عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 03-03-2024, 05:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,353
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (13)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث الثالث عشر من الأدلة على مشروعية الوقف، وعلى تأكيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذه السنة، وتوجيهه لصحابته وأمته من بعده، دلالة على فضلها وأثرها على الفرد والمجتمع.
الحديث الثالث عشر:
وقف النبي صلى الله عليه وسلم لابن السبيل
عن عمرو بن الحارث قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة»1.
بوّب البخاري هذا الحديث في: «باب الوصايا»، وأهل العلم عدُّوه من الأدلة التي يستدل بها على مشروعية الوقف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حبس بنفسه أرضاً تخصه لمنفعة ابن السبيل. قال في تلك الأرض ابن حجر في الفتح: «إنه تصدق لمنفعة الأرض، فصار حكمها حكم الوقف». قال النووي: «الأرض التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك فقد سبلها في حياته ونجز الصدقة بها على المسلمين»2.
قال ابن حجر في الفتح: «قوله ولا عبداً، ولا أمةً» أي في الرق، وفيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إما مات و إما أُعتقه»3. وقالت عائشة رضي الله عنها: «تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة بثلاثين صاعاً من شعير»4. وبوب ابن كثير في البداية والنهاية: «باب بيان أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شاة ولا بعيراً ولا شيئاً يُورث عنه: بل أرضاً جعلها كلها صدقة لله - عزَّ وجلَّ –»5.
وقد حرص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بنفسه، ففي مغازي الواقدي أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق التي أوصى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم »6.
وخصص وقفه صلى الله عليه وسلم ، لابن السبيل، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «السبيل: الطريق، وابن السبيل أي: المسافر، وسمي بابن السبيل؛ لأنه ملازم للطريق، والملازم للشيء قد يضاف إليه بوصف البنوة، كما يقولون: ابن الماء، لطير الماء، فعلى هذا يكون المراد بابن السبيل المسافر الملازم للسفر، والمراد المسافر الذي انقطع به السفر أي نفدت نفقته، فليس معه ما يوصله إلى بلده7.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث جابياً وخازناً للأموال، إنما بعث هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً؛ وهذا هو شأن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر»8. وقال [ «لا نورث ما تركنا فهو صدقة»9. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: «ما ترك رسول اللَّه دينارًا ولا درهَمًا ولا شاةً وَلا بَعيرًا وَلا أوصى بشيءٍ» 10.
فالأنبياء لا يورثون كما يورث غيرهم, ولهذا قال ابن عباس: وإنما ترك ما بين الدفتين يعني القرآن. وميراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب والسنة؛ ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ولم يترك درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمة ولا بعيراً ولا شاة ولا شيئاً، إلا بغلته وأرضا جعلها صدقة لابن السبيل. هكذا كان النبي عليه السلام، لم يكن همه الدنيا، بل كان همه الآخرة, وكانت همته لإرشاد الناس ودعوتهم إلى الصلاح, لم يجمع الدنيا وحطام الدنيا, ولم تدر بخلده عليه الصلاة والسلام، ولم يبال بها ولم يلتفت إليها، بل كان يأخذ الدنيا ويصرفها , ويأتيه المال العظيم فلا يقوم إلا وقد أنفقه كله.
والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة له، فهي تابعة له، والمقصود الأعظم كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} 11.
وهذه الآية من أعظم آي الرجاء، لما فيها من توريث هذه الأمّة لهذا الكتاب، ولما وهب من الفضل الكبير والجزاء الحسن يوم الحساب، فقد بيّن تعالى أنّ إيراث هذه الأمّة لهذا الكتاب دليل على أنّ الله اصطفاها واختارها على من سواها.
فالأنبياء - عليهم السلام - لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها، وإنما خلقوا للآخرة يدعون إليها ويرغبون فيها، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نورث، ما تركناه صدقة»، وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، لما سئل عن ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر عنه بذلك، ووافقه على نقله عنه - عليه السلام - غير واحد من الصحابة، فمنهم عمر وعثمان وعلي والعباس وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم12.
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك، فعن سليمان بن مهران: بينما ابن مسعود رضي الله عنه يوما معه نفر من أصحابه إذ مر أعرابي فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه « على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسمونه». فميراث النبي - صلى الله عليه وسلم – الحقيقي الذي ورثه هو الدين؛ هو العلم الذي أخذه عنه الصحابة، ومن بعدهم التابعون ثم الأمة من بعد، فهذا الميراث ما زالت الأمة تنهل منه حتى يأتي أمر الله.
ومرَّ أبوهريرة بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراثُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم – يُقسَّم، ولا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هؤلاء؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً, ووقف أبوهريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: وما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئاً يُقسَّم، فقال لهم أبوهريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً ؛ قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤأون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبوهريرة - رضي الله عنه -: ذلك ميراث محمد13.
وقد يلتبس على بعضهم ورود أحاديث كثيرة ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء، وعبيد، وخيول، وإبل، وغنم، وسلاح، وبغلة، وثياب، وأثاث، وخاتم، وغير ذلك - في كتب السنن - فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته مع ما خصه الله به من الأرضين من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين، ولم يخلف من ذلك شيئا يورث عنه.
وللحديث دروس وفوائد وعبر كثيرة: ففيه دلالة على مشروعية الوقف، فهو نظام إسلامي شرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وفيه أن الوقف سنة قائمة عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه الصحابة والتابعون والمسلمون من بعدهم.
وفيه دلالة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لجمع الأموال وإنما بعثوا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ولهذا لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وفيه دلالة على زهد النبي صلى الله عليه وسلم ، في الدنيا وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالراكب الذي استظل تحت شجرة ثم راح وتركها؛ وهو صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا في زهده وتواضعه ورغبته عن الدنيا وزينتها.
وفيه أن يختار الوقف الذي يحقق نفعاً أكثر في زمنه، فابن السبيل كان في غاية الحاجة لأن يرعى وتوفر له الحاجات الضرورية وسبل الخير كثيرة؛ لذا ينبغي على المسلم أن يقدم بعض ما في يده لمستقبله، ويبني آخرته بما يجد من دنياه، بأن يوقف شيئاً يعود أجره عليه بعد وفاته، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك لم ينس نصيبه من الوقف، فأوقف أرضاً لتكون له ذخراً عند ربه في يوم لقائه، وكان ذلك دافعاً للصحابة لأن يوقفوا الأوقاف التي تنوعت وتعددت مجالاتها لتكون أكثر نفعاً في مجتمعهم.
فالوقف من أعظم صور الإنفاق، وأكثرها أجرا وأعمها نفعا, فالواقف أكثر الناس انتفاعا بالوقف؛ لأنه يخلف عليه في الدنيا أضعافا، وبعد موته يسري له الأجر وهو في قبره، فالوقف صدقة جارية، فيها نفع للأحياء، ورحمة للأموات. وفضل من الله على عباده أن تجري لهم الحسنات في دنياهم وأخراهم.

الهوامش
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 2739.
2 - المنهاج في شرح صحيح مسلم، ص 1039.
3 - فتح الباري، (6/669).
4 - أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النَّبيّ والقميص في الحرب، برقم (2916).
5 - البداية والنهاية (3/247).
6 - فتح الباري، (7/18)
7 - أنظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، (6/244).
8 - أخرجه الترمذي في سننه، برقم: 2682، وفي صحيح ابن ماجه، برقم 183.
9 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 3711.
10 - أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي، برقم: 1653.
11 - سورة فاطر، الآية 32.
12 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، السعودية، ط2، 1420هـ/ 1999م، (1/ 57).
13 - صحيح الترغيب والترهيب، برقم 83.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.73%)]