عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 28-08-2024, 03:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة

وقفات ودروس من سورة البقرة (16) والأخيرة


ميسون عبدالرحمن النحلاوي


وفيها:
تشريعات مالية أساسية في المجتمع الإسلامي: أحكام الربا، أحكام المداينة.
وختام السورة.


بسم الله الرحمن الرحيم

الربا الكبيرة التي استوجبت حرب الله ورسوله:
لطالما كان الحديثُ في الكبائر مستفيضًا في الخطب، وعلى المنابر، وفي الدروس والمواعظ، ونصُّ حديث الصحيحين: ((اجتنبوا السبع الْمُوبِقات، قالوا: وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)).

ولطالما تربَّى في النفوس أن الشرك والسحر، وقتل النفس وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات من الكبائر، ولطالما تحرَّى المؤمنون اجتنابها وأفلحوا في ذلك، وبقِيَت كبيرة، يتم تناولها في الوعظ والإرشاد على استحياء وفي عُجالة؛ وهي كبيرة الربا، مع أنها الكبيرة الوحيدة التي استوجبت حربَ الله ورسوله للمتعامل بها، سواء كان آكلَها أو موكلها، أو شاهدها أو كاتبها.

كبيرة الربا هي تلك التي قبَّحها صلى الله عليه وسلم بأشدَّ ما يكون عليه التمثيل قباحة؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، وأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمَّه، وإن أربى الربا عِرْضُ الرجل المسلم))؛ [أخرجه ابن ماجه، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع].

وأخرج الترمذي في صحيحه عن عبدالله بن مسعود، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا وموكله، وشاهدَيه وكاتبه))، وهؤلاء هم الذين لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ قال ابن عباس: "آكل الربا يُبعَث يوم القيامة مجنونًا يخنق"، ومع ذلك تربَّى في النفوس استصغار كبيرة الربا، فكانت أكبر مداخل أعداء الإسلام للهيمنة على الأمة، وخنقها بكل ما لهذه الكلمة من معنًى، وكان حجر الأساس المصارف الربوية اليهودية التي دخلت على الأمة بأسماء بريطانية وفرنسية وأمريكية، في منتصف القرن التاسع عشر، واليوم أصبحت نسبة المبرِّرين لضرورة التعامل مع المصارف الربوية، والسابحين في مستنقعه من أبناء الأمة نسبةً مُخجلة لعِظَمِها، متذرِّعين بالعجز عن مجانبته، وما يعيشه المسلمون اليوم من ضنك، على مستوى الأفراد والشعوب والنُّظُم التي رَتَعتْ في الربا عن رضًا، وأكلته بشراهة من أجل متاع الحياة الدنيا - أبلغُ دليل على محق الله للربا وحربه على آكليها وموكليها، وشاهدِيها وكاتبِيها.

حربُهُ جل وعلا على المجتمعات التي لبِست لَبُوس الربا واختالت به، فهل من مُدَّكِرٍ؟


نعود إلى سياق الآيات:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 275 - 281].


يقول الشوكاني: "الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، يُقال: رَبَا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يُطلَق على شيئين: على ربا الفضل، وربا النَّسِيئة، حسبما هو مفصَّل في كتب الفروع، وغالبُ ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجَلُ الدَّين، قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تُربي؟ فإذا لم يقضِ، زاد مقدارًا في المال الذي عليه، وأخَّر له الأجل إلى حين"؛ [انتهى].

والربا أنواع، وأشهرها ربا الفضل وربا النسيئة:
فأما ربا النسيئة؛ فقد قال عنه قتادة: إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مُسمًّى، فإذا حلَّ الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.

وأما ربا الفضل، فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة؛ عن أبي سعيد الخدري قال: ((جاء بلالٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيٍّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال: كان عندنا تمر رديءٌ، فبِعْتُ منه صاعَين بصاعٍ، فقال: أوَّهْ عينُ الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتريَ، فَبِعِ التمر ببيع آخر، ثم اشترِ به))؛ [صحيح البخاري]، وفي الحديث نهيٌ عن ربا الفضل.

نستعرض في آيات الربا عددًا من المسائل، والله المستعان:
1- حال آكِلِ الربا: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]، لما ذكر تعالى الأبرارَ المؤدِّين النفقاتِ، المخرجين الزكواتِ، المتفضِّلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات، في جميع الأحوال والآنات، شرع في ذِكْرِ أكَلَةِ الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشُّبُهات، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبُّط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا مُنكرًا، وقال ابن عباس: آكل الربا يُبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق"؛ [ابن كثير].


2- حكم الربا: حرمة قطعية ظاهرة غير قابلة للتأويل: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].


3- حكم من أقلع عن الربا: ﴿ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 275]؛ أي: من بلغه نهيُ الله عن الربا، فانتهى حالَ وصول الشرع إليه، فله ما سلف من المعاملة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رِبًا أضعُ ربا العباس))، ولم يأمرهم بردِّ الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 275].


4- حكم من لم يَنْتَهِ: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]، ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾؛ أي: إلى الربا، ففعله بعد بلوغ نهيِ الله له عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحُجَّة، ولهذا قال: ﴿ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275].


5- تكفل الله بمحق الربا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 276]، فليس لمجتهدٍ أن يقول: آخُذُ الربا وأُنفقه حتى لا يستفيد منه الكفَّار، فالله قد تكفَّل بمحق الربا على كل وجوهه ومن كل مصادره، فالربا محرَّم في جميع الشرائع السماوية.


6- المفاضلة بين الربا والصدقات: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، يمحق الربا؛ أي: يُذهِبه، إما بأن يُذهِبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرِمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة، وهذا نظير الخبر الذي رُوِيَ عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الربا وإن كثُر فإلى قُلٍّ))، وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فقال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شريك عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الربا وإنْ كَثُرَ، فإن عاقبته تصير إلى قُلٍّ))، وقد رواه ابن ماجه، عن العباس بن جعفر، عن عمرو بن عون، عن يحيى بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أحدٌ أكْثَرَ من الربا، إلا كان عاقبة أمره إلى قِلَّةٍ)).


وقوله: ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، قُرِئ بضم الياء والتخفيف، من رَبَا الشيء يربو، وأرْباهُ يُربيه؛ أي: كثَّره ونمَّاه يُنمِّيه، وقُرِئ: ويربي بالضم والتشديد، من التربية؛ كما قال البخاري: حدثنا عبدالله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - وإن الله لَيقبلها بيمينه، ثم يُربِّيها لصاحبه، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه، حتى يكون مثل الجبل)).


7- وصف المرابي بالكفَّار الأثيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]، يقول ابن كثير: "الله عز وجل لا يحب كَفُورَ القلب، أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شُرِع له من التكسُّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب

الخبيثة، فهو جحود لِما عليه من النعمة، ظَلومٌ آثمٌ بأكل أموال الناس بالباطل"؛ [انتهى].



8- المؤمنون هم من يمتثلون لأوامر الله، وأجرهم أمان من الحزن والخوف: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277].


فلما ذكر أكَلةَ الربا، وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانًا ينفعهم، لم يصدر منهم ما صدر، ذكر حالة المؤمنين وأجرَهم، وخاطبهم في الآية التالية بصفة إيمانهم هذه، فنهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]؛ [السعدي].


9- الأمر بترك الربا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]؛ قال مقاتل بن حيان، والسدي في سبب نزول الآية: إن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربًا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام، فكتب في ذلك عتَّاب بن أُسَيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279]، فقالوا: نتوب إلى الله، ونَذَرُ ما بقِيَ من الربا، فتركوه كلهم.


10- الربا وحرب الله ورسوله: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279].


وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار؛ قال ابن عباس ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ﴾؛ أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله.


وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، وقال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يَسْتَتَيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن وابن سيرين، أنهما قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لَأَكَلَةُ الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمامٌ عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وَضَعَ فيهم السلاح، وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بَهْرَجًا أينما أتَوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا؛ فإن الله قد أوسَعَ الحلال وأطابه، فلا تُلْجِئنَّكم إلى معصيته فاقةٌ؛ [رواه ابن أبي حاتم]، وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل؛ [رواه ابن جرير].


وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 279]؛ أي: بأخذ الزيادة، ﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 279]؛ أي: بوضع رؤوس الأموال أيضًا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه، ولا نقص منه؛ [تفسير ابن كثير].


11- إنظار الْمُعْسِر في دفع رأس المال: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280]؛ يقول القرطبي: "لما حَكَمَ جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حَكَمَ في ذي العسرة بالنَّظِرة إلى حال الميسرة؛ وذلك أن ثقيفًا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة، شكَوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا: ليس لنا شيءٌ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]، والصدقة في السدِّ عن المعسر ثوابها عظيم؛ ورد في السنة النبوية عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتى الله بعبدٍ من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عمِلت لي في الدنيا؟ فقال: ما عمِلتُ لك يا ربِّ مثقالَ ذرة في الدنيا أرجوك بها؛ قالها ثلاث مرات، قال العبد عند آخرها: يا رب، إنك أعطيتني فضلَ مالٍ، وكنتُ رجلًا أبايع الناس، وكان من خُلُقي الجَوَازُ، فكنت أيسِّر على الْمُوسر، وأنْظُر الْمُعْسِر، قال: فيقول الله عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة))؛ [أخرجه البخاري ومسلم].


12- وتختم آيات الربا بتذكرة الله عز وجل لعباده بزوال الدنيا، وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، فالمال يفنى، ويبقى إثمه أو ثوابه، يُحاسَب عليه العبد يوم الرجوع إلى الله: ﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103]، فيجازي الله عباده بما كسبوا من خيرٍ وشرٍّ؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، وقد روى النسائي عن عكرمة، عن عبدالله بن عباس، قال: "آخر شيء نزل من القرآن: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]".


قال الثوري عن ابن عباس قال: "آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا"؛ [رواه البخاري]، وروى أحمد عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال: قال: "من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ قبل أن يفسِّرها لنا، فدَعُوا الرِّبا والرِّيبة".


آية المداينة:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282].

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: ((لما نزلت آية الدَّين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول من جَحَدَ آدمُ عليه السلام، أو أول من جحد آدمُ، إن الله عز وجل لما خلق آدم، مسح ظهره، فأخرج منه ما هو من ذراريَّ إلى يوم القيامة، فجَعَلَ يعرِض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلًا يزهر، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: رب زِدْ في عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عُمْرُ آدمَ ألفَ عامٍ، فزاده أربعين عامًا، فكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابًا، وأشهد عليه الملائكة، فلما احتُضر آدم، وأتَتْهُ الملائكة لتقبضه، قال: إنه قد بقِيَ من عمري أربعون عامًا، فقيل: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلتُ، وأبرز الله عز وجل عليه الكتابَ وشهدت عليه الملائكة))؛ [المصدر: مسند أحمد، وصححه أحمد شاكر].

وآية الدَّين هي أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام دقيقة معجِزة في إيجازها، تغطي مسألة الدين الواسعة، نبسطها مع بعض الوقفات:
1- فرض كتابة المداينات: قال ابن كثير: "﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾ [البقرة: 282]، هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجَّلة أن يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظَ لمقدارها وميقاتها، وأضبطَ للشاهد فيها، وقد نبَّه على هذا في آخر الآية؛ حيث قال: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]، وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، قال: أُنزِلت في السَّلَمِ إلى أجل معلوم"؛ [انتهى].


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.59 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]