وقال ابن تيمية: " فلا نحكم في عقدٍ أنه عقد تحليل, حتى يثبت ذلك؛ إما بإقرار الزوج, أو ببينةٍ تشهد على تواطئهما قبل العقد, أو تشهد بعرفٍ جارٍ بصورة التحليل, فإن العرف المطرد على كل حالٍ جارٍ مجرى الشرط بالمقال, لكنا وإن لم نحكم إلا بالظاهر، فلا يجوز لنا أن نعامل الله سبحانه إلا بالنيات الصحيحة؛ فإن الأعمال بالنيات, فلا يجوز أن ننوي بالشيء ما حرّمه الله سبحانه, وعلينا أن ننهى الناس عما نهاهم الله سبحانه عنه، ورسوله صلى الله عليه وسلم من النيات الباطنة, وإن لم نعتقد أنها فيهم, كما ننهاهم عن سائر ما حرّمه الله سبحانه".[76]
وقال في موضع آخر: "وبهذا التحرير تظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها، وإن لم يقصد البائع الربا; لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا، فتصير ذريعةً، فيسد هذا الباب".[77]
واستدلوا من السنة، والأثر، والمعقول:
(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه الشيخان عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سُليم، يدعى: ابن الْلَّتَبِيَّة، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا".[78]
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الدافع للإهداء في الحكم عليه بأنه غلول، وعرف الدافع إلى ذلك من جهة كون العاقد متصفًا بوصف العمل،[79] قال الخطابي[80]: "دليلٌ على أن كل أمرٍ يتذرع به إلى محظور فهو محظور، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونة يركبها، ويرتفق بها من غير عوض... وكل دخيلٍ في العقود يجري مجرى ما ذكرناه، على معنى قول: "هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه، أم لا"؛ فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر، وفرّق بين قِرانها، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران، أم لا؟".[81]
(2) واستدلوا من الأثر: بما أخرجه مالك في موطئه عن أبي سلمة[82] قال: إن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه طلّق امرأته البتة، وهو مريض، فورّثها عثمان رضي الله عنه منه، بعد انقضاء عدتها.[83]
ووجه الدلالة: أن عثمان استدل بحال عبد الرحمن رضي الله عنهما حال إنشاء الطلاق، وحكم بأن باعثه عليه كان قصد حرمان زوجه من الإرث، فعامله بنقيض قصده.[84]
(3) واستدلوا من المعقول بقاعدتين:
الأولى: قاعدة المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.[85]
والثانية: قاعدة سد الذرائع؛[86] فما غلب فيه قصد الحرام مُنع، وإن لم يُقصد في كل صورة؛ لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الحرام، ويقول القائل: لم أقصد به ذلك, ولئلا يدعو الإنسانَ فعلُه في المرة الأولى إلى أن يقصد المحرم في مرة أخرى, أو يُعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال، ولا يميز بين القصد وعدمه.[87]
الاتجاه الثالث: التوسع في اعتبار القرائن والتهم؛ سواء كانت غالبة، أو كثيرة الوقوع.
وقد أكثر من ذلك المالكية في فروعهم.[88]
قال الحطاب: " (ومُنع للتهمة ما كثر قصده) أي ومُنع كل بيع جائز في الظاهر، يؤدي إلى ممنوع في الباطن؛ للتهمة أن يكون المتبايعان قصدا بالجائز في الظاهر التوصل إلى الممنوع في الباطن، وليس ذلك في كل ما أدى إلى ممنوع، بل إنما يمنع ما أدى إلى ما كثر قصده للناس"،[89] قال الدَّرْدِير[90]: "لأن التهمة على قصد ذلك تنـزل منـزلة اشتراط ذلك، والنص عليه بالفعل". [91]هل العينة، واستدلوا - إضافة لما سبق - من الأثر بدليلين:
الدليل الأول: ما أخرجه البخاري عن أبي بردة[92] قال: أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: ألا تجيء، فأطعمك سويقًا[93] وتمرًا، وتدخل في بيتٍ، ثم قال: إنك بأرضٍ الربا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجلٍ حقٌ، فأهدى إليك حمل تبنٍ، أو حمل شعيرٍ، أو حمل قَتٍّ[94] فلا تأخذه، فإنه ربا.[95]
ووجه الدلالة: اعتبار عبد الله بن سلام رضي الله عنه انتشار الربا، وشيوعه بين الناس في الحكم على عقودهم.
ونوقش هذا الاستدلال: أنه من رأي عبد الله بن سلام رضي الله عنه، أو ورعه، ولا يكون من الربا إلا إذا شرطه.[96]
الدليل الثاني: ما أخرجه البيهقي وغيره عن العالية,[97] قالت: كنتُ قاعدة عند عائشة رضي الله عنها، فأتتها أم مُحِبة،[98] فقالت لها: يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم, قالت: فإني بعته جاريةً إلى عطائه بثمانمائة نسيئة، وإنه أراد بيعها، فاشتريتها منه بستمائة نقدًا, فقالت لها: بئس ما اشتريتِ، وبئس ما اشترى، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب".[99]
ووجه الدلالة: وجود التهمة " أن يكون إنما قصد دفع دنانيرٍ في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه، فزوّر لذلك هذه الصورة؛ ليتوصلا بها إلى الحرام، مثل أن يقول قائل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر، وأردّ إليك عشرين دينارًا، فيقول: هذا لا يجوز، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر، ثم أشتريه منك بعشرة نقدًا"،[100]فالمنع من هذا التصرف لا على أن البيعتين وقعتا بشرطٍ أو تواطؤ، بل جاء المنع من باب التوسع في سدّ ذرائع القصد إلى الفساد.[101]
ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: ضعف الحديث؛ من وجهين:
أ- جهالة العالية امرأة أبي إسحاق، وجهالة أم محبة.[102]
وأجيب: أن أم محبة لم ترو الحديث، وإنما هي صاحبة القصة، وأما العالية فهي تابعية، وقد روت قصةً حضرتها، وهذا أدعى لضبطها لها، وقد أثبت لها ابن سعد[103] السماع من عائشة رضي الله عنها،[104] وهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهو أعلم بها، وروايته عنها كالتعديل لها.[105]
ب- أن لفظه منكر؛ لأن الأعمال الصالحة لا يحبطها الاجتهاد، وإنما يحبطها الارتداد، ومحال أن تقصد عائشة رضي الله عنها تكفير زيد رضي الله عنه بمسائل الخلاف.[106]
وأجيب: أن أم المؤمنين إن كانت قصدت أن هذا العمل كفر، فلا يلزم تكفيرها لزيد رضي الله عنه؛ لأنه معذور؛ إذ لم يعلم، لذا قالت: أبلغيه، ويحتمل أنها قصدت أن هذا العمل من الكبائر، التي يذهب إثمها بثواب الجهاد؛ بمنـزلة من عمل حسنةً، ثم سيئةً بقدرها.[107]
والوجه الثاني من المناقشة: أنه من قول عائشة رضي الله عنها، وقد خالفها في ذلك زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلا حجة في قولها مع وجود المخالف لها من الصحابة.[108]
وأجيب من وجهين:
الأول: أن زيدًا رضي الله عنه لم يخالفها؛ لأنه لم يقل: هذا حلال، بل فعله، وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح.[109]
والثاني: أن مثل هذا الوعيد لا يقال إلا عن سماعٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن تنكر عائشة رضي الله عنها على زيدٍ رضي الله عنه رأيه بمجرد رأيها؛ فعُلم بذلك أنها إنما قالته عن توقيف.[110]
والثالث من المناقشات: أن إنكار عائشة رضي الله عنها قد يُحمل على أن زيدًا رضي الله عنه باع إلى العطاء، وهو أجلٌ مجهول.[111]
وأجيب: بأنه قد ثبت عن عائشة رضي الله عنها جواز البيع إلى العطاء، فلم ترد بإنكارها ذلك.[112]
القول المختـار:
للقرائن دلالةٌ معتبرةٌ شرعًا، دلت على ذلك العديد من النصوص الشرعية، وتطبيقات الفقهاء في كثيرٍ من الأبواب الفقهية،[113] حتى عند الشافعية أنفسهم،[114] ومتى ما قويت القرينة كان للنظر فيها اعتبار في الحكم الشرعي، يخرج به عن الأصل، وعن إجراء الحكم على ظاهره، وهذه القوة المعتبرة للقرائن تحصل من جهتين:
أولها: قوة دلالة القرينة على القصد؛ من جهة ظهورها، أو كثرة التوسل بها إلى المقصود، أو من جهة اتفاقهم، أو أكثرهم عليها، حتى يغلّب الحكم بالظاهر على الأصل.[115]
ثانيها: اجتماع عددٍ من القرائن في المعاملة الواحدة، بحيث يتقوى جانبٌ على الآخر.[116]
وكل هذا محل نظر المجتهد، وإنما يحكم بحسب غلبة ظنه.
قال ابن القيم: "فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية؛ كفقهه في جزئيات، وكليات الأحكام أضاع حقوقًا كثيرةً على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، لا يشكون فيه، اعتمادًا منه على نوع ظاهرٍ، لم يلتفت إلى باطنه، وقرائن أحواله".[117]
2- وأما النظر الثاني: فاعتبار مآلات العقود والتصرفات:
وقد اعتبرت الشريعة الحكم على الشيء باعتبار مآله في صورٍ كثيرة:[118]
أ- ترك الفعل، أو الأمر بتركه؛ لما يؤول إليه من المفاسد؛ فمن الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهدٍ بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين؛ بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة"، وفي رواية: "فأخـاف أن تنكر قلوبهم"،[119] ومن الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه"،[120] قال القرافي: "ومحمله عند علمائنا على سدّ الذريعة عن فساده؛ لئلا يتوالى ذلك، فيفسد الماء على الناس".[121]
ب- منع الفعل المباح إذا قُصد منه ترتب الممنوع؛ كمنع الوصية، والرجعة إذا قُصد منهما الإضرار، قال تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾،[122] وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾.[123]
ج- الأمر بترك الفعل لكثرة إفضائه إلى الممنوع؛ كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يومٍ، أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم"،[124] قال ابن تيمية: "ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان باليوم واليومين، وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه، كما زاده أهل الكتاب من النصارى".[125]
د- الأمر بالفعل لما يؤول إليه من المصالح الراجحة؛ كقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.[126]
وإذا كانت الشريعة قد اعتنت بفقه اعتبار المآل في أبواب الفقه بعامة، فإنها أولت ذلك مزيد اهتمامٍ في خصوص أبواب المعاملات المالية، ومن دقة الاعتناء بذلك:
أ- منع سلفٍ وبيع؛ لأنه يُتذرع به إلى محاباة المقرض.[127]
ب- منع بيع التمر بالتمر متفاضلاً؛ لأنه يتذرع به إلى ربا النسيئة.[128]
ج- منع مدّ عجوة ودرهم بمدٍّ ودرهم؛ لمنع التذرع إلى ربا الفضل.[129]
د- منع بيع العينة، وقد كان من فقه ابن عباس رضي الله عنهما لما سُئل عنها أن قال: درهمٌ بدرهم، وبينهما حريرة؛[130] أي أنها تؤول إلى ذلك.
ولاعتبار المآل شروط وضوابط يجب الأخذ بها:[131]
1- أن يكون المآل متحقق الوقوع؛ إما مقطوعًا به، أو كثيرًا غالبًا.
2- أن يكون المآل ظاهرًا منضبطًا، بحيث يمكن إناطة الحكم به، فلا يكون خفيًا، أو منتشراً مضطربًا.
3- أن لا يؤدي اعتبار المآل إلى تفويت مصلحةٍ راجحة، أو حصول ضررٍ أشد؛ كمنع سفر المرأة بلا محرم للهجرة، وإنكار المنكر إذا أدّى إلى مفسدةٍ أعظم.
وضبط النظر في هذا الباب من الأهمية بمكان؛ إذ الخلل فيه سينحرف بطرفٍ إلى التوسع في الإباحة نفيًا للذريعة، وبالآخر إلى التوسع في الحظر سدًا للذريعة المتوهمة، ومن رحمة الله أن جعل لذلك أدلة وقرائن يُهتدى بها، ومما تُنضبط به معرفة المآلات أمور:[132]
أولها: التصريح به من المشرع؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾.[133]
وثانيها: القرائن المحّتّفة بالمعاملة، وحقيقة القرينة المعتبرة كل ما يحصل به ظنٌ غالبٌ بالحكم، ومن ذلك:
أ- طبيعة المحل: فينظر في طبيعة المحل، وخصائصه الذاتية، وعوارضه الملازمة، وما قد يترتب من إجراء العقد عليه؛ لذا حرم اقتناء آنية الذهب والفضة؛ لما يؤول من استعمالهما.[134]
ب- دلالة العادة والعرف؛ كمنع بناء مصنعٍ في مدينة سكنية، أو فتح نافذةٍ تطل على عورات الجيران؛ لما يؤول إليه ذلك من الضرر،[135] قال الكاساني: "ولو اشترى قُمْرِيّة[136] على أنها تصوِّت، أو طيرًا على أنه يجيء من مكانٍ بعيد، أو كبشًا على أنه نطّاح، أو ديكًا على أنه مقاتل فالبيع فاسد عند أبي حنيفة... ولأن هذه صفاتٌ يتلهى بها عادةً، والتلهي محظور، فكان هذا شرطًا محظورًا، فيوجب فساد البيع".[137]
ج- دلالة الحال؛ سواءً كان حال الشخص، ومنه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه أن يتولى مال يتيم،[138] أو كان حال الواقع؛ كمنع بيع السلاح زمن الفتنة.[139]
د- دلالة التجربة، وقد استدل بها موسى عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة فرض الصلاة: "وإني والله، قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف لأمتك"،[140] قال ابن حجر: "وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة"،[141] وقال العـز بن عبد السلام[142]: "وأما مصالح الدنيا، وأسبابها، ومفاسدها فمعروفةٌ بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيءٌ من ذلك طُلب من أدلته"،[143] ومن أشهر الأحكام التي بناها أهل العلم على التجربة المتكررة تقدير أقل الحيض، وأكثره.[144]
وقد أنشئت في هذا العصر مراكز بحثية لاستشراف المستقبل، ومعرفة مآلات الأفعال، وأصبح هذا علمًا تُدرس قواعده، وتستنبط أحكامه، من خلال استطلاع الآراء، واستبانة مكنونات الأفراد والجماعات ودوافعهم، وجمع المؤشرات من واقع الأحداث والوقائع، وتحليل ذلك كله في ضوء القواعد القدرية للأسباب والنتائج، والأسس العلمية للنشوء والتطور.[145]
وقد تكون الخبرة بواقع الناس، وماضيهم مؤشرًا إلى ما ستؤول له الأمور بعدُ، ويعجبني أن أنقل كلامًا للدكتور يوسف الشبيلي في معرض استدلاله بقاعدة سد الذرائع، ردًا على من أجاز إلزام المدين المماطل بالتعويض، يقول: "خشية أن يؤول الأمر إلى استباحة الفوائد الربوية، بحجة أنها تعويض للدائن عما فاته من منافع، وقد كانت بداية استحلال الفائدة في الدول الغربية بمثل هذه الشبهة، فقد جاء على لسان توما الأكويني - أحد قدامى المنظرين الغربيين-، ثم نقل عبارته، ثم قال: ومما يقوي هذا القول أن المصرف حتماً سيفضل عدم الإلحاح على العميل في المطالبة طمعًا بالعوض الذي سيناله مقابل التأخير؛ لأن هذا العوض على أيّة حال لن يكون أقل مما سيحققه البنك من أرباحٍ خلال نفس الفترة، والعميل أيضاً سيستسهل المطالبة والتأخير، وتحمل العوض بدلاً من السداد؛ لأن ذلك لن يقابل بإلحاحٍ جادٍ من البنك، ومن ثم تنقلب الصورة مع مرور الزمن، وتواطؤ الناس على ذلك إلى اتفاقٍ ضمني على التأخير والتعويض، ولأن إرجاء تحديد مقدار التعويض إلى ما بعد السداد قد يؤدي إلى المنازعة والخلاف، مع ما يصحب ذلك من صعوبةٍ في التقدير، فليس من المستبعد أن يتم تحديد مقدار التعويض في بداية العقد، وأن يكون مربوطًا بعدد أيام التأخير، تمامًا كما تحسب الفائدة، الأمر الذي يؤدي إلى تجويز الفائدة المحرمة باتفاق المجتهدين، تحت غطاء التعويض عن التأخير".[146]
يتبع