عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 26-02-2024, 10:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,647
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات ودروس من سورة البقرة




6- ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57].

7- ثم خصص الله لهم أرضًا مباركةً يدخلوها ليحكموا فيها ويصبحوا سادتها؛ لكن هذا التخصيص كان مشفوعًا بأمر إلهي بسيط جدًّا؛ وهو أن يدخلوها "سُجَّدًا"، ويقولوا "حِطَّة "؛ أي: ربنا حط عنا خطايانا، ما طلب منهم الله عز وجل إلا السجود والاستغفار، فما كان إلا أن قوبلت هذه النعمة بعصيان الأمر والتكبُّر على السجود لخالقهم، وإعراضهم عن الاستغفار بتبديل اللفظ استهتارًا واستهزاءً، نفسية فاسدة، شيطانية! قال البخاري: حدثني محمد، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قيل لبني إسرائيل: ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا: حطة: حبة في شعرة، فكان العقاب: ﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة: 59] والرجز هو العذاب، وقيل الطاعون.

8- نعمة العيون الاثني عشر:ثم إن موسى استسقى لقومه، طلب من الله أن يفجر لهم ماء في طريقهم، فكان له ذلك بمعجزة ضرب العصا أيضًا، فجَّر لهم الله اثنتي عشرة عينًا على عدد أسباطهم إمعانًا في الإنعام عليهم، فينتظمون في مشاربهم ولا يختلفون ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60]، ما أكرمك من إله سبحانك! لقد كفاهم الله جل وعلا مؤونة المأكل باللحم والحلواء "المن والسلوى"، والمشرب بتفجير العيون، فكيف قابل هؤلاء القوم نِعَم ربِّهم عليهم؟! قوبلت هذه النِّعَم بالبطر والازدراء؛ بل وبطلب استبدالها بما هو دونها من الطعام، فطلبوا الفوم والعدس والبصل، وانظر إلى الوقاحة في الخطاب: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا [البقرة: 61]، وكأنهم حتى تلك اللحظة لم يعترفوا بالله ربًّا لهم؛ بل هو ربُّ موسى فحسب!


فكان العقاب: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 61]، فكانت الذلة والصغار ملازمة لهم إلى يوم يبعثون، مشفوعة بغضب الله وسخطه، وهنا يذكر سببًا آخر لوجوب الذلة والمسكنة اصطبغت به مسيرتهم القادمة بعد التيه ووفاة موسى عليه السلام؛ ألا وهي قتل الأنبياء بغير الحق!


رفع الطور وأخذ الميثاق: هنا يذكِّر الله بني إسرائيل بالميثاق الذي أخذه عليهم بعد أن أنجاهم من مصنع العذاب الذي كانوا يعيشون فيه، وكان الميثاق أن يؤمنوا به وحده لا شريك له ويتَّبعوا رُسُلَه، أمرهم أن يمتثلوا لهذا الميثاق ويأخذوه بقوة وحزم وهمة؛ لكنهم امتنعوا عن الطاعة، فرفع عليهم الجبل، فلما نظروا إليه وقد غشيهم، سقطوا سُجَّدًا وأخذوا العهد؛ لكنهم تولَّوا بعد ذلك ونقضوا العهد؛ هم قوم أدمنوا نقض العهود.

ثانيًا: التذكير بأبرز قصتين في تاريخ القوم، تضيآن أهم ملامح الشخصية اليهودية: قصة أصحاب السبت، وقصة البقرة.
ويبدأ السياق بقصة أصحاب السبت.


أصحاب السبت: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65، 66].


يأتي السياق في سورة البقرة على قصة أصحاب السبت، في إشارة سريعة، نجدها مبسوطة في سورة الأعراف إن شاء الله؛ لكن هذه الإشارة- على إيجازها- تُلخِّص ما كان من أمر القوم من خداع وعصيان، وما حَلَّ بهم من عقوبة، وكيف جعلها الله عبرةً للناس في زمانهم ولمن خلفهم.


اعتدوا في السبت؛ أي: عصوا أمر الله، واتبعوا أسلوب الحيلة والخداع مع ربِّهم، مع من؟ مع ربهم!


فكانت معصيتهم مخادعة خالقهم الله جل في علاه، فاستحقوا أشد عقوبة نزلت عليهم في تاريخهم: مسخوا قردة! ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة: 65].


فكانوا عبرةً للناس من حولهم ومن بعدهم إلى يوم الدين، ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 66]، هذه القصة كما كل قصص بني إسرائيل يرويها لنا القرآن لا للاستمتاع بها؛ بل للاتعاظ، فنحن المقصودون بالعبرة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلْفَهَا.


وكم منا اليوم أصحاب السبت ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!

ثم قصة البقرة، هذه القصة وردت في القرآن الكريم مرة واحدة فقط وفي هذا السياق ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 67- 71].

وتفصيل قصة البقرة له دلالة في التركيز على صفات العناد والمماحكة والتشديد والتعنُّت التي يتصف بها هؤلاء القوم، ناهيك عن الاستكبار على تطبيق الأمر الإلهي دون جدل، قوم لا يمكن أن يصل لهم أمر من الله ويطبقونه فقط؛ لأنه أمر الله أبدًا.

كان الأمر بكل بساطة: "اذبحوا بقرة"، فجاء الجواب: ما هي؟ كم عمرها؟ ما لونها؟ ما صفاتها؟ ما شأنها؟

فكانت معصيتهم الجدال، والمماحكة في أمر الله.

ومع "بعضٍ" من هذه البقرة كانت معجزة إحياء القتيل الذي قُتِل فيهم ولم يُعرَف قاتله، ليتكلم فيقول: من قتله ثم يعود فيموت، ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 72، 73].

يقول ابن كثير في تفسيره: عن ابن عباس، قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه- يعني القتيل- بعِضْو منها، فقام تشخب أوداجه دمًا، فسألوه، فقالوا له: مَنْ قتلك؟ قال: قتلني فلان.

ونبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل: جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلًا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56]،وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة"؛ انتهى ابن كثير.


وبعد كل هذا، وعِوَضًا عن أن تستكين نفوسُهم وتخشع قلوبُهم لخالقهم وربِّهم ومجري المعجزات أمامهم المعجزة تِلْوَ الأخرى، ظلوا على نهجهم في ممارسة الندِّيَّة لأوامر الله عز وجل، يقول الله ونقول نحن، فكان أن أورثوا قسوة القلب وأي قسوة!


﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74].

انظروا إلى تشبيه القسوة هذه، قسوة صمَّاء تمامًا، تمامًا لا يوجد فيها ثغرة خير واحدة، فإن كان في الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، فهم ليسوا كتلك الحجارة هم أشد قسوة، وإن كان منها ما يشقق فيخرج منه الماء - وهو في هذا أقل من سابقه - فهم أشدُّ قسوة، حتى الحجارة التي تسقط من خشية الله لا يشبهونها، هم أشدُّ قسوة من الأحجار بكل أشكالها، قلوب صمَّاء.

يا الله، ما هذه الجِبِلَّة؟!

وكما هي كل قصص بني إسرائيل في القرآن الكريم، تنطوي هذه الآيات على درس وعبرة لأمة الإسلام، ألَّا يسيروا على خُطى القوم فيورثوا قسوة القلب، فيكون فيه هلاكهم، هذه القسوة التي حذَّرنا الله منها في سورة الحديد، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].

ومع الأسف نجد اليوم أن شياطين الإنس من بني يهود،قد نجحوا في جعل فريق كبير من أمتنا يمتهن هذه المعصية: الجدال والمماحكة في أوامر الله حتى وصل الأمر بالبعضإلى الإنكار التام! ولله الأمر من قبل ومن بعد.


ثالثًا: تعامل اليهود مع كتاب الله الذي أنزل عليهم والرسالة التي اختصَّهم اللهُ بها.

التحريف بعد العلم والفقه:
بعد أن بيَّن اللهُ عز وجل صفات القسوة التي أضحى عليها القوم بالرغم من كل ما رأوه من آيات ومعجزات تخترق كل النواميس والسنن الكونية، فلا يقدر على إجرائها إلا الواحد القَهَّار، شرع السياق في التوضيح للمؤمنين حقيقة هؤلاء القوم ويبين لهم من أخبارهم في التعامل مع رسالة الله وكتابه الذي أنزله عليهم، التوراة، ما خفي عنهم حتى إنهم ظنوا أنهم سيستمعون لهم ويؤمنون بما آمنوا به من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم جلَّ في عُلاه: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].


هم قوم يسمعون كلام الله، ويعقلونه ويفهمونه من كل جوانبه وبكل جزئياته حتى يتمثله عقلهم ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ باحترافية شيطانية".


وقد خرج في الأمة في يومنا هذا من سار على نهج بني إسرائيل في التحريف بعد العقل والفهم؛ نعم.. لقد كانت العقود الأخيرة زمن "نجوميتهم" بامتياز!


المخادعة: الظاهر والباطن.. السر والعلن ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76].


فالكتاب عندهم ليس لإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ بل للتلاعب بمن حولهم، ومنَّا من يفعل ذلك جهارًا نهارًا!

كتمان العلم المنزل من عند الله ﴿ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 76].

سوء تقديرهم لقدرة الله في معرفة ما يسرُّون وما يعلنون: ﴿ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة: 77].


اشتغال الأميُّون منهم بالكتاب بالظن والأماني ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة: 78]، من بني إسرائيل أميُّون لا يجدون القراءة والكتابة، ومع ذلك يتكلمون في التوراة ويجادلون فيها بغير علم وإنما ظنًّا وكذبًا، وما تتمنَّاه أنفسهم.


"عن ابن جريج عن مجاهد: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ﴾ قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أماني يتمنونها".


وإن كان هؤلاء أميين، فبين ظهرانينا "عالمون" ويتكلمون في الكتاب ظنًّا وكذبًا وأماني!


يكتبون الكتاب بأيديهم: ومنهم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، فيدخلون عليه ويخرجون منه، وقد شابههم اليوم فريق من الأمة، امتهنوا هذه المعصية، لكن باحتراف وإتقان، دخلوا على كتاب الله من باب الحداثة والعصرنة، وأن لكل عصر سمته وحاجاته، وأن عصرنا لم يعد يحتاج إلى كثير مما ورد في القرآن الكريم، فكان أن أبطلوا أحكامًا واستبدلوا أخرى، وأحلوا حرامًا وحرموا حلالًا، والسبب؟ متاع الحياة الدنيا، الهوى، المال، الجاه، باعوا الدين ليشتروا الدنيا، وعقاب هؤلاء عظيم: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ[البقرة: 79].


هناك وجه آخر درج في الآونة الأخيرة يندرج تحت كتابة الكتاب بأيديهم، وهو تفسير الآيات على غير ما هي عليه، ظنًّا منهم أنهم يخدمون الإسلام برفض حقيقة الآيات التي يخجلون بها أمام من يتهمون الإسلام، وما دروا أن الإسلام عزيز بنهج الله وقرآنه.


وكم منا من يحرم ويحلل ويزيد وينقص من الكتاب عن طريق التأويل والتحريف والإنكار والإثبات بما يمليه عليه الهوى!


وقفة مع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني إسرائيل:
الميثاق الأول: العبادات والمعاملات السلوكية:
التوحيد ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 83].
الإحسان للوالدين.

الإحسان لذِي القربى واليتامى والمساكين.

﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83].


إقامة الصلاة.


إيتاء الزكاة.



فكانت الاستجابة لهذا الميثاق بأن تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، إلا قليلًا منهم ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].


الميثاق الثاني، ويتضمن شطرين: الأول في الوحدة وعدم الاقتتال، والثاني عدم المظاهرة، وتحريم إخراج بعضهم بعضًا من بيوتهم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [البقرة: 84].

وهذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة؛ لكنهم كانوا يخالفونه حتى مدة قريبة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كانوا قد أقرُّوه وقبلوه وعاهدوا الله عليه، ومدار هذا التذكير الإلهي لهم، كما ورد في سبب نزول الآية في تفسير ابن كثير:
أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكان يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل يهودًا مثله من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، مع أن هذا فعلٌ مُحرَّم في دينهم، ثم إذا وضعت الحرب أوزارَها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملًا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85].

﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].

فكانت منهم المعصية معصيتان: نقض المواثيق، و"الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه"!


وكان العقاب: ﴿ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].

ومدار هذا الميثاق أن أهل المِلَّة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

وأقرب ما يكون إلى هذا الميثاق عندنا ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ، التَّقْوى ههُنا – وأشارَ إلى صدْرِهِ – بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ: دمُهُ، ومالُهُ، وعِرضُهُ".

ونحن اليوم يظلم بعضُنا بعضًا، ويخذل بعضُنا بعضًا، ويسلم بعضنا بعضًا، ويخون بعضُنا بعضًا، ويحقر بعضُنا بعضًا، وكثير منا لا يعترف بحرمة دم ولا مال ولا عرض أخيه المسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

إن حب الدنيا واللهاث وراءها وكأنها دار خلود، هو أصل كل المعاصي والخروج عن صراط الحق إلى سبل الشيطان وطرق الباطل، شراء الدنيا بالآخرة، رأس المعصية أن يبيع الإنسان دينه وعقيدته في سبيل متاع الدنيا الفاني الزائل المنقضي.

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ [البقرة: 86] وعقابهم:﴿ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ[البقرة: 86] غفرانك اللهم.
يتبع.

[1] https://al-maktaba.org/book/31871/4223#p14




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.84 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]