عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27-12-2023, 07:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي حافظوا على أوقاتكم فكل يوم يمضي يقربكم إلى قبوركم

حافظوا على أوقاتكم فكل يوم يمضي يقربكم إلى قبوركم
يحيى بن حسن حترش

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
معاشر المسلمين، والمسلمات،أُوصي نفسي وإياكم بتقوى الله جل وعلا وأن نقدم لأنفسنا أعمالًا تبيض وجوهنا يوم نلقى الله: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

أيها المسلمون عباد الله،يدور الزمان دورته، وتسير الأيام، وتنسلخ الشهور، وتمر الأعوام، ولا يدري الإنسان ما الله عز وجل قاضٍ فيه، يومٌ يمضي ولا يعود، ويومٌ يقبل فينبغي أن يغتنم، ما من يومٍ يمر على ابن آدم إلا وهو ينادي: يا بن آدم أنا يومٌ جديد، وعلى عملك شهيد فاغتنمني، فإذا غربت شمسي فلا أعود إلى يوم القيامة.

دعونا نقف في هذا اليوم وقفةً تذكيرية، ونتكلم عن مادة حياتنا وأعمارنا، نتكلم عن أوقاتنا، وأهميتها، وأين نحن منها، نتكلم عن الوقت وذهاب بركته، وعن سرعة مروره وانصرامه.

ونستهل حديثنا بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي رواه الإمام الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان»[1].

ومعنى تقارب الزمان، فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة - أي: كالأسبوع - وتكون الجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، وتكون الساعة كقدر احتراق السعفة»[2]؛ أي: كقدر احتراق ورقة النخيل.

صلى الله على الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فلقد -والله- وقعت هذه العلامة.

ألا تلاحظون يا عباد الله؟ ألا تلاحظون كيف تنسلخ الشهور والأعوام ولا يشعر الإنسان ببركتها؟! كيف نصوم رمضان ونكمله، ولا نشعر إلا ونحن ننتظر رمضان آخر!

ألا تلاحظون أسماء الشهور في أوراق التقاويم كيف تمر سريعًا، وأصبح الواحد يقلبها كأنها أسابيع من سرعة انسلاخ أيامها؟!

ألا تلاحظون وأنتم تسمعون إلى خطبة الجمعة، كيف يمر الأسبوع وما يشعر الإنسان إلا وهو يفاجأ بيوم الخميس، والخطيب ما إن يرتاح من إعداد خطبته إلا وهو يستعد لإعداد خطبة أخرى؟!

ألا تلاحظون أن الموظف أو صاحب العمل بمجرد أن يخرج إلى عمله، وما إن يفتح أوراقه، ويبدأ بعمله إلا وقد سمع أذان الظهر، المرأة تتناول إفطارها، ثم تدخل مطبخها لتعد وجبة الغداء، فما تشعر إلا والمؤذن يؤذن الله أكبر، أذن المؤذن لصلاة الظهر، الأسبوع كأنه يوم، واليوم كأنه ساعة فلماذا، فلماذا هذا التقارب؟ لماذا هذا التقارب المذهل؟ للعلماء فيه عدة أقوالٍ.

ولابد أن نعلم أولًا أن الساعة هي الساعة، والشهر هو الشهر بعدد أيامه وساعاته، فلماذا تنسلخ الأيام والشهور ولا نشعر ببركتها كما كنا نستشعر أيامها، وساعاتها؟ أهم هذه الأقوال التي يستريح لها القلب، وتطمئن إليها النفس: هو نزع البركة من الأوقات؛ أي: إن البركة تنزع من الأوقات، وما السبب في ذلك؟ السبب في ذلك هو الذنوب التي هي دمارٌ للشعوب، وما يحصل لها من كروب، قال أصدق القائلين سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

السماء، والأرض مليئتان بالبركات، والنعم، والخيرات، لكن الذنوب هي التي تمحق بركتها، الذنوب هي التي تمحق بركة الحياة، وبركة الأوقات.

الواحد منا يريد أن يصل رحمه فلا يجد بركة في الوقت، يريد أن يقيم الليل لكنه لا يجد بركةً في الوقت، يريد أن يجمع بين الوظيفة والعلم والدعوة؛ فلا يجد بركةً في الوقت، تريد المرأة أن تربي أولادها، وتقوم بحق زوجها، وما افترضه الله عليها؛ فلا تجد بركةً في الوقت، وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان».

ولأهمية هذا الموضوع، وخطورته على حياة الإنسان، كان لزامًا علينا أن نتحدث أمام إخواننا في هذا اليوم المبارك، عن الوقت وأهميته، واستغلال لحظاته، وساعاته.

فأقول في مطلع حديثي عن هذا الموضوع العظيم: ما قاله ابن القيم رحمه الله قال: «وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، وهو يمرمر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم، والبطالة، فموت هذا خيرٌ له من حياته»[3]، نسأل الله أن يجعل حياتنا عامرة بذكره وشكره، ونسأله من فضله وجوده وكرمه!

ولبيان أهمية الوقت، فقد أقسم الله به في مطالع سورٍ عديدة في كتابه العزيز؛ كما في قوله: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [الليل: 1، 2]، وقوله: ﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ [الفجر: 1]، ﴿ وَالضُّحَى ﴾ [الضحى: 1]، ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ [العصر: 1]، إلى غير ذلك من الآيات.

ومن المعروف لدى المفسرين، وفي حس المسلمين أن العظيم لا يقسم إلا بعظيم؛ ليتنبه العباد لعظمته، ومنفعته.

ولقد أكَّد لنا حبيبنا عليه الصلاة والسلام قيمة الوقت، وأخبر أننا سنسأل عنه بين يدي الله عز وجل، فقال - فيما صح عنه -: «لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه»[4].

وذكر سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: مواقف للإنسان يندم فيها على ضياع وقته؛ حيث لا ينفع الندم؛ يقول سبحانه في كتابه الكريم: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، ويقول سبحانه: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر:22- 24].

ويقول - سبحانه وتعالى-: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾ [المؤمنون: 112، 113].

إن الوقت - يا عباد الله - هو الحياة، ومعرفة أهميته هو معرفةٌ لأهمية الحياة، وقيمتها، ومن لا يعرف أهمية الوقت، عاش ميتًا، وإن كان يتنفس على وجه الأرض، وهذا هو سرُّ قول الكافرين عندما سألهم رب العالمين:
﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾ [المؤمنون: 112]، فأجابوا إجابة من لم يعش في حياته إلا يومًا، أو بعض يوم، لماذا؟ لأنهم لم يهتموا بأوقاتهم، فأحسوا بقصر أعمارهم.


إن وقتَك هو حياتك يا عبد الله، إن وقتك يا بن الإسلام هو حياتك، وهو عمرك الذي تعيش فيه، وهو أنفس ما تملكه في هذه الحياة، وما مضى منه لا يعود، ولا يعوض.

إن وقتك وحياتك يا عبد الله يذهب عليك سريعًا، فاغتنمه واملأ أيامه، وساعاته بما يقربك إلى الله.

إن الليالي للأنام مراحلٌ
تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلةٌ
وطوالهن مع السرور قصار


إن وقتك يذهب عليك سريعًا؛ فاجعله شاهدًا لك، لا عليك، ومن جهل قيمة وقته الآن، ومن مرت عليه الساعات والأيام، ولا يحسب لها حسابًا أو يجعل لها أي اهتمام، فسيأتي عليه يومٌ يعرف فيه قدر تلك الأيام، ونفاستها.

فلذلك أدرك العقلاء قيمة أوقاتهم، وعلموا أنه مادة حياتهم، فكانوا بأيامه يعمرون مساكنهم في جنات ربهم، وهذه بعض أخبارهم فاسمعوها، وعوها؛ لتكون مجلاةً للقلوب من الصدأ والكسل، ومدعاةً لتحريك الهمة في الجد والعمل؛ يقول الحسن البصري رحمه الله: «لقد أدركت أقوامًا، كان أحدهم أحرص على وقته منه على درهمه».

نعم كانوا يحرصون على أوقاتهم أكثر مما يحرصون على دراهمهم، وأموالهم، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما ندمت على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي».

وكان بعضهم يقول: «مراعاة الأوقات من علامات التيقظ».

فإذا رأيت من نفسك - يا عبد الله - أنك حريصٌ على وقتك، وأنك تتحسر على الساعات عندما تمر عليك، وما فعلت فيها شيئًا ينفعك، فهذا يدل على أنك يقظ على وقتك، وحياتك، وأن الله يريد بك خيرًا.

وقال الحسن البصري رحمه الله: «من علامات إعراض الله عن العبد: أن يجعل شغله فيما لا ينفعه، خذلانًا له منه سبحانه وتعالى»، وكان رحمه الله يقول: «يا بن آدم، إنما أنت أيام، فإذا مضى يومٌ فقد ذهب بعضك»[5]، وقال

رحمه الله: « يا بن آدم، نهارك ضيفك، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمك، وكذلك ليلتك».


وقال ابن هبيرة - شيخ ابن الجوزي رحمه الله -:
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه
وأراه أسرع ما عليك يضيع




وقال النحوي ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: «إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة، ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت في حال راحتي»[6].

سبحان الله، حتى فكره ما جعله عاطلًا عن العمل، لا غرابة من هذا الإمام؛ فهو صاحب كتاب (الفنون) أكبر كتاب في التاريخ الذي يتكون من سبعمائة مجلد.

هؤلاء هم الأحياء وإن كانوا قد ماتوا، ومرت مئات السنوات على موتهم، لكن ذكرهم لن يموت، والذكر للإنسان عمرٌ ثانٍ، وشتان شتان بين أقوامٍ موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين قوم أحياء تموت القلوب بمخالطتهم رحمهم الله، عرفوا قيمة الوقت، والهدف في هذه الحياة، فبارك الله في أعمارهم الذين تعمروها، ونفع الله بهم وأحيا ذكرهم بأعمالهم واغتنام أوقاتهم.

فنجد الواحد منهم وعمره بين الخمسين، والستين، ومع ذلك فتح الله عليه، وأجرى على يديه ما لا يجري على كثيرٍ ممن تعمر الثمانين، والتسعين، وأكثر من ذلك وأكثر، وقد قيل: رُبَّ عمرٍ طالت آماده وقلَّت أمداده، ورُبَّ عمرٍ قلَّت آماده وكثُرت أمداده.

يقول ابن الجوزي رحمه الله في - صيد الخاطر- عندما كان يأتي إليه بعض فارغي النفوس والعقول، قال: «فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر؛ فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكرٍ، وحضور قلب، فأرصدتها في أوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيءٌ من وقتي!»[7].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]