القرآن الكريم وصحة نسبة وحي الله للمصطفى عليه السلام:
لقد نسبت الآيات القرآنية في مواضع كثيرة وحي الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، مؤكدة على صحة استمداده عليه السلام من وحي السماء في مواطن كثيرة، من خلال ربطه بقضايا متنوعة منها:
إثبات الوحي للرسول عليه السلام: لقد حسم القرآن الكريم في كون ما جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وَحْيًا إلهيًّا، مزيلًا استغراب العرب من تخصيص الله له بالنبوَّة رغم صفته البشرية وانتمائه إلى نفس جنسهم العربي، جاعلين هذا الوحي من قبيل السحر اللطيف المؤثر على سامعه، فقال تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾ [يونس: 2].
الرسول عليه السلام يُوحى إليه مثل باقي الأنبياء: تطرق القرآن الكريم إلى نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام باعتبارها مندرجة ضمن إطار جنس الوحي الإلهي الذي تفضل الله تعالى به على من شاء من رسله وأنبيائه، مؤكدًا على أنه عليه السلام ليس بدعة من المرسلين، وإنما هو حلقة من حلقات عباد الله الذين اصطفاهم بالرسالة والنبوة؛ كنوح، وإبراهيم، وابنيه إسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163].
إثبات نسبة الوحي إلى المصطفى عليه السلام، وأنه لم يسبق له علم به؛ رَدًّا من القرآن الكريم على من يظن بأن ما جاء به المصطفى عليه السلام من وحي ليس إلا جمعًا وتلفيقًا منه لما ورد في كتب الأمم السابقة -خاصة التوراة والإنجيل- فقد صرح القرآن الكريم بأن الرسول محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يسبق له اطِّلاع على وحي الله، ولا علم له به، ولا طلب منه لذلك، فقال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3].
بيان وظيفة الوحي في علاقته بدعوة الآخرين به: فقد صرح القرآن الكريم بأن المقصد من وحي الله لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام دعوة العرب ابتداء بالقرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ﴾ [الرعد: 30] الآية.
نسبة الوحي إلى الرسول واتصاله بأبي الأنبياء إبراهيم: لما كانت العرب على علم وتوقير لملة إبراهيم الحنيفية، وكذلك كانت اليهود والنصارى تنتسبان إليه، فقد تطرق القرآن الكريم إلى وحي الله لمحمد بن عبدالله، من خلال التأكيد على أن هذا الوحي لا يعدو أن يكون من جنس ما جاء به إبراهيم عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].
نفي كذب المصطفى في الوحي الموحى إليه أو تحريفه إياه: من الأمور الهامة الدافعة إلى تصديق الوحي الإلهي عدمُ تدخل الرسول أو النبي إلى النص الموحى إليه -أثناء تبليغه للناس- بالتحريف زيادةً أو نقصًا، أو بالتأويل على خلاف مقصده الرباني. وهذا ما شهد به القرآن الكريم، من خلال نفي أي تدخل للرسول في بنية النص القرآني نفسه، رغم الإغراءات الكثيرة التي قدمها مشركو العرب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 73].
شهادة الله بالحق والصدق على وَحْيه إلى محمد عليه السلام: لقد وصف القرآن وحي الله إلى رسوله محمد بصفتين - هما شرطان لقبول رسالته- بأن يكون هذا الوحي حقًّا من عند الله لا باطل فيه، وأن يكون صدقًا موافقًا للواقع في الإخبار عن الله وأحكامه لا كذب فيه عن الله سبحانه، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [فاطر: 31] الآية.
اللغة العربية هي لغة وحي الله إلى نبيه محمد: من القضايا التي كانت ولا تزال موضع إشكال للكتب السماوية السابقة، ما له تَعَلُّق باللغة التي نزل وكتب بها النص الديني نفسه؛ ولذلك نطقت آيات كثيرة في القرآن الكريم بالحسم التام في طبيعة اللغة التي أنزل بها هذا الكتاب، فقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].
ومما سبق، يمكن استخلاص خلاصة ذات بالٍ متميزٍ، مفادها أن القرآن الكريم -باعتباره أقوى الأدلة النقلية الإسلامية- قد حسم في كون محمد بن عبدالله نبيًّا من الله، يُوحى إليه لمقصد واضح في علاقته بهداية الخلق إلى طريق الحق.
طرق إثبات القرآن لنبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام:
اختلفت طرق إثبات القرآن الكريم لنبوة المصطفى عليه السلام، في مواجهة الجاحدين لكونه رسولًا من رب العالمين، والذين هم غير مؤمنين بالقرآن الكريم كتابًا إلهيًّا طبعًا؛ مما استدعى الاستدلال على صدق نبوة المصطفى عليه السلام بالاستعانة بأدلة غير نقلية أصلًا، للاختلاف الحاصل في المرجعية الموجِّهة لهم مع هذه الأدلة نفسها؛ لذلك استعاض القرآن عن ذلك بالاستعانة بجنس من الأدلة التي تشكل قاسمًا مشتركًا بين جميع البشر، مهما اختلفت أفكارهم، ومعتقداتهم، وأُطُرهم المرجعية. ويتعلق الأمر بالأدلة العقلية والمنطقية؛ لقدرتها على النفاذ إلى عقول الناس كلهم، من خلال توظيف المشترك الإنساني (أي: العقل والمنطق) للحجاج والإقناع.
وخدمة لنفس مقصد الاستدلال على صدق نبوة المصطفى عليه السلام، فمما توسل به القرآن الكريم من أدلة عقلية منطقية، نجد توظيفه للمعجزات والآيات في صورتها الشرعية (أي: القرآن الكريم المعجز)، أو في شكلها الكوني (كانشقاق القمر). ومن ذلك أيضًا، إعجازه التاريخي في ارتباطه بأخبار من مضى من الأمم والأنبياء (كقصة يوسف عليه السلام)، أو في شكل تنبؤات مستقبلية (كانهزام الفرس أمام الروم)، أو في أخبار ذات أبعاد ثقافية معرفية (كإخبار الله تعالى بمعرفة أهل الكتاب الحقة بصدق نبوة النبي عليه السلام، وكتمانهم كذلك نصوصًا دينية من كتبهم تُبشِّر بنبوَّة محمد؛ كبشارة عيسى به عليهما الصلاة والسلام).
القرآن معجزة خارقة للعادة والمألوف تدل على صدق نبوَّته عليه السلام:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يؤيد أنبياءه بآيات ومعجزات من جنس ما يمتاز به أقوامهم، حتى يكون الإعجاز حقيقيًّا ومؤثرًا، كي يكون سبيلًا لفتح القلوب المغلقة بظلمات الكفر والمعاصي، إلى رحاب الإيمان والطاعات.
ولما كانت سمة القوم الذين بُعِث فيهم الرسول عليه السلام الفصاحة والبلاغة، فقد اقتضت حكمته سبحانه تصديق نبوة نبينا محمد بإنزال معجزة من جنس ما امتازت به العرب زمان البعثة المحمدية، وهو القرآن الكريم. وحتى يكون الإعجاز حقيقيًّا مؤثرًا في العقول والقلوب، فقد تحدَّى القرآن العرب على الإتيان بمثله أو ببعض منه أو بسورة منه فقط، في محطات ثلاثة متباينة:
لقد تحدَّى الله العرب على الإتيان بمثل القرآن الكريم، فقال عز وجل: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
فلما عجزوا عن الإتيان بمثل هذا الكتاب العزيز، تحَدَّاهم بالإتيان بعشر سور مثل السور القرآنية، فقال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].
فلما عجزوا، تحَدَّاهم القرآن بالإتيان بسورة واحدة مثل سوره، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].
تصديق دعوة الرسول عليه السلام بالآيات والمعجزات الكونية كانشقاق القمر:
قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ﴾ [القمر: 1، 2]، وذلك أن قريشًا سألت الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو بمكة قبل الهجرة- عن آية تدل على صدق نبوَّته؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْهَدُوا»)[12].
وفي السياق ذاته، يقول ابن حجر: (وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهان به أظهر)[13].
تأييده بمعجزات تاريخية ماضية:
ومن أبرز هذا الجنس من المعجزات قصة وسورة يوسف عليه السلام التي ورد في سبب نزولها (أن اليهود قالوا: سلوه لِمَ انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن خبر يوسف؟ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة)[14]؛ ولذلك أعقب الله تعالى إتمامه قصة يوسف عليه السلام بإبرازه أن هذه القصة من قبيل الغيب الذي كان نبينا محمد غير عالم به وقت سؤال اليهود عن قصة يوسف، بدليل طول العهد بين تآمر أخوته على رميه في غيابات الجُبِّ وبين بعثته عليه السلام، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 102].
تأييده بتنبؤات مستقبلية:
ومن أبرز هذه التنبؤات قصة انهزام الفرس أمام الروم، قال تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1 - 5].
ففي هذه الآيات دليل على صدق نبينا محمد عليه السلام، بالنظر إلى أنه قد أخبر عن أمور من الغيب محددة لا يستطيع إنسان التنبؤ بها، من خلال التنبؤ بوقوع معركة في المستقبل، طرفاها الروم والفرس، في مدة زمنية قدرها بضع سنين (وهي: من ثلاث سنين إلى تسع)، مع تحديد مكانها بأقصى الأرض (أي: أبعدها إلى أرض العرب وقتئذٍ)، بالإضافة إلى تحديد المنتصر فيها وهم الروم. ولا يخفى أن هذا التنبؤ يستلزم مغامرة بمستقبل الدعوة الإسلامية، من حيث جعله في مهب الريح في حال مخالفتها للواقع المستقبلي، في مقابل اقتناع جماعي بالإسلام ودعوته في حال موافقتها لهذا الواقع.
وفي السياق ذاته، سياق حديث القرآن الكريم عن تأييد الله لنبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام بصدق تنبؤاته المستقبلية، يقول تعالى: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 - 5]، فقد أخبرت الآيات أن أبا لهب وزوجته سيصليهما الله تعالى النار؛ مما يستلزم بقاءهما على الكفر وموتهما على الشرك، وهو ما أثبته الوقع التاريخي كما أخبر القرآن.
بشارة عيسى بنبوة رسول الله عليهما الصلاة والسلام:
وقريب مما سبق قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]، وبيان ذلك يجليه تحدٍّ كبير رفعه القرآن في وجه المسيحيين وعلاقتهم بأعلى مصادرهم الدينية (أي: الإنجيل)، من خلال نسبة تصريح عيسى بنبوة المصطفى عليهما الصلاة والسلام في الإنجيل. ولا يخفى أن مثل هذا الجزم يشكل تحديًا يمكن أن يكذبه المسيحيون وعلماؤهم؛ مما يؤدي إلى نسف الدعوة الإسلامية أصلًا، فلما لم يستطيعوا رفع هذا التحدي، دلَّ ذلك على صِدْق ما نسبه القرآن إلى عيسى عليه السلام.
معرفة أهل الكتاب صدق نبوة محمد عليه السلام كما يعرفون أبناءهم:
هذه النقطة قريبة من اللتين قبلها، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، فقد أثبت القرآن الكريم بأن أهل الكتاب –وخاصة علماءهم- يعرفون النبي عليه السلام معرفة حقيقية بصفاته، وخلقته، ونسبه، وبتعيين زمانه ومكانه، من غير شك فيه، مثلما يعرفون أبناءهم ولا يشكون فيهم. ولا شك أن هذا الأمر يستلزم سؤالين: كيف عرف الرسول عليه السلام ذلك وهو الأُمِّي الذي لم يطالع كتب أهل الكتاب؟ ألا يكون ذلك تحديًا معرفيًّا يمكن لعلماء أهل الكتاب تكذيبه؛ ومن ثَمَّ نسف الدعوة الإسلامية من خلال تكذيبها في ادِّعائها السابق؟
فضح إخفاء أهل الكتاب حقائق كتبهم السابقة:
هذه النقطة قريبة مما سبق؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]؛ ولذلك (قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخفوا أمر الرجم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن ذلك لهم، وهذا معجز؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتابًا، ولم يتعَلَّم علمًا من أحد، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم، كان ذلك إخبارًا عن الغيب فيكون معجزًا)[15].
خاتمة:
رغم أن نبوة المصطفى عليه السلام قد شكَّلت حيِّزًا هامًّا في تناول القرآن الكريم، وشغلت مجالات مهمة من انشغالات الآيات القرآنية، إلا أن هذا الكتاب سعى إلى أن ينحاز عن مناقشته لنبوة المصطفى وإثبات صحتها من بعدها النظري الصرف، من خلال التركيز على تجلياتها المنهجية وأبعادها السلوكية التي تجلت من خلال صِنْفي المستقبلين للآيات القرآنية، وهم المكذبون والمصدقون بنبوَّة المصطفى عليه السلام.
بالنسبة للمكذبين أو الشاكِّين في دعوته عليه السلام:
وذلك من خلال إثبات صحة نبوَّته عليه السلام التي سيتفرع عنه التصديق بالقرآن كتابًا إلهيًّا، وبباقي أركان الإيمان، وسائر قضايا الغيب، لينتج عن ذلك تطبيق سائر الأحكام الدينية والبعد عن المنهيات الشرعية.
ولنمثلْ على هذا الأصل بقضية انشقاق القمر السابقة التي قال فيها الله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 1 - 9].
فقد دلَّت الآيات على القضايا التالية:
إثبات صحة معجزة انشقاق القمر.
إثبات موقف المعاندين من مشركي العرب، وإعراضهم عن الإيمان بنبوَّة المصطفى عليه السلام، بتشكيكهم في الاحتجاج في المعجزة ذاتها، بناءً على أن انشقاق القمر هذا لم يقع حقيقة كونية على القمر نفسه، وإنما هو أمر غيبي في ارتباطه بسحرٍ سَحَرَه محمد لأعْيُن المشاهدين ليظهر لهم القمر منشقًّا على نصفين، وليس هناك انشقاق القمر أصلًا واقعيًّا.
شهادة مَن كانوا خارج مكة، ورؤيتهم القمر منشقًّا حقيقة كذلك، وهو ما لا سبيل لمحمد أن يسحر أعيُن من لم يرهم ولم يعرف أحوالهم؛ ولذلك ذكر القرآن إجابة المشركين عن ذلك بأن السبب إنما هو استمرار محمد عليه السلام في سحر أعيُن من كان بمكة ومن كان خارجها على حدٍّ سواء.
ثم ذكرت الآيات سبب تكذيبهم لهذه المعجزة، في علاقته باتباعهم الهوى.
ولم تنسَ الآيات القرآنية بيان شيء من أهوال يوم القيامة، وما سيلقاه الكافر المعاند لآيات الله.
كما أبرزت الآيات حال الأمم المكذبة لأنبيائها، رغم ما رأته من الآيات الواضحات؛ كقوم نوح عليه السلام.
بالنسبة للمؤمنين بنبوته عليه السلام، وذلك من خلال الدعوة إلى ما يلي:
ترسيخ إيمان العبد، وتقويته، والحرص على تنميته.
تصديقه فيما أخبر به المصطفى عليه السلام.
اتِّباعه ما أمر به أفضل الأنبياء.
اجتنابه ما نهى عنه.
والدليل قوله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80] الآية، وأيضًا قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
قائمة المراجع:
القرآن الكريم.
القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (1964)، الجامع لأحكام القرآن، تح أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2.
الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (1420هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3.
البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (1422هـ)، صحيح البخاري، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1.
الفيروزآبادي، أبو طاهر محمد بن يعقوب (1996)، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تح محمد علي النجار، منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة.
ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن محمد (1379هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تح محمد فؤاد عبدالباقي وعبدالعزيز بن عبدالله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت.
[1] القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (1964)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 18/83-84.
[2] المصدر السابق نفسه، ج18، ص83.
[3] المصدر السابق نفسه، ص84.
[4] الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (1420هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، ج30، ص681.
[5] البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (1422هـ)، صحيح البخاري، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، ج1، ص7، حديث3.
[6] المصدر السابق نفسه، ج11، ص383، حديث 3238.
[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14، ص200-201.
[8] الرازي، مفاتيح الغيب، ج11، ص327.
[9] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص298-299.
[10] الرازي، مفاتيح الغيب، ج15، ص380-381.
[11] الفيروزآبادي، أبو طاهر محمد بن يعقوب (1996)، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، تح محمد علي النجار، منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، ج1، ص88.
[12] البخاري، صحيح البخاري، ج 4، ص 206، حديث 3636.
[13] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن محمد (1379هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تح محمد فؤاد عبدالباقي وعبدالعزيز بن عبدالله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، ج7، ص185.
[14] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج9، ص119.
[15] الرازي، مفاتيح الغيب، ج11، ص326.