الإنسان:
شكَّلت جميع المقاربات التنظيرية للإنسان وهمومه ومشاكله وتحدياته، تصوُّرات محدودة الرؤية، قاصرة عن الارتقاء بالإنسانية إلى مدارج الكمال، بالنظر إلى كونها مقاربات إنسانية منطلقًا وغاية، ولا شك فإن التنظير لقضية يكون المُنظر جزءًا من منظومتها، يجعل هذا التنظير غير ذي جدوى كبيرة إلا إذا استعان بجهة خارجة عن هذه المنظومة، من خلال تموقعها مكانيًّا أو اعتباريًّا جهة العلو، بغية حسن تقديم المقترحات التوجيهية للقضايا والإشكالات المطروحة على الإنسان والإنسانية.
وهذه الرؤية التنظيرية والتوجيهية للإنسان وفعله البشري لا توجد إلا في الرؤية القرآنية، بالنظر إلى أن الله تعالى هو خالق الإنسان العالم بأسراره وخبايا نفسه؛ لذلك يمكن ملامسة بعض جوانب هذه الرؤية التوجيهية القرآنية من خلال النقط التالية:
• لقد أخبر القرآن بأن خلقه كان في أحسن صورة، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، وذلك أن خَلْق آدم وذريته كان في أحسن تقويم، الذي يتجلى في اتصافه بالعقل أساسِ التمييز والتكليف بالتكاليف الشرعية، والتنصيب بالمهام والمناصب العرفية والاجتماعية. كما خص الله بني البشر بصفات تُميِّزهم عما سواهم، من صفات ذاتية؛ كجمال الهيئة، واعتدال القامة، واستواء البنية، بحيث لم يجعل الإنسان منكبًّا على وجهه كغيره من المخلوقات، وأنه بديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشت بهما، والرجلان وما احتملتاه؛ ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر، ولا ننسى تخصيص الله للإنسان بصفات فعلية بأن جعله ذا أخلاق وحياء وعلم وقدرة وإرادة وكلام وسمع وبصر وتدبير وحكمة[18].
• وأنه ظلوم جهول، قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وهذا يعني أن الإنسان يظلم نفسه وغيرها بعصيان أمر ربه؛ لجهله ما ينتظره من العذاب يوم القيامة، وكذلك ظلوم جهول؛ لأن من شأنه الظلم والجهل، كما أن الطهور بمعنى من شأنه ذلك[19]، إذا لم يعلم على تزكية نفسه وتهذيبها.
• وأنه كثير الجدل، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]، والجدل، والجدال، والمجادلة، بمعنى واحد على المستوى اللغوي؛ لكن القاسم المشترك بين هذه الألفاظ الثلاثة هو مقارعة الحق بالباطل؛ بغية إعلاء الباطل ودحض الحق؛ ولذلك فقد ورد ههنا في سياق الذم.
• وأنه شديد الحب للمال، بمعنى شديد في حبه للمال، بالنظر إلى بخله وعدم إنفاقه، خاصة في سبيل الله وفي أوجه الخير والإحسان، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8].
• وأنه يسهل عليه طاعة من يغرره بالله، فيجعله يكفر بربه، فيتمرد عليه بمعصيته، والنأي عن عبادته، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6].
• وأنه كادح إلى ربه، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 6 - 15]، وإذا كان الكدح في اللغة العربية يعني الكسب والسعي والعمل خيرًا كان أو شرًّا[20]، فإن المقصود به ههنا مقتضيات الكدح، من حيث اعتقاد الإنسان برجوعه إلى الله يوم القيامة للقائه ومحاسبته للعباد على كدحهم وعملهم في الدنيا؛ ولذلك تناولت الآيات جزاء أهل طاعة الله، فقال تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 8، 9]، ثم جزاء أهل معصيته كما قال تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 11، 12].
• وأنه يستنكف عن عبادة ربِّه الذي خلقه وعلمه، من خلال الطغيان على أوامره، قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق: 1 - 6].
• وأنه يطيع الشيطان في معصية الله بعد نسيانه وصية الله إليه على لسان الأنبياء والرسل، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].
• وأن الإنسان يحتاج - بشكل متواصل ومستمر- إلى التذكير بوصية الله إليه، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8].
• وأنه ضعيف على حمل التكاليف الشرعية إلا بعد تخفيف الله عنه، وتوفيقه إياه على طاعته، كما أن الإنسان ضعيف أمام عواطف، خاصة الغضب والهوى والشهوة، وأمام النساء وفتنتهن من باب أولى، قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].
• وأن صفات الإنسان البارزة أنه عجول قد طُبِع على العَجَلة، بحيث يستعجل كثيرًا من الأشياء والقرارات وإن كانت مضرة به، قال تعالى: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء: 37].
• وأن الإنسان قد يكون كافرًا بربه، مستحقًّا للقتل (وهو اللعن ههنا)، قال تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17].
• والإنسان -كل إنسان- في كَبَد؛ أي: في شدة وعناء، فهو يكابد الدنيا ومصائبها، وأيضًا يكابد الآخرة وشدائدها، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].
• وأن مصيره الخسران في الدنيا والآخرة إن أعرض عن منهج الأنبياء، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
الخاتمة:
7. خاتمة:
وانطلاقًا مما سبق، يمكن استخلاص الخلاصات والاستنتاجات التالية:
• أجمع المسلمون على أن القرآن كتاب رباني المصدر، إلا أنه بالمقابل كتاب إنساني، بالنظر إلى أن الله تعالى أنزله للإنسان مقصدًا وغايةً، بغية هدايته إلى طريق الحق؛ ولذلك اتَّسَع المعجم الدلالي للآيات القرآنية بتناول الإنسان وأسمائه وألقابه ومتعلقاته.
• ولأنه كتاب إنساني كما سبق، فلا غرابة أن يتناول القرآن الكريم القضايا الكبرى للإنسان، ويعالج همومه، ومشاكله، وأسئلته الوجودية والفلسفية، وشهواته ونزواته، وعوائق استقامته وتقواه.
• ومن الأسئلة الوجودية التي اعتنى القرآن الكريم بالإجابة عنها قضية خلق البشر، بنسبة أصلهم إلى آدم أبي البشر، مع بسط مراحل خلقه وتسلسُلها التاريخي.
• ومن الأسئلة الوجودية التي أَرَّقَت الفكر البشر حقبًا زمنية طويلة -ولا تزال- قضيةُ وفاة الإنسان، من حيث تعليل القرآن الكريم لحتميتها بربطها بقضاء الله وقدره وحكمته وقدرته، مع تعَلُّقها بمسألة بعث الناس بعد موتهم للقاء الله وحسابه لهم.
• وإذا كانت مسلمات العقيدة الإسلامية تؤكد على أن الإنسان خُلِق لعبادة الله تعالى وعمارة الأرض بالخير والصلاح، فإن الآيات القرآنية لم تترك الإنسان دون تحذيره من أعداء البشرية التي يصدُّونها عن تحقيق مسؤولية عبادة الله والاستخلاف في الأرض.
• ولأن عبادة الله تعالى والاستخلاف في الأرض من أهم مقاصد إنزال القرآن الكريم لبني البشر، فقد تناولت الآيات القرآنية الإنسان في شمولية الجنس الآدمي، من خلال نماذج تمثل الإيمان والتوحيد وطاعة الله وحسن الأخلاق والمعاملات، في مقابل نماذج تمثل الشرك والكفر ومعصية الله وسوء الخلق والمعاملة.
• ولأنه القرآن كتاب أُنزل لغاية هداية الخلق إلى طريق الحق، فقد تناولت الآيات القرآنية توجيهات مسلكية تساعد الإنسان على تحقيقه مقصد الهداية والرشد.
8. قائمة المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم.
2- إبراهيم مصطفى ومعاونوه (وهم: أحمد حسن الزيات وحامد عبدالغفور ومحمد علي النجار)، المعجم الوسيط، دار الدعوة، إستانبول، طبعة 1410هـ-1989م.
3- أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ)، المسند، تح شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرين تحت إشراف عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ-2001م.
4- البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256هـ)، صحيح البخاري، أو الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
5- ابن بطال، علي بن خلف بن عبدالملك (ت 449هـ)، شرح صحيح البخاري لابن بطال، تح أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1423هـ-2003م.
6- ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن محمد (ت 852هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تح محمد فؤاد عبدالباقي وعبدالعزيز بن عبدالله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
7- الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (ت 606هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ.
8- الزمخشري، محمود بن عمرو بن أحمد (ت 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ.
9- الطبري، محمد بن جرير بن يزيد (ت 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تح أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ-2000م.
10- القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تح أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ-1964م.
11- مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم (ت 261هـ)، صحيح مسلم [المسمى "المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عــن العــدل إلـى رســول الله صلى الله عليه وسلم"]، تح محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[1] الأُنْس لغة: السكينة، والألف، واللطف، وزوال الوحشة؛ ولذلك تُلقَّب بالآنسة الفتاةُ طيبة النفس، المحبوب قربها، المؤنس حديثها، التي لم يسبق لها زواج. وانظر: إبراهيم مصطفى ومعاونيه (وهم: أحمد حسن الزيات وحامد عبدالغفور ومحمد علي النجار)، المعجم الوسيط، دار الدعوة، إستانبول، طبعة1410هـ-1989م، ج1، ص29.
[2] القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تح أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ-1964م، ج1، ص192-193.
[3] الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (ت 606هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ، ج19، ص139.
[4] المصدر السابق نفسه، ج8، ص243، بتصرف.
[5] المصدر السابق نفسه.
[6] البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256هـ)، صحيح البخاري أو الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ﴾ [التحريم: 11] -إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، رقم الحديث3411.
[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص69.
[8]) الطبري، محمد بن جرير بن يزيد (ت 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تح أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ-2000م، ج17، ص97.
[9] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص21-22.
[10] الزمخشري، محمود بن عمرو بن أحمد (ت538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ، ج2، ص276.
[11] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج17، ص160.
[12] الرازي، مفاتيح الغيب، ج29، ص349.
[13] انظر:
الرازي، مفاتيح الغيب، ج19، ص139؛
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص24.
[14] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص21.
[15] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص103.
[16] الرازي، مفاتيح الغيب، ج29، ص349.
[17] انظر:
الرازي، مفاتيح الغيب، ج9، ص378.
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص226.
[18] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص114، بتصرُّف شديد.
[19] الرازي، مفاتيح الغيب، ج25، ص189.
[20] إبراهيم مصطفى ومعاونوه، المعجم الوسيط، ج2، ص779.