
08-06-2024, 10:18 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,005
الدولة :
|
|
رد: القريب جل جلاله وتقدست أسماؤه
والقِسْمُ الثَّالِثُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ العَرْشِ، وهو في كُلِّ مَكَانٍ، وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وهذه، لا أَصْرِفُ وَاحِدًا منها عنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهم الأَشْعَرِي فِي المَقَالَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، وهو مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ السَّالِمِيَّةِ والصُّوفِيَّةِ.
وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وِإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلى التَّمَسُّكِ بالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِها مِنَ الصِّنْفَيْنِ الأَوَّلَينِ.
فَإِنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنَ النُّصُوصِ، بَلْ خَالَفَهَا كُلَّها.
وَالثَّانِي تَرَكَ النُّصُوصَ الكَثِيرَةَ الُمحْكَمَةَ والُمبَيِّنَةَ وتَعَلَّقَ بِنُصُوصٍ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عليه مَعَانِيها.
وأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعْتُ النُّصُوصَ كُلَّها، لَكِنَّه غَالَطَ أَيْضًا؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فهو مُخَالِفٌ لِلكِتَابِ والسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِها، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِـمَا فَطَرَ اللهُ عليه عِبَادَهُ، وَلِصَرِيحِ الَمعْقُولِ وَللأَدِلَّةِ الكَثِيرَةِ، وهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً، يَقُولُونَ: إِنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَيَقُولُون: نَصِيبُ العَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ العَارِفِ، كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذلك أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ العَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ المَعْرِفَةُ وِالإِيمَانُ وما يَتْبِعُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ العَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إِنَّه نَفْسَهُ فَوْقَ العَرْشِ، وإنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ العَارِفِينِ كَانَ هذا قَوْلًا بالحُلُولِ الخَالِصِ!
وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ من الصُّوفِيَّةِ حَتَى صَاحِبُ ( مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ) فِي تَوْحِيدِهِ الَمذْكُورِ في آخِرِ الَمنَازِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الحُلُولِ، ولِهَذَا كَانَ أَئْمَّةُ القَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْ مِثْلِ هذا، سُئِلَ الجُنَيدُ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ إِفْرَادُ الحُدُوثِ عَنْ القِدَمِ , فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَابُدَّ للمُوَحِّدِ من التَّمْيِيزِ بَيْنَ القَدِيمِ الخَالِقِ والُمحْدَثِ المَخْلُوقِ فلا يَخْتَلِطُ أَحَدُهما بالآخَرِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الَمعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الَمسِيحِ والشِّيعَةِ فِي أَئِمَّتِهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ الحُلُولِيَّةِ والإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الجُنَيْدِ وأَمْثَالِهِ مِنْ شِيُوخِ أَهْلِ المَعْرِفَةِ الُمتَّبِعِينَ للكِتَابِ والسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مْنْ نَفْي الحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إِثْبَاتِ الأَمْرِ والنَّهْي، وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَمِّلُوا مَعْرِفَةَ الحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُه مِنَ الحُلُولِيَّةِ وِالإِبَاحِيَّةِ!
وَأَمَّا القِسْمُ الرَّابِعُ فَهُمْ سَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُها، أَئِمَّةُ العِلْمِ والدِّينِ مِنْ شُيُوخِ العِلْمِ والعِبَادَةِ، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ للكَلِمِ، أَثْبَتُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بِائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ مِنْهُ بِائِنُونَ، وَهُوَ أَيْضًا مَعَ العِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ، وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ والتَّأْيِيدِ والكِفَايَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ، ففي آيةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَلِيفَةُ في الأَهْلِ »، فهو سُبْحَانَهُ مَعَ الُمسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ في وَطَنِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هذا أَنْ تَكُونَ ذَاتُه مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِم، كَمَا قَالَ: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]؛ أَيْ: مَعَهُ عَلَى الإِيمَانِ، لَا أَنَّ ذَاتَهم في ذَاتِهِ، بَلْ هم مُصَاحِبُونَ له، وقَوْلُهُ: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 146]، يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهم فِي الإِيمَانِ وَمَوَالَاتِهِم، فاللهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الَمعِيَّةِ، كَمَا قَالَتْ الَمرْأَةُ: « زَوْجِي طَوِيلٌ النَّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ » فَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ، وَمَقْصُودُها: أَنْ تُعْرَفَ لَوَازِمُ ذَلِكَ وَهُوَ: طُولُ القَامَةِ وَالكَرَمِ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَقُرْبِ البَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الأَضْيَافِ ».
ثُمَّ قَالَ: « وَأَمَّا لَفْظُ ( القُرْبِ ) فَقَدْ ذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الُمفْرَدِ، وَتَارَةً بِصِيغَةِ الجَمْعِ، فَالأَوَّلِ إِنَّمَا جَاءَ فِي إِجَابَةِ الدَّاعِي: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وَكَذَلِكَ فِي الحَدِيثِ: « ارْبُعُوا عَلَى أَنْفُسِكم، فَإِنَّكم لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إِنَّ الذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إلى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ ».
وَجَاءَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِه: ﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون ﴾ [القصص: 3]، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18]، ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 17]، و﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 19]، فالقُرْآنُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ، والبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِـمَنْ يُبَلِّغُهُ القُرْآنَ، وَمَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِها وَخَلَفِها: أَنَّ النبيَّ غ سَمِعَ القُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلَ، وجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنَ الله عز وجل.
وَأَمَّا قَوْلُه: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، و﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾، و﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ العَرَبِ للوَاحِدِ العَظِيمِ الذي له أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ، فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنا، كَمَا يَقُولُ الَملِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا البَلَدَ وَهَزَمْنَا هذا الجَيْشَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لَأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِأَعْوَانِهِ، وَاللُه تَعَالَى رَبُّ الَملَائِكَةِ، وَهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، وَلَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ أَفْعَالِهم وَقُدْرَتِهم وهو غِنِيٌّ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ هُوَ كَالمَلِكِ الذي يَفْعَلُ أَعْوَانُهُ بِقُدْرَةٍ وَحَرَكَةٍ يَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْهُ، فَكَانَ قَوْلُهُ لِـمَا فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ: نَحْنُ فَعَلْنَا أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ قوَلِ بَعْضِ الُملُوكِ ».
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا مِنَ الُمتَشَابِهِ الذي يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ تَفْسِيرَهُ فَقَالَ: « فَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ: ( نَحْنُ ) أَنَّ اللهَ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَلَائِكَتِهِ، وإنْ كَانُوا لا يَعْرِفُونَ عَدَد الَملَائِكَةِ ولا أسْمَاءَهم وَلَا صِفَاتِهم وحَقَائِقَ ذَوَاتِهم، لَيْس الرَّاسِخُونَ كَالجُهَّالِ الذي لا يَعْرِفُونَ ( إنَّا ) و( نَحْنُ )، بَلْ يَقُولُون: أَلْفَاظًا لا يَعْرِفُونَ مَعَانِيهَا، أَوْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ الآلِهَةُ ثَلَاثَةً مُتَعَدِّدَةٌ أَوْ وَاحِدًا لَا أَعْوَانَ لَهُ!
وَمَنْ هَذَا قَوْلُ الله تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42]، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، و﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11]، فَإِنَّهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الذين مُقَدَّمُهُمْ مَلَكُ الَموتِ، وَقَوْلُه: ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18]، هُوَ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ لَهُ عَلَيْهِ واللهُ قَرَأَهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]، فَهُوَ مُكَلِّمٌ لِمُحَمدٍ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ وإرْسَالِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ للمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 94]، وَإِنْبَاءُ الله لهم إِنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ إِلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُه: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]، ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]، فَهُوَ أَنْزَلَ عَلَى الُمؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ مُحمدٍ.
وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الَملَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ ذَاتِ الُمحْتَضِرِ، وَقَوْلُه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ وَمَلَائِكَتُه يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ العَبْدِ كَمَا ثَبُتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: « إِذَا هَمَّ العَبْدُ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا قَالَ: اكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ... » إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ، فالَملَائِكَةُ يُعْلَمُونَ مَا يَهمُّ بِهِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، وَالهمُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ قَبْلَ العَمَلِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ له بما يَهْوَاهُ فَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ.
فَقَوْلُهُ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ المَلَائِكَةِ وقُرْبُ عِلْمِ الله منه، وهو رَبُّ الَملَائِكَةِ والرُّوحِ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَذَاتُهم أَقْرَبُ إِلَى قَلْبِ العَبْدِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهم أَقْرَبَ إليه مِنْ بَعْضٍ، ولهذا قَالَ فِي تَمَامِ الآيةِ: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17، 18].
وَهَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]، فَقَوْلُهُ ﴿ لَدَيْهِمْ ﴾ ظَرْفٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، حِينَ يَتَلَقَّى الُمتَلَقِّيَانِ، ما يَقُولُ: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17]، ثُمَّ قَالَ: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]؛ أَيْ شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ.
فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنِ الَملَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، و« هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ »، فهذا إِنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّه ( قَرِيبٌ ) مِنَ العِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذلك بَعْضِ الأَحْوَالِ، وَقَدْ قَالَ فِي الحَدِيثِ: « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ».
خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ 1- القرب أثناء السجود:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، وَالُمرَادُ القُرْبُ مِنَ الدَّاعِي فِي سُجُودِهِ، كَمَا قَالَ: « وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجِابَ لَكُمْ»، فَأَمَر بِالاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ مَعَ قُرْبِ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ.
وَقَدْ أَمَرَ الُمصَلِّيَ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رِبِّيَ الأَعْلَى»؛ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: « وذلك أَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ الخُضُوعِ والذُّلِّ مِنَ العَبْدِ، وَغَايَةُ تَسْفيلِهِ وَتَوَاضُعِهِ بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِيهِ للهِ، وَهُوَ وَجْهُهُ، بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ.
فَنَاسَبَ فَي غَايَةِ سُفُولِهِ أَنْ يَصِفَ رَبَّه بأَنَّهُ الأَعْلَى.
وَالأَعْلَى أَبْلَغُ مِنَ الْعَلِيِّ فَإِنَّ العَبْدَ ليس له مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ، هو باعْتِبَارِ نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَلَيْسَ له مِنَ الكِبْرِيَاءِ والعَظَمَةِ نَصِيبٌ.
وَكَذَلِكَ فِي العُلُوِّ فِي الأَرْضِ لَيْسَ للعبدِ فيه حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ يُرِيدُ العُلُوَّ فِي الأَرْضِ كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ.
وَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيَحْصُلُ لَهُ العُلُوُّ بالإِيمَانِ، لا بإرَادَتِهِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 138، 139].
2- كُلَّمَا كَمَّلَ العَبْدُ مَرَاتِبَ العُبُودِيَّةِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الله تَعَالَى:
فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ غَايَةَ سُفُولِ العَبْدِ وَخُضُوعِهِ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّه الأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ الأَعْلَى، وَالعَبْدُ الأَسْفَلُ، كَمَا أَنَّه الرَّبُّ، والعَبْدَ العَبدُ، وهو الغَنِيُّ، والعَبْدُ الفَقِيرُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالعَبْدِ إِلَّا مَحْضُ العُبُودِيَّةِ، فَكُلَّمَا كَمَّلَها قَرُبَ العَبْدُ إليه؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَرٌّ، جَوَادٌ مُحْسِنٌ، يُعْطِي العَبْدَ مَا يُنَاسِبُه، فَكُلَّمَا عَظُمَ فَقْرُه إِلَيْهِ كَانَ أَغْنَى، وَكُلَّمَا عَظُمَ ذَلَّه لَهُ كَانَ أَعَزَّ، فَإِنَّ النَّفْسَ لِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَائِهَا الُمتَنَوِّعَةِ وتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهَا تَبْعُدُ عَنِ الله حَتَّى تَصِيرَ مَلْعُونَهً بَعِيدَةً مِنَ الرَّحْمَةِ، واللَّعْنَةُ هي: البُعْدُ، ومِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِهَا إرَادَةِ العُلُوِّ فِي الأَرْضِ، والسُّجُودُ فيه غَايَةُ سُفُولِها، قَالَ تَعَالِى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
وَفِي الصَّحِيحُ: « لَا يَدْخُلُ الجَنَّةُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ».
وَقَالَ لِإبْلِيسَ: ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 13].
وَقَالَ: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، فَهَذَا وَصْفٌ لَهَا ثَابِتٌ، لَكِنْ مَنْ أَرَادَ أنْ يُعْلِيَ غَيْرَها جُوهِدَ، وَقَالَ: « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله »، وَ« كَلِمَةُ الله »: هي خَبَرُهُ وَأَمْرُه، فَيَكُونُ أَمْرُه مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِه، وَخَبَرُه مُصَدَّقٌ عَلَى خَبْرِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾: هو العِبَادَةُ والطَّاعَةُ والذُّلُّ ونحو ذلك، يُقَالُ: دِنْتُهُ فَدان: أَيْ: ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ ».
3- شَرْحُ حَدِيثِ « مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا... »:
ثُمَّ قَالَ: « وَقَوْلُهُ « وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »، فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الآخَرِ منه، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمُ مِنْ قُرْبِ الأَوَّلِ، وَيَكُونُ مِنْه أيضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ، فَالأَوَّلُ: كَمَنْ تَقَرَّبَ إلى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الكَعْبَةِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ، وَالثَّانِي: كَقُرْبِ الإِنْسَانِ إِلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هو إليه كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الأَثَرِ الإِلَهِي، فَتَقَرُّبُ العَبْدِ إِلَى الله وَتَقرِيبُه لَهُ نَطَقَتْ به نُصوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57].
﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الواقعة: 88]، ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 28]، ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 172].
﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45].
« وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاء ما افْتَرَضْتُهُ عليه » الحَدِيث.
وفي الحديثِ: « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ ».
وَقَدْ بَسَطْنا الكَلَامَ على هذه الأحَادِيثِ ومَقَالاتِ النَّاسِ فِي هَذَا المَعْنَى في (جَوَابِ الأَسْئِلَةِ الَمصْرِيَّةِ عَلَى الفُتْيَا الحَمَوِيَّةِ ) فهذا قُرْبُ الرَّبِّ نِفسِهِ إِلَى عَبْدِه، وهو مِثْلُ نُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وفي الحديثِ الصحيحِ: « إِنَّ اللهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ » الحديث، فهذا القُرْبُ كُلُّه خَاصٌّ، وليس في الكِتَابِ والسُّنَّةِ قَطْ قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ، فَعُلِمَ بذلك بُطْلَانُ قَوْلِ الحُلُولِيَّةِ، فإنَّهم عَمَدُوا إلى الخَاصِّ الُمقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا جَعَلَ إِخْوَانُهم الإِتِّحَادِيَّةُ ذلك في مِثْلِ قَوْلِهِ: « كُنْتُ سَمْعَهُ »، وفي قوله: « فَيَأْتِيهِمْ في صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ »، وأَنَّ اللهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبيهِ: « سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ».
وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عليهم، فإذا فُصِّلَ تَبَيَّنَ ذَلِكَ، فالدَّاعِي والسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلى الله، والرُّوحُ لها عُرُوجٌ يُنَاسِبُها، فَتَقْرُبُ مِنَ الله تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِها مِنَ الشَّوَائِبِ، فَيَكُونُ اللهُ تعالى مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِها، وَيَكُونُ منه قُرْبٌ آخَرُ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وفي جُوْفِ الليلِ، وإلى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ القُرْبَ نَعْتُه، ليس هو مُجَرَّدَ ما يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِ الدَّاعِي والسَّاجِدِ، وَدُنُوُّه عَشِيَّةَ عَرَفَةَ هُوَ لِمَا يَفْعَلُهُ الحَاجُّ لَيْلَتَئِذٍ مِنَ الدُّعَاءِ، والذِّكْرِ، والتَّوْبَةِ، وِإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أنَّ أَحَدًا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَحْصُلْ منه سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الدُّنُوُّ إليهم، فإِنَّهُ يُبَاهِي الَملَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّه ليس هناك أَحَدٌ لَمْ يَحْصُلْ، فَدَلَّ ذَلك عَلَى تَقَرُّبِهم إِلَيْهِ بِسبَبِ قُرْبِهِ مِنْهُمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الآخَرُ.
والنَّاسُ في آخِرِ الليلِ يَكُونُ في قُلُوبِهِم مِنَ التَّوَجُّهِ والتَّقَرُّبِ والرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الوَقْتِ، وهذا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وقَوْلِهِ: « هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ ».
ثُمَّ إِنَّ هَذَا النُّزُولَ هل هو كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مُعَلَّقٌ بِأَفْعَالٍ؟ فَإِنَّ فِي بِلَادِ الكُفْرِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ فلا يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا النُّزُولُ، كَمَا أَنَّ دُنُوَّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الحُجَّاجِ في سَائِرِ البِلَادِ، إِذْ لَيْسَ لهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ، ولا مُبَاهَاةُ الَملَائِكَةِ، وكَمَا أَنَّ تَفْتيحَ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ، وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ إِنَّما هُوَ للمُسْلِمِينَ الذين يَصُومُونَهُ، لا الكُفَّارِ الَّذِينَ لا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً.
وَكَذَلِكَ اطَّلَاعُهُ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَقَوْلِهِ لَهم: « اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ » كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِك أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ ليس هذا مَوْضِعَهُ.
وَالكَلَامُ فِي هَذَا القُرْبِ مِنْ جِنْسِ الكَلَامِ في نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَدُنُوِّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهُ: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 8]، وَقَدْ بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الَموْضِعِ..[23].
[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: « ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ».
[2] َروَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم »، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.
[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ ».
وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً ».
[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ ».
ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ في مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه ».
[5] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: « فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ ».
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ دَعَا إلى هُدَىً كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا ».
[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ »، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.
[7] لسان العرب (1/ 662)، والمفردات (ص: 663)، واشتقاق أسماء الله (ص: 146).
[8] تفسير ابن كثير (3/ 296).
[9] صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (2/ 77) (361)، قال الألباني: « لا يصح في صفة الكرسي غير هذا الحديث »، انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 223) (109).
[10] مختصر العلو (ص: 264).
[11] مجموع الفتاوى (5/ 502)، (6/ 19)، والقواعد المثلى لابن عثيمين (ص: 65).
[12] النهج الأسمى (2/ 299-316).
[13] جامع البيان (2/ 92).
[14] المصدر السابق (12/ 38).
[15] المصدر السابق (22/ 72).
[16] اشتقاق أسماء الله (ص: 146-147)، وانظر تفصيل القول فيما ذكره في آخر كلامه في آثار الإيمان بهذا الاسم.
[17] شأن الدعاء (ص: 102-103).
[18] النونية (2/ 229).
[19] تيسير الكريم (5/ 304).
[20] صحيح: سبق تخريجه.
[21] مجموع الفتاوى (5/ 465-467).
[22] وهذا باطل كما ترى، وهو ما يسمى بالحلول والاتحاد.
[23] مجموع الفتاوى (5/ 227-242) باختصار.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|