عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 25-10-2023, 07:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي هنيئا للغني الشاكر والفقير الصابر



هنيئا للغني الشاكر والفقير الصابر

محمود الدوسري

قَدْ يَكُونُ صَبْرُ الْغَنِيِّ أَكْمَلَ مِنْ صَبْرِ الْفَقِيرِ، كَمَا قَدْ يَكُونُ شُكْرُ الْفَقِيرِ أَكْمَلَ مِنْ شُكْرِ الْغَنِيِّ؛ فَلَيْسَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا بِالْغِنَى وَلَا بِالْفَقْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْأَعْمَالِ، فَأَفْضَلُهُمَا أَعْظَمُهُمَا شُكْرًا وَصَبْرًا
  • التصنيفات: - آفاق الشريعة -
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَيُقَدِّرُهُ: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرَّعْدِ: 26]، {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النَّحْلِ: 71]؛ فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ يَكُونُ فَقِيرًا وَيَسْتَصْحِبُ هَذِهِ الْحَالَ حَتَّى مَوْتِهِ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ غَنِيًّا وَيَبْقَى غَنِيًّا إِلَى أَنْ يُفَارِقَ الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ: مَنْ تَبَدَّلُ أَحْوَالُهُ مِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى، وَمِنْهُمْ: مَنْ تَبَدَّلُ أَحْوَالُهُ بِالْعَكْسِ مِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الْقَصَصِ:68].

فَهَنِيئًا لِكُلِّ فَقِيرٍ صَابِرٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْغِنَى مَعَ الشُّكْرِ أَفْضَلَ مِنَ التَّقَلُّلِ مَعَ الصَّبْرِ لَاخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَلَأَمَرَهُ رَبُّهُ تَعَالَى أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهُ؛ كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ زِيَادَةَ الْعِلْمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ؛ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ؛ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» (صَحِيحٌ – رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْتَارَ إِلَّا مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَخْتَارَ لَهُ إِلَّا الْأَفْضَلَ؛ إِذْ كَانَ أَفْضَلَ خَلْقِهِ وَأَكْمَلَهُمْ.

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ خَيْرَ الرِّزْقِ مَا كَانَ بِقَدْرِ كِفَايَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ فِيهِ السَّلَامَةَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالدُّنْيَا، وَاخْتَارَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ التَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا، فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى عَلَى أَصْحَابِهِ الْفَقْرَ: وَإِنَّمَا كَانَ يَخْشَى أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا فَيَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسَهَا مَنْ قَبْلَهُمْ، فَتُهْلِكَهُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ، وَلَمَّا مَرَّ عَلَى فَقِيرٍ وَغَنِيٍّ؛ فَضَّلَ الْفَقِيرَ عَلَى الْغَنِيِّ: عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا» ؟» قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ يَسْبِقُ الْأَغْنِيَاءَ إِلَى الْجَنَّةِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ؛ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ» (صَحِيحٌ – رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ). وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ؛ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَهَنِيئًا -أَيْضًا- لِكُلِّ غَنِيٍّ شَاكِرٍ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ لَا يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِهَا إِلَّا بِالْأَمْوَالِ الصَّالِحَةِ؛ كَالزَّكَاةِ، وَإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ، وَفَكِّ الرِّقَابِ، وَالْإِطْعَامِ فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَالْجِهَادِ الَّذِي فِيهِ حِفْظُ أَدْيَانِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرَاضِيهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَقِوَامُهُ بِالْمَالِ؛ لِذَلِكَ قَدَّمَ اللَّهُ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ، إِلَّا مَوْضِعًا وَاحِدًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التَّوْبَةِ: 111].

وَأَيْنَ يَقَعُ صَبْرُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْفَقْرِ؛ إِلَى شُكْرِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمَالِ، وَشِرَائِهِ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ وَإِعْتَاقِهِمْ، وَإِنْفَاقِهِ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ – حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَقَالَ أَيْضًا: «مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ؛ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ» (صَحِيحٌ – رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ). وَأَيْنَ يَقَعُ صَبْرُ أَهْلِ الصُّفَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ مِنْ إِنْفَاقِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ كَتَجْهِيزِهِ لِجَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَشِرَائِهِ بِئْرَ رُومِيَّةَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» (حَسَنٌ – رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

وَثَنَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُنْفِقِينَ أَضْعَافُ الثَّنَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الصَّابِرِينَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ؛ وَفَسَّرَ الْعُلْيَا بِالْمُنْفِقَةِ، وَالسُّفْلَى بِالسَّائِلَةِ، وَالْأَغْنِيَاءُ الشَّاكِرُونَ سَبَبٌ لِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَلَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ أُجُورِ الْفُقَرَاءِ زِيَادَةً إِلَى نَصِيبِهِمْ مِنْ أَجْرِ الْإِنْفَاقِ، وَطَاعَتِهِمُ الَّتِي تَخُصُّهُمْ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» (صَحِيحٌ – رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

وَالْمَالُ نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ: 60]، قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنَ الْمَالِ مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، ‌وَصُرِفَ ‌فِي ‌غَيْرِ حَقِّهِ، وَاسْتَعْبَدَ صَاحِبَهُ، وَمَلَكَ قَلْبَهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَالذَّمُّ لِلْجَاعِلِ لَا لِلْمَجْعُولِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، فَذَمَّ عَبْدَهُمَا دُونَهُمَا).

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْأَغْنِيَاءَ -وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ مَرَاتِبَ– أَرْزَاقُهُمْ مُقَدَّرَةٌ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا» صَحِيحٌ – رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَالْمُسْلِمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؛ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَفِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» (صَحِيحٌ – رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

هُنَا سُؤَالٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؛ أَنْ يَخْتَارَ الْمُسْلِمُ الْكَفَافَ فِي الْعَيْشِ؟ أَوْ يَخْتَارَ الْغِنَى؟ أَوْ يَخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ؟

الْجَوَابُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَمِنْهُمْ: مَنِ اخْتَارَ الْمَالَ؛ لِلْجِهَادِ بِهِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَصِرْفِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ؛ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَغْنِيَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِنْهُمْ: مَنِ اخْتَارَ التَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا؛ كَأَبِي ذَرٍّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إِلَى آفَاتِ الدُّنْيَا وَخَشُوا الْفِتْنَةَ بِهَا، وَأُولَئِكَ نَظَرُوا إِلَى مَصَالِحِ الْإِنْفَاقِ وَثَمَرَاتِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَفَرِيقٌ ثَالِثٌ: لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا؛ بَلْ كَانَ اخْتِيَارُهُ مَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَالْفَقِيرِ الصَّابِرِ مُحْتَاجٌ إِلَى الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (قَدْ يَكُونُ صَبْرُ الْغَنِيِّ أَكْمَلَ مِنْ صَبْرِ الْفَقِيرِ، كَمَا قَدْ يَكُونُ شُكْرُ الْفَقِيرِ أَكْمَلَ مِنْ شُكْرِ الْغَنِيِّ؛ فَلَيْسَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا بِالْغِنَى وَلَا بِالْفَقْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْأَعْمَالِ، فَأَفْضَلُهُمَا أَعْظَمُهُمَا شُكْرًا وَصَبْرًا، فَإِنْ فَضَلَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ فَضَلَ صَاحِبَهُ؛ فَالشُّكْرُ مُسْتَلْزِمٌ لِلصَّبْرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَالصَّبْرُ مُسْتَلْزِمٌ لِلشُّكْرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، فَمَتَى ذَهَبَ الشُّكْرُ ذَهَبَ الصَّبْرُ، وَمَتَى ذَهَبَ الصَّبْرُ ذَهَبَ الشُّكْرُ).

وَعَوْدًا عَلَى ذِي بَدْءٍ: فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْمَالِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} فَالتَّفْضِيلُ فِي "الرِّزْقِ" أَعَمُّ مِنَ التَّفْضِيلِ فِي "الْمَالِ"؛ فَإِنَّ الْمَالَ جُزْءٌ مِنَ الرِّزْقِ، وَلَيْسَ هُوَ كُلَّ الزِّرْقِ؛ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ، بِأَنَّهُمْ {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غَافِرٍ: 40]؛ أَيْ: يُرْزَقُونَ فِيهَا ثَوَابًا كَثِيرًا لَا نَفَادَ لَهُ، بِلَا حَدٍّ وَلَا عَدٍّ، وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ مُتَنَوِّعٌ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ تَعَامُلٌ بِأَمْوَالٍ، وَإِنَّمَا النَّعِيمُ – بَعْدَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى – بِمِقْدَارِ الْحَسَنَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ.

وَالرِّزْقُ يَعُمُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ؛ فَالرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا: يَكُونُ مَالًا، وَزَوْجَةً، وَأَوْلَادًا، وَصِحَّةً وَعَافِيَةً، وَحُسْنَ خَلْقٍ وَخُلُقٍ، وَإِيمَانًا وَاسْتِقَامَةً، وَطُمَأْنِينَةً وَرِضًا، وَذَكَاءً وَزَكَاءً، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَنَجَاحًا كَثِيرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الرِّزْقُ فِي الْآخِرَةِ: فَيَبْدَأُ مِنْ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَمُرُورًا بِنَعِيمِ الْقَبْرِ، وَالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ فِي الْمَحْشَرِ، وَالْعُبُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، إِلَى الْخُلُودِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ وَهِيَ مِائَةُ دَرَجَةٍ – لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِيهَا رِزْقُهُ الْمُقَدَّرُ - وَأَعْلَاهَا الْفِرْدَوْسُ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ.

فَلَا يَشْغَلَنَّكَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ - التَّفْكِيرُ فِي الْمَالِ كَثِيرًا عَنْ تَدَبُّرِ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ رِزْقٍ عَظِيمٍ.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.58%)]