عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24-02-2024, 09:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,489
الدولة : Egypt
افتراضي منهجية صلاح الدين الأيوبي في التغيير.. دروسٌ وعِبَر

منهجية صلاح الدين الأيوبي في التغيير.. دروسٌ وعِبَر (1من 2)



صلاح الدين الأيوبي شخصيَّة فريدة أحبها المسلمون جيلاً بعد جيل لسيرته العطرة وجهاده في سبيل الله تعالى ومسارعته في نُصرة المسلمين وتحرير بلادهم ومقدساتهم (القدس الشريف 1187م) وحمايتهم من الأخطار الخارجيَّة.
وكثيرٌ من المؤرخين العرب والمسلمين في العصر الحديث عندما ينظرون في سيرة البطل صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله - يقفزون إلى مرحلة الجهاد العسكري الذي قاده وأصحابه لتحرير بيت المقدس، وينْسون الجهاد الآخر الذي كان مُقدِّمةً لهذا الفتح العظيم؛ ألا وهو الجهاد التربوي الذي خاضه ضد الدولة العبيدية التي احتلت مصر حينًا من الزمن بالقوة والطغيان، حيث استطاع – رحمه الله – بجهاده التربوي العلمي أن يحقق انتصارات قد لا تتحقق بالمعارك والقتال، وتَمَكن من تغيير واقع المجتمع المصري والقضاء على الدولة العبيدية التي حكمت مصر قرابة ثلاثة قرون؛ حيث واجه الفكر بالفكر، والتربية بالتربية، وقضى على كل الضلالات الفكرية والثقافية والتربوية التي نخرت في جسد المجتمع المصري سنوات طوالا.
ومع الأسف أنَّ هؤلاء المؤرخين يستثيرون المشاعر لندب صلاح الدين والتباكي على غيابه وانتظار قائد مثله، وبذلك يضعون المسلمين أمام خطوة مستحيلة من العمل؛ لأنَّ الخطوة الممكنة- الآن- هي العودة للجماهير الإسلاميَّة لإرشادها وتوجيهها وتربيتها على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمَّة؛ فإذا نجحوا في ذلك، أصبحت الخطوة التالية ممكنة، وهي إخراج أمَّة مسلمة موحدة صافية العقيدة قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق الغايات، وإذا نجحوا في تحقيق ذلك أصبحت الخطوة الأخيرة ممكنة وهي الجهاد العسكري إن كان الواقع يتطلب هذا الجهاد.
وهذا ما فعله البطل صلاح الدين – رحمه الله – حيث استطاع أنْ يربِّي جيلاً وأمَّة على كتاب الله وسنة رسوله [، وقد كانت هذه التربيَّة هي المقدمة لفتح بيت المقدس وتطهيره من دنس الصليبيين؛ فالإنسان الذي ربَّاه صلاح الدين حين تسلمه الحكم في مصر سنة (567 هـ ) بالكُتَّاب والمدارس والمعاهد الشرعيَّة اتخذه قائدًا وجنديًا قويًا لفتح بيت المقدس.
لذلك فإنَّ هذه التجربة تجربة فريدة ومَعْلمٌ مهم على طريق التغيير المنشود، ولابد أن تكون هذه التجربة نبراسًا لنا نستلهم منها العبر والعظات وهذا هو منهج القرآن في التربية، قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب}، فالأمَّة في حاجة شديدة للعودة إلى الماضي للتعرف على هويتها بعد الضياع في متاهات التغريب والعلمانية والليبرالية، وعملية العودة هذه قامت بها أوروبا حين كانت غائبة اجتماعيًّا في مجتمعات الإقطاع والدوقيات والملك المطلق، فلما أحسَّت بالمدِّ الإسلاميِّ يدقُّ أبوابها من الشرق والجنوب ومن البرِّ والبحر، سارت لتحتمي بالتراث اليوناني – الروماني – المسيحي؛ فنحن أولى بذلك منهم لأن تراثنا مليء وزاخر بالتجارب والنماذج الفذة والمضيئة التي نسترشد بها في هذه الظلمات.
وعندما نقف على تجربة صلاح الدين – رحمه الله- نجد أنَّ أهم ما يميز هذه التجربة أنها تجربة متكاملة استطاع فيها أن يغير واقع المجتمع المصري بأكمله بعدما استشرى الفساد في جميع مناحي الحياة سواء في الناحية الاجتماعيَّة أو السياسيَّة أو الفكريَّة أو الدينيَّة، في مرحلة تشبه تمامًا تلك المرحلة التي تعيشها مصر في الوقت الراهن.
والوقوف على هذه التجربة بأكملها ودراستها دراسة متأنية أمرٌ يطول بحثه، وليس هذا مقامه؛ لذلك سنلقي الضوء على جانب من أهم الجوانب المؤثرة في عملية التغيير التي قادها صلاح الدين – رحمه الله - في مصر ألا وهو الجانب التربوي والفكري الذي كان الأساس الذي اعتمد عليه صلاح الدين في تغيير المجتمع بأسره وإعادة تشكيله وصياغة عقيدته من جديد.
وهي رسالة نوجهها لكافة الفصائل والحركات الإسلامية وخاصَّة بعد أن صرفت معظم تلك الحركات وعلى رأسها الحركات السلفيَّة وجهتها إلى السياسة بوصفه باباً يعتقدون أنه من أوسع أبواب التغيير - كما يظنون- ولا شكَّ أنَّ هذا مطلوب وهو ما تفرضه طبيعة المرحلة فوجود حزب إسلامي بضوابطه الشرعيَّة أصبح ضرورة شرعيَّة تقتضيها المصلحة العامَّة كما قرر علماؤنا، وخاصَّةً بعد أن انقلبت الأمور رأسًا على عقب وأذلَّ الله فيها الظالمين، وتنسَّم الناس نسائم الحريَّة بعد طول غياب.
ولكننا في الوقت نفسه لا نريد أن ينشغل أهل الحق بهذا الصراع وهذه الحرب الضروس الدائرة رحاها بين أهل السياسة عن الميدان الحقيقي للتغيير، الذي طالما دعا إليه علماء أهل السنة وصرفوا جُلَّ جهودهم وإمكاناتهم إليه، ألا وهو ميدان العلم وتربية الناس على المنهج الصحيح - منهج أهل السنة والجماعة - وتطهير المجتمع من البدع والضلالات والخرافات التي نخرت في جسده سنوات طوالا.
وبفضل الله فإنَّ هناك فئة من المؤمنين الموحدين والعلماء الصادقين لم تشغلهم هذه الحرب الضروس عن هذا الهدف النبيل الذي أنفقوا فيه أوقاتهم وأفنواْ فيه أعمارهم، وسنقف إن شاء الله على بعض من هذه النماذج العمليَّة بعد استعراض تجربة صلاح الدين – رحمه الله – في الأعداد القادمة إن شاء الله، ومنها على سبيل المثال: معهد شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الذي يشرف عليه فضيلة الشيخ المحدث/ أبي إسحق الحويني – حفظه الله- ومعهد نور التوحيد الذي يشرف عليه فضيلة الشيخ الدكتور: عبد العظيم بن بدوي الخلفي – حفظه الله – المشرف العام على مجلة التوحيد.
وقبل أن نخوض في هذه التجربة الفذَّة ونستوضح معالمها وخطواتها لابدَّ أن نقف على أهم الفوائد والمضامين التربويَّة لها حتى يستشعر القارئ أهميَّة هذه التجربة وأثرها في التغيير على أرض الواقع والتي من أهمها:
أولاً: الانطلاق من الـمسجد بوصفه قاعدة أساسية للتغيير:
كان المسجد هو المحور المهم والأساس في جميع أشكال الحياة؛ إذ كانت المساجد أماكن للعبادة والقضاء والتدريس ومأوى لابن السبيل والغرباء، ومن هذا المرتكز انطلق صلاح الدين – رحمه الله – متخذًا المسجد مؤسسة تربويَّة تؤدي دورها المهم في عمليَّة التغيير.
ثانيًا: الاهتمام بالنشء وإيجاد البيئات التربوية الـمناسبة لتنشئتهم:
فقد اهتم صلاح الدين بالصغار ولأهميتهم في المجتمع الإسلامي عمل على بناء الكتاتيب والمدارس الشرعية لهم؛ حيث أيقن أنَّ هذه المؤسسات التربويَّة هي الأساس في عملية التغيير.
ثالثًا: التدرج في التغيير:
اعتمد صلاح الدين طريق الترفق والتدرج في التغيير الفكري الذي ارتآه؛ لأنَّ الجفاء في الإنكار على المخالفين من المسلمين المتلبسين ببعض البدع دون لُطفٍ أو تَرَفُّق، أو اعتبار للمآل والثمرات، يُعمِّق الجرح ويوسع الشرخ، دون أن يصلح الخلل أو يحقق المصلحة المرجوة.
رابعًا: الاتزان في منهجيَّة التغيير:
حيث واجه صلاح الدين – رحمه الله - الفكر المخالف بفكر منافس، وواجه المؤامرات العسكريَّة بسيف صارم؛ إدراكًا منه أنَّ الفكر يواجَه بقوة الفكر، والجُرم يواجَه بقوة القانون، وليس من العدل أن يتم إزهاق نفس بسبب تبنيها فهمًا مغايرًا للإسلام.
خامسا: العمل الجاد وعدم الاستغراق في الخلاف:
كان صلاح الدين رجل عمل لا جدل، مدركًا أنَّ الاستغراق في أمور الخلاف والوقوف عندها طويلاً استنزاف للذات، فعمل على استنقاذ الأمَّة من حالة الطوارئ التي تعيشها، بالعمل الإيجابي في ساحة الحرب وفي ساحة الفكر، ولم يستنزف جهده في أمور الخلاف والجدل النظري.
وبهذه الرؤية الحكيمة، والروح النبيلة سجَّل صلاح الدين الأيوبي اسمه في سجل الخالدين، قائدًا رحيمًا بأبناء أمته، حريصًا عليهم، يسعى لإصلاح فقههم وفكرهم، كما يسعى لتحرير بلادهم وتقديم روحه فداء لأرواحهم، وغيَّر وجه مصر دون أن يجر المجتمع المسلم إلى حرب استنزاف داخليه بين طوائفه ولم ينشغل بالخلافات، وسنرى في الحلقة القادمة إن شاء الله بالتفصيل منهجيَّة صلاح الدين – رحمه الله – في تغيير المناخ الفكري والفقهي السائد بطريقة مترفقة هادئة من خلال التربية الشاملة دون مواجهة أو ضوضاء. وللحديث بقية إن شاء الله.


اعداد: وائل عبدالغفار




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.89 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.92%)]